شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"اعذروني لساني زفر"... كيف تحوّل ضغوط الحياة الشخص المهذب إلى شتّام؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن وحرية التعبير

الخميس 25 مايو 202312:58 م

يبدو أن المقولة العربية: "لسانك حصانك، إن صنته صانك"، لم تعد مناسبةً لكمّ الضغوط النفسية والاجتماعية، وحالة التردي الاقتصادي والسياسي، التي تعانيها معظم الشعوب العربية.

في الواقع، أضحت المقاهي والشوارع المزدحمة والمواصلات العامة ومواقع التواصل الاجتماعي ساحةً للشتم واللعن وإطلاق الألفاظ الخادشة للحياء -من دون حياء- ولا فرق هنا بين طفل أو شاب/ ة أو رجل سبعيني. الجميع يتبارون ويتفننون في صياغة عبارات بذيئة، تمنح مطلقها إحساساً بالنشوة والارتياح، في ظل تعقيدات الحياة وضغوطها المستمرة، بين زحام وفقر وغلاء أسعار وكبت سياسي وانشغال الناس في صراع يومي من أجل البقاء.

الشتائم تهدّئ الأعصاب

"هناك نقطة يكون من الأفضل فيها قول Fuck You، بدلاً من ضرب شخص ما" (تيموثي جاي).

في دراسة بعنوان "تأثير السباب في تعزيز قوة وقدرة الإنسان"، أكد الكاتب ريتشارد ستيفنز، أن إطلاق الشتائم يهدّئ أعصاب الشخص الغاضب ويمنح القدرة على تحمل الألم، كما كشف عالم النفس السويدي نيلس إيك، أن الكلمات البذيئة تساعد في إبراز المشاعر والأحاسيس.

"هناك نقطة يكون من الأفضل فيها قول Fuck You، بدلاً من ضرب شخص ما"

وفي كتابها "الهراء المقدس... تاريخ موجز للشتيمة"، تناولت الكاتبة ميلسا مور، العلاقة بين الشتم والصدق منذ العام 2017، وبعض الشتائم تثبت أن الأشخاص الذين يشتمون هم أكثر نزاهةً وصدقاً من غيرهم، فيما تشكك دراسات أخرى في ذلك.

الظروف دفعتني للَعن الجميع

"اعذروني لساني زفر بسبب سخافات الرجل واستغلالي في العمل"؛ هذا ما قالته رحاب سعيد (اسم مستعار)، وهي محامية تقيم في حي فيصل في الجيزة.

وتحدثت سعيد عن كيفية وقوعها في فخ الشتائم: "أصبت بمتلازمة 'اللسان الزفر' بسبب ضغوط نفسية واجتماعية أعيش تحت وطأتها، فأنا امرأة مطلقة ولم أنجح في تكوين أسرة، وكذلك بسبب استغلالي في العمل وسرقة مجهودي مقابل راتب هزيل، بالإضافة إلى المعاناة اليومية من سخافات بعض الرجال الذين يرون المطلقة امرأةً مستباحةً، والحل هو إطلاق وابل من الكلمات البذيئة في وجه كل من يتجاوز مساحتي الشخصية".

"والله يا ولدي أنا من 10 سنين كانت العيبة متخرجش من بُقي، بس الكبت والضغوط خلتني مش قادر أمسك لساني، أهو كلام طالع بيفش الغل بدل ما نموت فطيس وكمان علينا ديون"

وأضافت رحاب (42 عاماً)، لرصيف22: "إحنا في مصر خلاص مش فارقة معانا لا صورتنا قدام الناس ولا من يحزنون. كنت أنتظر صديقتي أمام أحد مراكز خدمة التلفون المحمول في حي الدقي، وعلى بعد بضعة أمتار مني، وقف شاب ثلاثيني، سمعت حديثه مع رجل في عمر والده، وكان يقول: 'جيلنا من اللي شافه أدمن الشتيمة والكلام السافل، ومعدناش مهتمين حد يفهمنا صح ولا خايفين حد يفهمنا غلط'".

رد الرجل الستيني: "والله يا ولدي أنا من 10 سنين كانت العيبة متخرجش من بُقي، بس الكبت والضغوط خلتني مش قادر أمسك لساني، أهو كلام طالع بيفش الغل بدل ما نموت فطيس وكمان علينا ديون".

