مَن يقاتل مَن في السودان؟ هذا السؤال العمومي ينبغي أن يُرفق بتفصيل المقصود بالسودان. هل هو سودان العاصمة المثلثة والألف كيلومتر المربعة التي تمتد عليها أحياؤها ومناطقها، ويفصل النيلان الأزرق والأبيض بينها فيجعل من المحال الاستيلاء عليها جميعاً في وقت واحد وعملية أو عمليات متصلة؟ أم هو سودان الولايات التي تقول بعض المصادر إن 12 ولاية، من 18 هي عدد الولايات السودانية كلها، تشهد قتالاً يقترب بعضه، في مدن غرب السودان بدارفور، ومدينة الجنينة على الخصوص، من أن يكون "إبادة"، بينما يلاحظ مدير منظمة "أطباء بلا حدود"، سيلفان بيرون، غداة مهاجمة مستشفى الجنينة ومقتل 96 ضحية، أن "المجتمع ينهار والقبائل تتسلح"؟
وفي الأثناء يفاوض الطرفان اللذان يُنسب الاقتتال إليهما وحدهما، في مدينة جدة الحجازية، شروط وقف إطلاق نار، على أن يمهد هذا الطريق إلى إعلان هدنة مستقرة. وهما أعلنا، في 12 أيار/ مايو، وقف النار الموعود والمرجو. ويعلّق بعض السودانيين على الإعلان الذي كذبته الوقائع حال إذاعته، فيقولون إنه لا يتعدى النص على رعاية إخلاء العاصمة المباحة من سكانها وأهاليها لتخلو أحياؤها وساحاتها وشوارعها لكتلتي المتقاتلين الرسميتين، الجيش والدعم السريع، فتحتربان على مسرح نُذر لهم وحدهم وأوقف عليهم.
وفي الأثناء يعلن الفريق ياسر عطا، عضو مجلس السيادة وأحد مقدَّمي القوات المسلحة المقربين من رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، لصحيفة "الشرق الأوسط"، في 10 أيار/ مايو أن "الجيش يسيطر على كل الولايات ما عدا بعض الجيوب المتمردة التي فقدت معظم قدراتها" (10/5). وسبقه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" إلى زف البشارة نفسها، بحرفها، في الصحيفة إياها، في الأول من أيار/ مايو: "قواتنا، والحمد لله، تسيطر بشكل كامل على الخرطوم، (...) سيطرنا على مدن العاصمة الثلاث بشكل شبه كامل".
تناظر وتقابل
ويلاحظ الناس السعداء والمحظوظون الذين خبروا النزاع الأهلي، وهو أعم معنى من الحرب الأهلية، في زاروبهم وحيهم ومدينتهم وبلدتهم وإقليمهم الأوسع- والكاتب منهم-، أن من أول أعراض النزاع الأهلي الثابتة والمزمنة، قبل أن "يتطور" ويستوي حرباً تامة الأوصاف والتعريف وبعده، هو هذا التناظر أو هذه الموازاة الدقيقة بين الرأيين أو القوتين في الحادثة الواحدة، أو المفترضة واحدة. وهذا ما حمل أحد سكان الخرطوم وشاهد عيان على "المناوشات" على القول: يعلن الجيش صباح مساء، وفي كل يوم، عن هجماته على مواقع "الدعم"، في سوبا والبؤرة الأولى ومقري هيئة العمليات في الخرطوم وبحري والمظلات بشمبا، ويُطمئن إلى أنه دمرها من الضربة الأولى، فلماذا يكرر قصفها وتدميرها في بياناته كلها؟
ودوام التناظر أو التقابل بين الحكمين أو الروايتين غالباً ما يؤذن باستقرار النزاع الأهلي على خلاف متناسل يعمّ، شيئاً فشيئاً، وجوه الحياة والسعي كلها. ولا يستقيم هذا العموم، أو هذه العمومية المتعاظمة، إلا ببلبلة الألسن، على ما قال المسلمون الأوائل في مدينة بابل، وفي دمارها جراء طمع أهلها وطلبهم النجاة من حكم الطوفان بواسطة بناء يتعالى عن الغمر و"يطاول عنان السماء".
