تُدقّق الحكومة التونسية في مآل القروض والهبات التي تحصلت عليها الدولة التونسية إبّان ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، وسط اتهامات وجهها رئيس الدولة قيس سعيّد، إلى الحكومات المتعاقبة بتوجيه بعض القروض والهبات إلى جيوب بعض المسؤولين.
ظهر رئيس الجمهورية في تصريحات عدة يتّهم خلالها بعض الأطراف بسرقة أموال الدولة، متسائلاً عن مآل القروض والهبات التي حصلت عليها تونس إلى أن شُكّلت في شباط/ فبراير الماضي، لجنة للتدقيق الشامل في ذلك.
بمناسبة يوم العلم في آب/ أغسطس الماضي، تطرّق سعيّد، إلى ملف القروض والهبات، قائلاً: "بعد التدقيق الذي تقوم به الدولة هذه الأيام، سيتم الكشف عن الأطراف التي استفادت من بعض الهبات"، وأضاف: "بعض الهبات والقروض التي تحصلت عليها تونس ذهبت في جيوب من تعلمون ومن لا تعلمون".
تقرير يسوده الظلام
تواجه عملية التدقيق في القروض والهبات انتقادات لاذعةً من المجتمع المدني، وبعض الأحزاب المعارضة التي دعت إلى نشر التقرير النهائي والمفصّل حول التصرّف في القروض ومآلاتها.
في هذا الخصوص، قال رئيس مرصد الشفافية والحوكمة الرشيدة، العربي الباجي، إن محتوى التقرير ظلّ يسوده الظلام لأنّه لم يُنشر إلى حدّ الآن، داعياً مصالح رئاسة الجمهورية أو القضاء أو اللجنة المكلّفة في وزارة المالية إلى إفشاء محتوى التقرير للرأي العالم والمجتمع المدني والإعلام.
وأكّد الباجي، لرصيف22، ضرورة أن تكون العملية الرقابية شفافةً بما يمليه القانون ويعود بالنفع على الدولة والشعب التونسي. كما أفاد بأنّ هنالك بعض الأخبار حول إخلال شابَ عملية صرف بعض القروض والهبات، لكن تبقى فقط مجرّد أنباء لا نعرف مدى صحتها، وننتظر تأكيداً لذلك وأدلّةً عليه.
من اختلاسات نسيم شمامة إلى الثورة التونسية، ومرورا بنظام بن علي وقبله فساد مصطفى خزندار في القرن التاسع عشر، عانت تونس من سرقات للمال العام أدت بها إلى أزمات سياسية خانقة
في السياق ذاته، بيّن الباجي أنّ الدولة التونسية اقترضت بين 2011 و2021، نحو 31.7 مليار دينار كقروض خارجية بالإضافة إلى 10.8 فائدة عن هذا الدين ليبلغ إجمالي القروض التي تحصلت عليها الدولة الداخلية والخارجية منذ 2011، نحو 56.5 مليار دينار، مشيراً إلى أنّ هذا الرّقم ضخم مقارنةً بالإنجازات والتحسينات التي قدّمتها الحكومات المتتالية، والتي تكاد تكون غير موجودة، بل إنّ الوضع تأزّم أكثر ممّا كان.
وقال المتحدث إنّ العشرية الأخيرة عرفت تفشياً لافتاً للفساد بين المسؤولين، على عكس عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، عندما كان الفساد محتكراً من قبل عائلة واحدة.
نهب 60 مليار دولار
طوال المئة وخمسين سنةً الماضية، عرفت البلاد التونسية عمليات نهب عدة لخزينة الدولة، خلال حقب زمنية مختلفة، ممّا ساهم في إضعاف الدولة وخضوعها للاستعمار، وكذلك لضغوط الدول الكبرى والمؤسسات المالية المانحة.حسب منظمة "غلوبال فينينشيال إنتغريتي"، فإن قيمة الأموال المنهوبة من تونس بلغت 60 مليار دولار منذ عام 1960 حتى عام 2011، ثلثها نُهب خلال فترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي.
حسب منظمة "غلوبال فينينشيال إنتغريتي"، فإن قيمة الأموال المنهوبة من تونس بلغت 60 مليار دولار منذ عام 1960 حتى عام 2011
بعد ثورة التونسيين على الرئيس السابق، قدّرت الدولة التونسية الأموال التي نهبها بن علي وأصهاره وأقاربه بنحو 20 مليار دولار، أي ما يُعادل ثلاثة أضعاف ميزانية البلاد التونسية في 2010، ومنذ بروز أصهار بن علي (أشقاء ليلى الطرابلسي)، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، سيطروا على الاقتصاد التونسي وتحكموا في القطاعات الحسّاسة ودخلوا عنوةً في شراكات مع رجال أعمال.