بدوره، قال أحمد، وهو شاب ثلاثيني يعمل سائق ميكروباص: "أنا أحمل شهادةً جامعيةً ولكن اضطررت إلى العمل سائق ميكروباص، بعد فشلي في الحصول على وظيفة أفضل، والحقيقة أنه في بداية نزولي الموقف كنت عفيف اللسان وأعامل الجميع بأدب، لكن الأمر الآن أصبح صعباً، أعيش أحداثاً ومشاهد يوميةً تدفعني للتطاول ولعن الجميع".

وأضاف: "أنا في صراع يومي من أجل لقمة العيش، واللسان الطويل بينهي مشكلات وبيجنبني حوارات كتير. مصاريف البيت والعيال والمدارس والغلا بتخلي الواحد مش طايق نفسه، والزبون اللي مش هيريحني هنزله، خصوصاً النوع اللي بيحب يوعظ ويقولي لا تسب ولا تلعن، هو مش دريان بيا ولا عارف أنا حاسس بإيه".

من جهته، قال يوسف محمد، أستاذ اللغة العربية وهو في بداية عقده الرابع، ويقيم في حي المنيب جنوب الجيزة: "والله الواحد اليومين دول لو بطل شتايم ينفجر، كنت شخص شديد الهدوء وللأسف كلما تقدم بي العمر كنت أواجه العديد من الصدمات والظلم، فتبدلت طبيعتي واكتشفت أن التعبير عن الغضب جيّد للصحة، الحقيقة أشعر بالراحة والهدوء النفسي عندما أكيل الشتائم للآخرين، لكني حريص على عدم سبّ الدين".

وأضاف وعلى وجهه ابتسامة ساخرة: "يا جدعان أمسك لساني إزاي بس في اللي إحنا عيشينه ده؟ المرتب مش مكمل 3 آلاف جنيه، وعندي 3 أولاد، وكيس الرز سعره 40 جنيه، وقزازة الزيت بـ50، وكرتونة البيض بأكتر من 100 جنيه، واللحمة بـ300 جنيه... حرام بجد".

وعن صورته أمام الآخرين، قال لرصيف22: "مفيش صورة أساساً، لم يعد يهمني الآخر، لا أريد أن أكون قدوةً لأحد، بداخلي عداء وعدوانية تجاه المجتمع، لن يشعر بها سوى المطحونين أمثالي".

وكشفت نورا مصطفى، أنها صُدمت عندما سمعت زوجها يستخدم ألفاظاً نابيةً مع بعض زملائه في العمل: "كنت أرى سلوكه مبرراً نتيجة ما يمر به من ضغوط وغلاء في المعيشة، خصوصاً أنه يحرص بشدة على عدم استخدام هذه الألفاظ أمام أولادنا".

أسباب "متلازمة اللسان الزفر"

في تفسيره لهذا السلوك، أوضح أستاذ علم الاجتماع سعيد صادق، أن صمت المجتمع تجاه الشتّامين، يدفع الشخص المهذب إلى الردّ بسباب مضاد كنوع من الدفاع عن النفس بعد فشل القانون والمجتمع في حمايته، كاشفاً أن من يتحكم في سلوك الإنسان، الأسرة والمدرسة والإعلام والدين والقانون: "للأسف جميعهم يعانون حالة خلل، فيلجأ الشخص السوي إلى السباب المضاد"، على حدّ قوله.

ورأى صادق أن السباب مقبول في أوساط معينة ومرفوض في أوساط أخرى، منوهاً بأن هناك صورةً نمطيةً مفادها أن الرجل يشتم أكثر من المرأة: "العقاب ورد الفعل تجاه المرأة السبابة يكون أكثر وضوحاً ولفتاً للإنتباه لأنها تخالف الصورة النمطية للمرأة الخجولة بطبيعتها".

"لم يعد يهمني الآخر، لا أريد أن أكون قدوةً لأحد، بداخلي عداء وعدوانية تجاه المجتمع، لن يشعر بها سوى المطحونين أمثالي"

بدورها، رأت نيفين محمد (لايف كوتش)، أن الانفجار الكبير لبركان الشتائم والألفاظ النابية في المجتمع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي يعود إلى حالة الضغط المستمر التي يعيشها الكثير من الناس، وعادةً يتم اللجوء إلى الألفاظ النابية للتعبير عن الغضب والإحباط.