وتكاد بلبلة الألسن، أو العجز عن تقرير وصف واحد أو مشترك للواقعة الواحدة، أن تكون كناية عن الحرب الأهلية، أو الانقسام الأهلي المفضي إلى الاقتتال، فقول ياسر عطا، مقرراً وواصفاً، إن "الجيش يسيطر على كل الولايات"، يتخطى دائرة الخرطوم، وهي بؤرة الاهتمام والخبر والنقل الصحافيين والشائعين، إلى ولايات قد لا يعلم عامة الناس عنها شيئاً، ولا ينقل الإعلام أخبارها. وهذا ما يحصل فعلاً في الغالب من الأحوال. فيجيز الصمت أو الإغفال ضم الولايات إلى "سلطة" القوات المسلحة، من غير ظهور التعسف أو التحكم (وهذا "ما لا يعجز عنه أحد"، على قول أبي جعفر الطبري في خلاف على التفسير).
ويقضي المنطق الشكلي أو الصُوري، في إطار الاثنينية، المتنافية التي يرسيها القتل والتدمير المتبادلان، أن كل ما يخرج عن سيطرة العدو يدخل تحت سيطرة "أنا" (أو "إيغو")، أي الصديق أو المتكلم، وفي "أنا". ويجمع العدو والصديق- وهما، حين يتكلمان، "أنا" نظير "أنا"- على أن ما يخرج عن سيطرة كليهما لا يتجاوز القليل القليل، "بعض الجيوب" يقول الفريق عطا أو "الشبه" الذي ينقص "الكامل" يقول الفريق أول ونائب رئيس مجلس السيادة إلى اليوم، على ما لاحظ سودانيون كثر.
العدو القليل
فالجنوح إلى الاقتتال يقلل من شأن العدو الأهلي، ومن قدراته، إلى حد يساويه بالعدم، أو باللاشيء، والصفر، إلا "قليلاً". وهذا التقليل القريب من الإعدام، على المعنيين الحرفي والمجازي، يقتضيه انفراد "أنا" بالوجود، وقيامه مقام الواحد، وطيّه في هذا الواحد الفتات الباقي.
ولا يشك الناطق باسم الطرف أو الحزب في أن القضاء على عدوه قريب ووشيك، بل إنه حصل ومضى، وأرجئ الخبر عنه لسبب لا يتعلق إلا بالنقل أو الإعلام، وهو تأخر الخبر عن الواقعة. وهذا التأخر، أو الفرق الزمني بين إرادة الشيء الضروري وبين كونه المرجأ، هو علة الحدوث الناقص أو البشري، وما نَزّهَ المتكلمون المحدِث عنه.
وعلى هذا، فعدو الواقعة البسيطة والقاطعة التي يقررها الحزب الأهلي، ويدعو إلى تصديقها من غير مراجعة، هو تركيبها، أو إدخال التعقيد أو الكثرة إليها، وفيها، وتعليق الجزم بتمامها واستيفائها عناصر التصديق. وعلى سبيل المثل، أمر رئيس مجلس السيادة، وهو رأس جمهورية السودان رسمياً في 15/5، بإقالة محافظ بنك السودان المركزي، حسين جنقول، وأحل محله برعي الصديق. وحمل القراران، بالإقالة وبالتعيين، على بادرة سيادية تظهر موقع البرهان ومكانته من "الدولة" والسلطة. ونظير ذلك، على ما ينبغي، عري دقلو من الاثنتين.
ويدقق أحد المراسلين السودانيين، أحمد يونس، في الخبر. فيلاحظ أن تعليل الإقالة بإحجام المحافظ السابق عن تجميد مخصصات قوات الدعم السريع لا يستقيم مع ما يُعرف عن الموظف المقال. فهذا عيّنه البرهان نفسه غداة انقلاب 25/10/2021، وكانت لجنة تفكيك نظام عمر البشير، وتطهير إدارته من الإسلاميين المتسللين تحت ستارة التمكين، أقالته. وبرعي الصديق، خالفه على منصب المحافظ أو الحاكم، يشارك سلفه العصبية الحزبية. وجمع السلفُ ولاءً مشهوراً و"تقليدياً" لنظام "الكيزان"، على ما يسمي أهل السودان إسلاميي البشير وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، إلى ولاءٍ غير خفي لحميدتي.