ومنذ الثورة في 2011، سعت الدولة التونسية إلى استرجاع هذه الأموال ونجحت في إقناع الدول الأوروبية بتجميد الأموال الموجودة في بنوكها، لكنّها فشلت في استردادها واستفادت فقط من مبالغ ضئيلة وممتلكات قليلة جداً مقارنةً بالمبالغ الموجودة في الخارج.
سرقات نسيم شمامة
سرقة ممتلكات الدولة التونسية وميزانيتها ليست جديدةً، فقد عرفت تونس سلسلةً من السرقات منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ممّا ساهم في إضعافها وإجبارها على الاقتراض والدخول في تبعية بعض الدول الأوروبية.
في عام 1864، بينما كانت البلاد تشهد اضطرابات وثورةً عارمةً قادها علي بن غذاهم، ضدّ محمد الصادق باي، هرب قائد الطائفة اليهودية وقابض الخزانة العامة نسيم شمامة بكل ما في خزينة الدولة واستقرّ في فرنسا وحصل على جنسيّتها وحمايتها.
نسيم شمامة، حسب كتاب "سيرة مصطفى بن إسماعيل"، لرشاد الإمام، "هو يهودي من العاصمة وُلد سنة 1805، أبوه الربّي شلومو شمامة، عمل في الأول تاجر قماش ثم التحق بين سنة 1852 وسنة 1853 بعدة وظائف في مجالات مالية الدولة، بعدما تولى خطة وكالة خزينة الباي ورئاسة اليهود بالبلاد التونسية سنة 1859".
اكتشفت الدولة التونسية حجم ما نهبه شمامة في وقت متأخّر جدّاً، ممّا أضعف موقفها في مسار استرجاع أموالها، فدخلت في صراعات قضائيّة في محاكم قرنة في إيطاليا
حسب المصدر ذاته، فقد تم تعيين شمامة في 1860، "مديراً لوزارة المالية، وهو المنصب الذي باشره إلى أن ترك البلاد سنة 1864، حاملاً معه من أموال الدولة التي سرقها عشرين مليون فرنك واستقر في باريس ثم قُرْنة (مدينة ليفورنو الإيطالية)، سنة 1871 حتى توفي سنة 1873، بعد أن قُلّد لقب نبيل بمقتضى مرسوم ملكي بفلورنسا".
اكتشفت الدولة التونسية حجم ما نهبه شمامة في وقت متأخّر جدّاً، ممّا أضعف موقفها في مسار استرجاع أموالها، فدخلت في صراعات قضائيّة في محاكم قرنة في إيطاليا في قضية استمرت لأكثر من 10 سنوات لكنّها لم تحصد منها إلا الفُتات، بينما كان هروب شمامة ضربةً قاصمةً للاقتصاد التونسي آنذاك إذ كبلته القروض وعمّق كساده الفساد والجفاف والاضطرابات.
محمود بن عياد
قبل سرقات نسيم شمام، كانت البلاد التونسية قد تعرّضت لأكبر عملية نهب في تاريخها عندما اختلس وزير المالية محمود بن عياد، نحو 60 مليون فرنك في عام 1852، بينما كانت ميزانية الدولة آنذاك تُقدّر بـ10 ملايين فرنك.
كان محمود بن عيّاد مقرّباً جدّاً من المشير أحمد باشا باي، لكنه أغرق البلاد في القروض الأوروبية ثم نهبها كلّها وهرب إلى فرنسا.
يقول الوزير آنذاك والمؤرّخ أحمد بن أبي الضياف، في الجزء الرابع من كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار تونس وعهد الأمان": "ثم ظهر في صحيفة الأخبار في باريس أنّ محمود بن عياد حصلت له حماية الفرنسيس، ويُقال إنّ من القانون الفرنساوي أن ملك داراً بلوازمها بباريس، وسكنها بنيّة الإقامة، وطلب حماية الفرنسيس، فلفرنسا أن تحميه إذا قبله سُلطانها، ولا يخفى أنّ حمايتها من يوم قبول السلطان له لا في ما مضى من أحواله".
كان ذلك صدمةً كبيرةً للباي والدولة حتى أنّ أحمد بن أبي الضياف يقول في كتابه: "صعُب على الوزراء إخبار الباي بذلك، لما يعلمون من محبته وشدّة ميله لمحمود بن عياد، وأنّ سماع هذا الخبر يؤثّر في مزاجه العليل حتى أنّه لم يتجاسر أحد على إخباره بموت ابنه سُليمان".
فساد مصطفى خزندار
في عام 1837، صعد إلى سدّة الحكم في تونس المشير أحمد باي، الذي عيّن مصطفى خزندار في الوزارة الأولى وظلّ في منصبه 36 سنةً حتى عام 1873، وكان الوزير الأكثر نفوذاً خلال القرن التاسع عشر في تونس.