وأكدت نيفين أن هذا السلوك يساعد على تخفيف التوتر النفسي والضغوط، ولكن بشكل مؤقت: "الشتائم منبعها عدم الثقة بالنفس ومن الأفضل أن يكون تفريغ الغضب بممارسة الرياضة، وخصوصاً لعبة الملاكمة".

ونصحت نيفين محمد، بأن يأخذ المرء شهيقاً وزفيراً 10 مرات حتى يشعر بالهدوء، وعليه أن يدرب نفسه على التفكير قبل التفوه بأي كلمة.

مسّ من الشيطان

في حديثه إلى رصيف22، كشف استشاري الصحة النفسية الدكتور وليد هندي، أن استخدام الألفاظ النابية يُعرف بمتلازمة توريت، وهي مسألة قديمة جداً، وأول مرة تم فيها الحديث عنها كانت في القرن الخامس عشر، وكان بطل القصة أحد الكهنة، ووقتها شاع أنه أصيب بمس من الشيطان، ولم يتم التعرف على هذه المتلازمة بشكل علمي مقنن وإدراجها في قواميس الطب النفسي الحديث والمعاصر إلا في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، عندما صدرت النسخة المحدثة من الكتاب التشخيصي للطب النفسي والإحصاء.

وتابع هندي: "سُمّيت بمتلازمة توريت نسبةً إلى جورج جيل توريت، الطبيب الذي نشر 9 حالات سنة 1985، وهي في الغالب عبارة عن اضطراب جيني وراثي ولا يكون لها اختبارات تحددها، وغالباً ما يتم تشخيصها بشكل مغلوط، ويتم الخلط بينها وبين التوحد ونوبات الصرع والغدة الدرقية وبعض المشكلات العصبية والنفسية".

وأوضح وليد أن من أشهر من أصيبوا بهذه المتلازمة الأديب الإنكليزي الشهير صامويل جونسون، والموسيقي العالمي العظيم موزار، "وهي تظهر على شكل حركات عصبية لا إرادية غالباً تصاحبها متلازمات صوتية مستمرة متكررة، مثل هز الأكتاف والسعال أو العطس، مع نوع من شهيق النفس في الأنف والحلق، وهو ما يُعرف بالشخرة، والمصاب بها قد يصاب أحد أطفاله بنسبة 50%، ويصاب بها الذكور أكثر من الإناث، وبرغم أنها جينية، قد تكون لها أسباب نفسية وبيئية، كالإصابة بالأمراض المعدية، والإصابة بأمراض المناعة، وقد تكون لها علاقة بمرض الوسواس القهري والضغوط العائلية والمجتمعية".

الانفجار الكبير لبركان الشتائم والألفاظ النابية في المجتمع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي يعود إلى حالة الضغط المستمر التي يعيشها الكثير من الناس

وأكد استشاري الصحة النفسية أن تشخيص هذه المتلازمة يبدأ فى مرحلة الطفولة: "هي شائعة الظهور من 5 إلى 7 سنوات، وتشتد في عمر 8 إلى 12 سنةً، وتنخفض في سن المراهقة، وتكون بسيطةً جداً عند كبار السن، ومن ضمن تشخيصها البذاءة، والنطق تلقائياً ببعض الألفاظ الخارجة وغير المرغوبة، وهذا يظهر في 10% من الحالات".

وعن كيفية معرفة أنها متلازمة توريت، وليست وسواساً قهرياً، قال هندي: "عندما يكرر الشخص الكلمة مرتين فهو مصاب بمتلازمة توريت، أما أكثر من مرتين فهو وسواس قهري".

وأضاف: "غالباً لا تتطلب هذه المتلازمة أي علاج دوائي، أما الشفاء فيقتصر على النواحي النفسية والسلوكية، والدعم النفسي والاجتماعي من خلال الأسرة والمحيطين، وتعريف المريض/ ة بالمرض وبأعراضه، كما أن طمأنة المريض/ ة جزء مهم في العلاج.

وكشف أنه في الحالات المتطرفة، وهي نادرة، فإنه يتم اللجوء إلى بعض مضادات الذهان سواء أكانت تقليديةً أو مستحدثةً. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image