"في يوم من الأيام، كما هي الحال في القصص العجائبي، يسقط الحل في ‘الحضن العربي’. ويفيض الحضن حناناً وسلماً ووفاقاً. وتتدفق الهبات والعطايا على مهجرين يحلمون بالسفر إلى الغرب الآفل ووجهه المقيت"
ويعقّد الأمر ويزيده تشابهاً وغموضاً تمويل قوات الدعم من موارد خاصة ليست من الخزينة العامة ولا ماليتها أولاً وخصوصاً. فآمر قوات الدعم، وصاحبها على معنى الملكية الخاصة، يصرف على قواته من موارد تعود إليه من تعدين الذهب، ومن استثماراته التجارية داخل السودان وخارجه. ومعظم الاستثمارات في الشركات والأعمال المتفرقة ليست مسجلة باسم الدعم، ولا بأسماء الأهل والشركاء، فلا يطاولها تجميد الأرصدة، شأن ما هو منها خارج السودان. فكائناً مَن كان محافظ المصرف المركزي، ومَن كان صاحب ولائه، لا تأثير له في عوائد قوات الدعم ومصادر تمويل صاحبها.
الواحد
وتلقي هذه التقاطعات، وبعضها ظاهر بينما بعضها الآخر، وهو على الأرجح معظمها، خفي، بالشبهة والالتباس على قرارات أو إجراءات يقررها هذا الطرف أو ذاك. وقد يكون مصدر الغلط الأول في تعليل الأفعال والأقوال التي تصدر عن نزاع أهلي، وإنْ بدا جهازياً في خطواته الأولى والمفاجئة، هو اختصار المتنازعين أو المتقاتلين في قطبين أو فاعلين يحيلان الشركاء الآخرين، الثانويين ربما، إلى أصفار لا دور لها، أو يقتصر دورها على الفتات.
ويتبنى الاختصار هذا المتحاربون الرئيسيون، ويسعون بلا هوادة في فرضه، والإقناع به، فحرص "الحزبان" المتقاتلان في بلدان عربية كثيرة، الحزب الحاكم، العصبي والأمني، والحزب الإسلامي أو "الإخواني"، مستميتَيْن، على ألا يزيد عدو واحدهما عن عدو واحد، "الإرهابي" أو "الطائفي". ويستميت التحريض الإيراني، ووكالاته المحلية والأهلية، في قسمة العالم، على شاكلة "الصرخة" الحوثية اليمنية، "فسطاطين"، على قول بن لادن، أو "حزبين": "حزب الله" و"حزب الشيطان".
وتملي الاختصار أو الاختزال المصلحةُ المتقاسمة والمشتركة في نفي المشروعية، أو الحق في الخصومة السياسية والمعنوية، عن العدو، وفي إخراجه من النزاع السياسي، وكفاءته، إلى دائرة التمرّد، والجريمة العادية، والشهوات الخاصة، والتجارة، والعدوان. ويقر الاختصار (في قطب واحد) والإخراج (من دائرة السياسة) هذان بأن الحرب الأهلية والسياسة على طرفي نقيض.
فلا يسع طرفاً أهلياً مقاتلاً الزعم بأنه يزاول السياسة، أي الاحتكام إلى الحجج الأرجح والأعم اشتراكاً وإقراراً بحرية الأفراد والجماعة، بينما هو يجنّد ويعبئ ويصادر و"يعفش" في سبيل إرهاب عدوه وسحقه، وحمله صاغراً على الإعطاء عن يده إعطاء الذليل والأعزل، على ما هي حال الأعداء في قصة الزير سالم أبو ليلى المهلهل الشعبية.
أرخبيل الجماعات
والمتحاربان السودانيان، منذ 15 نيسان/ أبريل وقبله، جزء بارز من أرخبيل عصبي ومسلح، بين شقيه التوأمين والمتناظرين وبين أجزائه الأخرى العصبية والمسلحة، جسور وأقنية وشرايين كثيرة. وتنتقل كتل العصابات والمسلحين، واللصوص والمغتصبين، وقطاع الطرق ونظّار الحواجز، وجباة الخوّات، والحزبيين وأهل الثارات، بين القطبين المتقاتلين البارزين، وبين حلفائهما الظاهرين والمستترين، بيسر ومن غير إعلان.