يذكر الوزير والمُصلح خير الدين باشا، في مذكراته، أنّه "عندما تولّى الباي الحالي الأمور، كانت تونس في وضع رخاء وكانت الإدارة العامة مضمونةً، وكانت الثقة في كل مكان ولا تستدعي الأمانة العموميّة المراقبة وكان الشعب مصاناً في شخصه وأملاكه".
ويضيف خير الدين باشا الذي كان صهر خزندار وأحد وزرائه: "عمد مصطفى خزنه دار إلى تخريب البلاد بالكامل، فقد وقع اعتصار السكان ولم يعد هنالك أمن في أيّ مكان وتُصوّر (أخذت) قروض وقحة أثقلت كاهل الدولة بديون كثيرة".
عدّ عبد الستار عمامو، أنّ كل الاتهامات الموجّهة إلى مصطفى خزندار كانت ناتجةً عن سوء تصرّف مثل إنجاز مشاريع فاشلة تسببت في خسائر فادحة للدولة
تابع خير الدين باشا: "كان دوماً لمصطفى خزنه دار الحظ الفريد في تعريض الثروة العموميّة إلى الخطر، وفي نفس الوقت تضخيم ثروته الخاصة وثروة عائلته".
يذكر المؤرخون أن خزندار لم ينهب أمولاً مثل صديقه محمود بن عياد، أو نسيم شمامة، وإنّما عرفت تونس أسوأ فتراتها بسبب فساده وسوء تصرّفه وسماحه بسرقة البلاد في أكثر من مناسبة.
وخلال حكم ثلاثة بايات، أغرق مصطفى خزندار تونس في الديون، وبدد ما يُقدّر بـ300 مليون فرنك خلال ستينيات القرن الـ19، اقترضها من الدول الأوروبية ممّا أخضع البلاد لاتفاق "الكوميسيون المالي"، مع الدول الدائنة.
سرقات عجّلت في احتلال البلاد
قال المؤرّخ عبد الستار عمامو، في تصريح لرصيف22، إنّ أهم السرقات في تاريخ تونس حدثت خلال النصف الثاني من القرن الـ19، وقام بها وزير المالية محمود بن عيّاد وقابض المالية ورئيس الطائفة اليهودية نسيم شمامة.
وأضاف أن السرقات طالت كل ما في الخزينة العامة، ولم تسترجع الدولة التونسية إلا القليل بعد محاكمات تواصلت لنحو 14 عاماً، من أجل استرجاع أموالها، مشيراً إلى أن بن عياد وشمامة هربا إلى فرنسا وتحصّنا بالجنسية الفرنسية.
الفرق بين محمود بن عياد ونسيم شمامة من جهة، ومصطفى خزندار من جهة أخرى، أنّهما اختلسا خزينة الدولة وهربا من البلاد بينما ظل خزندار في البلاد حتى توفي فيها
وأفاد عمامو، بأنّ كل السرقات الكبرى حدثت في عهد الوزير الأكبر مصطفى خزندار، موضّحاً أن مصطفى خزندار لم يهرب من البلاد، لكنه حوكم بسبب الفساد وسوء التصرّف وتم افتكاك كل أمواله ثم أعادت له الدولة جزءاً من أملاكه بحكم مصالحة بين الطرفين.
أضاف المؤرّخ أنّ الفرق بين محمود بن عياد ونسيم شمامة من جهة، ومصطفى خزندار من جهة أخرى، أنّهما اختلسا خزينة الدولة وهربا من البلاد بينما ظل خزندار في البلاد حتى توفي فيها.
كما عدّ عبد الستار عمامو، أنّ كل الاتهامات الموجّهة إلى مصطفى خزندار كانت ناتجةً عن سوء تصرّف مثل إنجاز مشاريع فاشلة تسببت في خسائر فادحة للدولة، مثل إصلاح "سبخة السيجومي" وإنشاء شركة للمياه في عام 1859، أفلست في ما بعد.
وأفاد بأن مصطفى خزندار، كان يعتقد بأهمية الأولياء الصالحين لذلك أنشأ زوايا دينيةً عديدةً في البلاد التونسيّة من أموال خزينة الدولة، مبيّناً أنّ ذلك يُعدّ سوء تصرّف.
وأوضح أنّ العرف آنذاك، هو أن الوزير أو المسؤول عندما ينجح في إقناع بنك أو دولة خارجية في إقراض البلاد، يمكنه الحصول على نسبة من القرض، لذلك كانت العمولات التي تحصل عليها خزندار كبيرةً ومبالغاً فيها.
وختم عمامو حديثه، بأنّ نهب خزينة الدولة من قبل بن عياد وشمامة، وفساد مصطفى خزندار، كلّها عوامل ساهمت بشكل مباشر في كساد الاقتصاد التونسي الذي نتج عنه احتلال البلاد التونسية في 1881، من قبل الفرنسيين، وهو المسار الذي استمر بعد الاستقلال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...