وبين رصاص طائش، وعناصر غير منضبطة، ومجرمين فروا من السجون (في 28/4) ويبلغ عددهم 13 ألفاً، و"فلول" "كيزان" فروا مع الفارين، وأنصار "جبهات شعبية" مسلحة تركوا مسارح القتال إلى العاصمة المثلثة، ومنتحلي صفة (على قول كلا الطرفين متملصاً من التبعة عن فعل جنائي)، ومرتدي بزة أو زي الطرف المتنصل على زعم الطرف- تتوالى الجولات، على قول لبناني مجرب، وتصحبها صحبة الظل الهُدَن الكثيرة، والمفاوضات، في الداخل والخارج، والوساطات، والمناشدات، ومسودات الاتفاقات، والحواشي المحدَّثة على المسودات.
"سوَّغ أحد دعاة الإسلاميين البارزين، عبد الحي يوسف، قتل المدنيين وقادة الأحزاب بالقصف الجوي، وإسقاط الجنسية عنهم. وأفتى بجواز قتل ‘ثلثهم’. وهي فتوى ‘معتدلة’ قياساً بفتاوى مدنية، في بلدان عربية أخرى، أجازت تقليص السكان إلى العدد الذي كانوا عليه قبل ثلاثين عاماً"
ثم يلي ذلك كله دور اتجاهات الحلول والمعالجات: السودنة (على مثال اللبننة واليمننة...)، والتعريب، والتدويل، وأمزجة هذه: نصف سودنة+ ربع تعريب... أو خلاف هذا. ويتوج المعالجات، بعد نصف عقد يُقتل في أثنائه نصف مليون "سوداني" (أم درماني، وأبيضي، وكردفاني غربي، ودارفوري غربي شمالي، و"ليبي" جغرافياً)، عمرو موسى جديد، أو هو نفسه مد الله في عمره- فينص على أن "الأزمة" مركّبة، وتتراكم طبقاتها الثلاث الواحدة فوق الأخرى.
وقد يدوم هذا عقوداً تعصى الحصر الدقيق. فإذا أرّخ ابتداء اقتتال اللبنانيين، وحروبهم الملبننة (بالأصالة والوكالة والاثنتين معاً)، في الثالث عشر من نيسان/ أبريل 1975- ويختصر التأريخ هذا بضع سنين من نزاع كان يخزن قواه إلى يوم موعود-، استحال تأريخ خاتمة الاقتتال. فهو يبدل جلده، ويستعير وجوهاً متجددة.
وفي أطواره المتعاقبة- من اقتتال صريح، وعزل مناطق، وتخزين سكان، إلى تقويض نظام سياسي متعارَف، وإباحة إعمال ميزان قوة محض، وتحنيط طاقم حكم لا يحكُم، وإرساء الأبنية السياسية على ازدواج عام- يكرس أصلاً لا يحيد عنه هو الاحتكام إلى تناظر لا مخرج منه، ولا مخرج من النزاع الأهلي الذي يلازم التناظر ولا ينفك التناظر منه.
وفي يوم من الأيام، كما هي الحال في القصص العجائبي، يسقط الحل في "الحضن العربي". ويفيض الحضن حناناً وسلماً ووفاقاً. وتتدفق الهبات والعطايا على مهجرين يحلمون بالسفر إلى الغرب الآفل ووجهه المقيت.
فمصادر المتقاتلين الفعليين والمحتملين، أو المرشحين للضلوع في أحد أوجه "القتال" الكثيرة والمتناسلة، لا تقتصر على الجهازين الرسميين. وفي وسع الجهازين التوأمين التعويل على احتياطيين غزيرين وضخمين من حملة السلاح المدربين. وأول احتياط هو الاحتياط "الإسلامي" الذي طوى أربعة أعوام من الانتظار المتحفز والنشط (منذ خسارته السلطة الرسمية والظاهرة في نيسان/ أبريل 2019). وجدد فرار قادته من سجن كوبر وغيره من السجون الخمسة، في 26/4 جاهزيته العملية، ومراتب التخطيط والتنسيق التي افتقر، في أعوام "الثورة" المعلقة، إلى دورها.
إسلاميو الاحتياط
وغداة الفرار- ويعزوه الجيش إلى اقتحام "الدعم" سجن الهدى، وفتحه أبوابه، بينما يقول "الدعم" إن قوة من الجيش انتحلت صفته اجتاحت السجن، وأطلقت 20 مداناً أمنياً بقتل المعتصمين في حزيران/ يونيو 2019- دعا أحمد محمد هارون، آخر مترئسي حزب المؤتمر، مَن يسميهم "عضويتنا" إلى "الالتفاف حول الجيش". وسوَّغ أحد دعاة الإسلاميين البارزين، عبد الحي يوسف، قتل المدنيين وقادة الأحزاب بالقصف الجوي، وإسقاط الجنسية عنهم. وأفتى بجواز قتل "ثلثهم". وهي فتوى "معتدلة" قياساً بفتاوى مدنية، في بلدان عربية أخرى، أجازت تقليص السكان إلى العدد الذي كانوا عليه قبل ثلاثين عاماً.
و"العضوية" التي يستنفرها هارون وأصحابه من الدعاة قضّى حزب المؤتمر ونظام "الإنقاذ" البشيري ثلاثين عاماً في جمعها وبنائها وتمكينها. فنواة تنظيم الإسلاميين هي "الأجهزة العسكرية والأمنية الخاصة"، على قول المراسلة رشا عوض. فرعت السلطة الفعلية إنشاء تشكيلات عسكرية وأمنية وإدارية موازية أو رديفة (شأن "الدعم")، يسميها بعضهم "دولة عميقة" بينما هي طافية على سطح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولا تعفّ عن التدخل في دقائق الحياة هذه ووجوهها.
وعلى هذا، راكمت السلطة هذا الصنف من المنظمات والأجسام. وعرف منها "الدفاع الشعبي"، الجماهيري والبوليسي، وهو على شاكلة الباسيج (التعبئة) الإيراني. ورُفد هذا بجهازين أكثر تخصصاً في الاستقصاء والتحري والتدخل، هما "الشرطة الشعبية" و"الأمن الشعبي". وضوت "كتائب الظل" نخبة عناصر الدفاع والشرطة والأمن. وتذهب عوض إلى أن هذه المنظمات أو التشكيلات هي "قوى ترجيح وحسم" داخل التنظيم الأم، حزب المؤتمر. وبها انتصر جناح حسن الترابي (1932- 2016) على جناح عمر البشير، قبل أن يتغلب هذا على صاحبه، في ما يسمى "المفاصلة"، بعد أن والاه علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع، وغيرهما من وجوه "المؤتمر". وفي سياق النزاع الداخلي هذا، أو "الحرب الأهلية في الحزب"، على قول نايف حواتمة الفلسطيني "الديمقراطي"، وفي معرض الحروب القومية والعرقية المسلحة في دارفور، أنشأ عمر البشير "قوات الدعم السريع"، في 2013.
احتياطي الحركات المسلحة
وأعضاء هذه الأجسام مسلحون ويسرحون ويمرحون في مدن السودان وأريافها، وفي هيئات "الدولة" وثنايا الجماعات و"المتحدات"، على ما يسمي بعضهم أبنيتنا الاجتماعية المتداعية. ودعوة بعض شيوخهم إلى الدفاع عن الجيش لا تعني أنهم كتلة واحدة، وتؤيد قطباً واحداً. ويدفع ياسر عطا تهمة انحياز "الإخوان"، أو فروعهم، إلى الجهاز العسكري. فيقول إن الجيش فصل مَن يسميهم "مجموعة هاشم عبد المطلب" من الضباط الإسلاميين، وكانوا "ضمن تنظيم النظام السابق" (أي "المؤتمر")، فاستوعب "حميدتي" في قواته أكثر من 305 منهم، وسماهم ضباطاً ومستشارين. وعيّن بعض مَن صرفتهم "لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو" و"إزالة التمكين" من أجهزة الدولة، في صفوف قواته.
ومصدر المقاتلين الأهليين واحتياطيهم الثاني هو الحركات المسلحة. ووقّع اتفاق سلام جوبا، في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، قادة الحركات "الانفصالية" الناشطة في الأقاليم والولايات، في دارفور والنيل الأزرق على الخصوص، منذ عقود. وتشترك في السلطة "الانتقالية"، ومجلس سيادتها، ثلاث حركات هي الحركة الشعبية لتحرير السودان (رئيسها مالك عقار)، وحركة تحرير السودان- المجلس الانتقالي (الهادي إدريس)، وحركة تجمع قوى تحرير السودان (الطاهر حجر).
ووُلّي القيادي "المستقل" في حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، منصب والي إقليم دارفور، ورئيس حركة العدل والمساواة، جبريل إبراهيم، وزارة المالية. وخوَّل اتفاق جوبا مقاتلي هذه الحركات ترك مناطق قتالهم، والمجيء إلى المدن، ولم يستثنِ الخرطوم منها، هم وأسلحتهم. وعلى خلاف نص الاتفاق، لم تدمج الحركات مسلحيها في الجيش.
وانقسمت الحركات وسياساتها، على مثال السودانيين الآخرين. فشارك جناح مناوي وحركتا جبريل إبراهيم ومالك عقار في اعتصام القصر الجمهوري، عشية انقلاب 25/10/2021. وتذرّع البرهان بالاعتصام، وبمعارضة جبريل إبراهيم ومني مناوي بنود الاتفاق الإطاري: خروج العسكريين من الحكم، وتولي حكومة مدنية الحكم، ودمج "الدعم" في الجيش- إلى انقلابه. وجمع آخرون، مالك عقار والطاهر حجر والهادي إدريس، بقاءهم في مناصبهم "السيادية" إلى عضويتهم في تحالف المعارضة، إعلان الحرية والتغيير، ووقعوا الاتفاق الإطاري.
صروح الحرب
وفي الأثناء، قبل تسريح المسجونين من السجون أو "تحريرهم"، على قول لبناني يرقى إلى 1976 والخروج من "حبس" الرمل البيروتي، وبعد تسريحهم، استنكفت الشرطة، وهي موضوع تنازع، عن حراسة السجون، والمداومة في الأقسام أو المخافر، وعن تسلم "المتفلتين" الذين قبض عليهم، بالجرائم المشهودة ومنها القتل، أعضاء متطوعون في "غرف طوارئ" بعض الأحياء، في منطقة كرري، على سبيل المثل. وبعض الشرطيين خلعوا بزتهم السلكية، وارتدوا لباس المدنيين، وجلسوا يتفرجون على السرقة والنهب ودخول المنازل عنوة.
والحق أن "إنجازات" الحروب الأهلية المتفرقة، وهي أصناف ومذاهب، رغم تعجيلها في الانعقاد والظهور، لم تحل دون إطناب كتّاب ومنظّرين ومثقفين عضويين أو آليين في مديحها. والثناء على "جمالها"، على قول بعضهم. ولعل فضيلة هذه الحروب الأولى هي خصوبة ذراريها، وتناسلها جيلاً بعد جيل. فيرث الجيل بعد الجيل إرثاً متنوعاً، لا يقتصر على الثارات، وليست الثارات أثمن ما فيه رغم ثمنها.
ومن أثمن الموروثات وضوح تمييز العدو من الصديق (وهو جوهر السياسة، على قول كارل شميدت "النازي")، وثبات هذا التمييز، والتضحية بالتفاصيل والتناقضات الثانوية، مثل بقاء الناس، وحفظ نسلهم وحرثهم، وأمنهم وعمرانهم، أو مثل عبارتهم عن إرادتهم، على مذبح التمييز الأول، والتناقض الرئيسي. وبعض الإرث، نازع حاد إلى تصديق قرب الحلول الحاسمة والمتوقعة، من فتح سفارات هنا، وتبادل التهاني والأماني هناك، ونسيان أن جذور النزاعات الأهلية تضرب عميقاً وبعيداً في تربة أوطان ودول وجماعات أرست علاقاتها على النظائر والأضداد، وجعلت منها أنظمة وصروحاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون