استيقظ سكان الخرطوم على نبأ مفزع وسط اشتباكات الجيش السوداني والدعم السريع؛ فتْح السجون وخروج رموز نظام البشير والمطلوبين للجنايات الدولية والمتطرفين وآلاف السجناء الذين زادوا من الرعب داخل المدينة.
تحتوي ولاية الخرطوم على سجن كوبر "بحري المركزي"، وسوبا، وأم درمان للرجال و"التائبات" للنساء، ودبك والجريف والهدى، بحسب الدكتور عبد القادر أحمد الشيخ الفادني، في دراسته "الأمية وعلاقتها بالأمن والتنمية دراسة مسحية بسجون ولاية الخرطوم".
ويُعدّ أكثر سجون الخرطوم شهرةً، سجن كوبر الذي كان لكبار المعتقلين السياسيين وعلى رأسهم عمر البشير وأعوانه، وينقسم كوبر إلى قسمين؛ الأول "السرايا" ويضم كبار المجرمين الجنائيين، والثاني القسم السياسي الذي زاره المعتقلون السياسيون، بحسب وصف المؤرخ السوداني د. محمد سعيد القدال.
وأكد القدال الذي كان أحد نزلاء كوبر، في كتابه "كوبر... ذكريات معتقل سياسي في سجون السودان"، أن السرّ الرئيسي وراء نقل أهم المساجين إلى كوبر، يتعلق بأسواره المنيعة التي لم تشهد سوى محاولة هروب ناجحة واحدة، قام بها سجين مصري، مشيراً إلى أن السجن يتحول في المساء إلى سوق تجاري، خاصةً في منطقة "حوش السرايا" أي الفناء الخاص بجناح عتاة المجرمين، للمنتجات الاستهلاكية، والتي تشمل بعض المواد المخدرة مثل الحشيش والبانغو.
"لا توجد مواد غذائية لسكان المدينة لتتوفر داخل السجن"؛ بتلك الكلمات وصف رئيس قوى التغيير السودانية وأحد نزلاء كوبر السابقين، عبد الرحيم بن عوف، أحوال السجن، لرصيف22، مبيّناً أنه يقع في منطقة بحري وسط بؤر الاشتباكات الحالية.
روايات فتح السجون
تعددت الأسباب والروايات عن عملية فتح السجون، وتبادل طرفا الصراع الاتهامات حول ذلك، مع ظهور دلائل تشير إلى أن قوات الدعم السريع اقتحمت سجن الهدى، بينما أطلقت إدارات باقي سجون الخرطوم سراح المساجين فيها.
تتحدث الفرضية الأولى عن أن إدارة السجن عجزت عن السيطرة على المساجين بعد حالة التذمر والمظاهرات، لعدم وجود حماية، وتبادل الاتهامات بين الطرفين في محاولة كل منهما إلقاء اللوم على الآخر، بحسب مدير مكتب القاهرة للحركة الشعبية قطاع الشمال، محمود إبراهيم.
عضوة لجان مقاومة الخرطوم سحر أبو آدم، وصفت عملية فتح السجون، بأنها أمر مدبّر، وهو ما توعد به الإسلاميون في إفطارهم في ذكرى غزوة بدر الكبرى داخل السجن، إذ ذكروا أكثر من مرة أن الاتفاق الإطاري لن يكتمل وستعود الحركة الإسلامية إلى السلطة مرةً أخرى.
بينما تتهم أطراف أخرى الدعم السريع بتدبير عملية فتح السجون، ومن بينها غالب طيفور الشايب، الذي قال إن الدعم السريع قامت بالتخطيط لعملية فتح السجون لخلق حالة فوضى على النمط العراقي، والتي انتهت بتفكيك الجيش هناك، مبيناً أنه أطلق سراح عناصره وخلق دعايةً سيئةً للجيش مفادها أن من يقف معه حالياً هم الإسلاميون وجماعة الإخوان.
يُعدّ خروج قيادات النظام السابق، والمتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، مؤشراً على أن الحرب الحالية متورط فيها النظام البائد
رموز نظام البشير
على رأس الخارجين من سجن كوبر، رموز نظام البشير وكبار معاونيه، مثل نافع علي نافع وعلي عثمان طه وعوض الجاز وإبراهيم السنوسي وأحمد هارون، بينما البشير نفسه ونائبه موجودان في المستشفى العسكري.
ويُعدّ خروج قيادات النظام السابق، والمتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، مؤشراً على أن الحرب بين الجيش السوداني والدعم السريع متورط فيها النظام البائد والمؤتمر الوطني وواجهاته، بحسب المتحدث باسم قوى الحرية والتغيير شهاب إبراهيم.
وأكد إبراهيم، لرصيف22، أن النظام السابق خطط ليستغل الانفلات الأمني لخروج هذه القيادات والمشاركة في التعبئة الشعبية لقواعد التنظيم، مبيّناً أن رموز النظام البائد لا تستطيع خلط الأوراق، إذ ليس لديهم قبول داخلي، وهذا الأهم، كما ليس لديهم سند إقليمي.
بينما يرى القيادي في تجمع المهنيين، وعضو سكرتارية تجمع التشكيليين إسماعيل حسن، في حديثه إلى رصيف22، أن فتح السجون رُتّب له قبل 4 أيام، وبدأ بسجن سوبا وبعده سجن الهدى ثم كوبر، لخروج قيادات النظام السابق، وخلق الإشكالية-الفوضى بعد هروبهم بحيث يرتبون لحرب أهلية في البلاد.
ويوضح القيادي في الحركة الشعبية محمود إبراهيم، لرصيف22، البعد الأمني في عملية إطلاق رموز النظام السابق، إذ إن مساجين كوبر هم الصف الأول من قيادات المؤتمر الوطني، ورئيس حزب المؤتمر الوطني أحمد هارون، ألقى خطاباً قال فيه إنهم مستعدون لحماية أنفسهم، مما يدل على أن الميليشيات وكتائب الظل عادت إلى نشاطها القديم.
ويُعدّ الخروج حافزاً لكتائب الظل التي تحررت قياداتها من السجون، ليؤكدوا لهم أنهم خلفهم ويحمونهم، وأصبحت القوات بقياداتها التي خرجت من السجون معادلاً موضوعياً على الأرض لقوات الدعم السريع، فمعظمها قيادات حربية لها خبرة في أساليب الدعم السريع، لأنها كانت المشغل الأساسي لها في دارفور.
المطلوبون للجنايات الدولية
كانت الصدمة الكبرى إثر خروج المطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية، وسط أنصار البشير، وعلى رأسهم أحمد هارون.
وتولت محكمة الجنايات الدولية التحقيق المباشر في اتهامات بوقوع جرائم اضطهاد وتعذيب واغتصاب وقتل في إقليم دارفور منذ حزيران/ يونيو 2006، بموجب القرار رقم 1593 الصادر من مجلس الأمن في 31 آذار/ مارس عام 2005، والذي أحال تلك الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية، بحسب أحمد موسى قريعي في كتابه "الجنجويد والنزاع المسلح في دارفور".
"القصد منها عودة النظام القديم"؛ هكذا استهل رئيس هيئة محامي دارفور صالح محمود، حديثه عن إطلاق سراح المطلوبين لدى محكمة الجنايات الدولية، مبيّناً أن القائمة ضمت عمر البشير وعبد الرحيم محمد حسين وأحمد هارون، وكان علي كوشيب ضمن المطلوبين، لكنه سلّم نفسه للمحكمة الدولية.
وأكد محمود لرصيف22، أن حكومة الانقلاب كان نهجها عدم التعاون مع مدّعي المحكمة الدولية بخصوص تسليم المطلوبين للمحكمة في ظل عدم قدرة ورغبة المحاكم الوطنية في تطبيق العدالة، على الرغم من اتساع نطاق الانتهاكات في السودان، مبيّناً أن هذه الخطوة تعزز مخاوف العديد من الجهات من إصرار حكومة الانقلاب على الاستمرار في تشجيع ثقافة الإفلات من المساءلة والعقوبة.
ووصف الناطق باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين آدم رجال، إطلاق سراح المطلوبين لدى محكمة الجنايات الدولية، بأنها مثّلت صدمةً وخيبة أمل بالنسبة لهم، مبيّناً أن الحروب العبثية الدائرة في الجنينة بين قبيلة المساليت والقبائل العربية، من صناعة اللجنة الأمنية للنظام البائد، الذي خرج رموزه من السجن في تلك العملية.
تعددت الأسباب والروايات عن عملية فتح السجون، وتبادل طرفا الصراع الاتهامات حول ذلك.
الدواعش
"كان أول من قدّم لي كوب ماء فور دخولي كوبر" يذكر الشايب الذي كان معتقلاً مع العديد من قياداتهم في عنبر الزاوية، اللقاء بينه وبين الدواعش داخل سجن كوبر، مبيّناً أنه قابل منهم شاباً يُدعى عامر السر، من أبناء بحري، وكان يتفاخر بما يقومون به من قتل وتعذيب وسبي، وقيادياً آخر كان على علاقة مباشرة بالبغدادي.
اجتمعت قيادات الحركة الإسلامية بهؤلاء لتثنيهم عن الفكر الداعشي، وكثر منهم لم يستمر حبسهم سوى أشهر عدة، ومنهم قائدهم محمد علي الجزولي، بحسب الشايب الذي أشار إلى أن قادتهم لا يتعدى دورهم الوساطة لتسفير الشباب إلى أماكن التنظيم في العراق وسوريا.
بينما يرى مدير مركز رصد الصراعات في الساحل الإفريقي محمد علي كيلاني، أن هروب عناصر داعش نسقت له قيادات الإسلاميين السودانيين، وأصبحت كل القيادات الداعمة للعمل الجهادي خارج السجن حتى المدانون منهم بأعمال إرهابية، ومنهم الجزولي الذي يقاتل حالياً على أرض العمليات.
وأكد كيلاني لرصيف22، أنهم سينسقون العمليات العسكرية لصالح تثبيت الإسلاميين في الحكم، والدليل على ذلك خروج بعض الفتاوى التكفيرية لشيوخ مثل عبد الحي يوسف، الذي أفتى بإهدار دم قيادات القوى السياسية السودانية.
مسجونو الدعم السريع
اقتحمت قوات الدعم السريع سجن الهدى، وأطلقت سراح معتقلين بجرائم قتل ومخدرات يتبعون لقوات الدعم عددهم يتراوح بين 500 و600 ضابط وجندي، بحسب القائد الميداني لقوات درع السودان التي تحارب بجوار الجيش السوداني في الخرطوم، رضوان أبو قرون.
واتهم أبو قرون في حديثه إلى رصيف22، مخابرات إقليميةً بتدبير العملية، حيث تم إطلاق 4 طيارين يتبعون للدعم السريع، وهو السلاح الذي يشهد تفوقاً للجيش السوداني، موضحاً أنها محاولة لإقناع المجتمع الدولي بأن مقاتلي الجيش السوداني هم المؤتمر الوطني وكتائبه.
بينما كشف الناشط الحقوقي السوداني الطيب أحمد، أن بعض منتسبي الدعم السريع في سجن الهدى كانوا متهمين بقضايا تصل عقوبتها إلى الإعدام، حيث كان هناك متهمون في قضية الشهيد بهاء الدين نوري، وهو عضو لجان مقاومة الخرطوم، وقد عذّبه بعض منتسبي الدعم السريع حتى الموت، وألقي القبض إثر ذلك على مسؤول لجنة الاستخبارات التابعة للدعم في الخرطوم، والقوة التي قامت بإلقاء القبض عليه.
وأكد أحمد لرصيف22، أنه كان من بين نزلاء سجن الهدى المتهمين في قضية شهداء الأبيض، وهي القضية التي اتّهم فيها 6 عناصر من الدعم السريع بتدبير مذبحة الأبيض، والتي تُعدّ من أبشع الجرائم عقب عزل الرئيس السابق عمر البشير، حيث أطلقوا الرصاص الحي على متظاهرين سلميين في مدينة الأبيض في شمال كردفان، ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى بينهم 6 أطفال، وحكمت عليهم المحكمة بالإعدام شنقاً.
توباك
لم يوصَد باب السجن على أحد، وشهدت عملية إطلاق المساجين في سجن الهدى، إخراج محمد آدم الشهير بـ"توباك"، والمتهم بقتل العميد علي بريمة في أحد المواكب، والذي صرّح في فيديو بثه عقب خروجه بأنه سيسلم نفسه بعد هدوء الأوضاع لعلمه ببراءته، بحسب ما ذكر الإعلامي السوداني جعفر القمرابي، لرصيف22.
الانفلات الأمني في الخرطوم
ساهم فتح السجون في الفوضى الأمنية في الخرطوم، وتتحدث الإحصائيات عن أرقام مفزعة لحالة نزلاء سجون ولاية الخرطوم، إذ تبلغ نسبة الأمية 50% بين نزلاء سجون الولاية، والحاصلون على الشهادة الابتدائية منهم نسبتهم 35% من مجموع النزلاء، وفي كوبر تزيد تلك النسبة لتصل إلى 56% من الأمّيين، بينما لا تتعدى نسبة الجامعيين 9%، بحسب ما أورد الفادني في دراسته.
تعود العلاقة بين العسكر والعصابات المسلحة في السودان، إلى فترة وجود نظام البشير، حيث كانوا يحتفظون بالعصابات للنهب وتخويف المدنيين والناشطين، وبعد سقوطه استخدِموا ضمن كروت ترويض الثورة كفزاعة لتخويف المدنيين في الخرطوم، بحسب الصحافي والإعلامي السوداني محمد حسن حلفاوي.
وأكد حلفاوي لرصيف22، وصول عدد المساجين المطلَق سراحهم إلى 10 آلاف سجين، قام بعضهم بنهب أسواق وبنوك ومحال تجارية، ووصلت قيمة المسروقات في سوق واحد إلى نحو 50 مليون دولار، بالإضافة إلى قتلهم بعض الأشخاص في الأحياء.
بينما أكدت أبو آدم، لرصيف22، أن المدينة امتلأت بالمجرمين الفارين من السجون، وهم الآن يمارسون نشاطهم الإجرامي الذي اعتادوا عليه وبقوة أكثر خاصةً لعدم وجود القوات الشرطية بالإضافة إلى انعدام توافر القوت اليومي مما يجعلهم يعتدون لسد الجوع وجلب المال، من دون وازع أخلاقي أو ديني.
الجانب القانوني
تختلف دوافع فتح السجون سياسياً وقانونياً، إذ تم اقتحام بعض السجون بواسطة قوات الدعم السريع كما حدث في سجن الهدى، وهو من أكبر سجون البلاد، عكس الوضع القانوني لبقية السجون، مثل سجن أم درمان، التائبات، وكوبر، حيث تم تسريح المحبوسين بتقديرات من إدارات تلك السجون لظروف موضوعية، وهي انعدام الأمن وعدم القدرة على توفير المأكل والمشرب والعناية الطبية لهم، وهذا ظرف طارئ للإفراج المؤقت، بحسب المحامي السوداني والقاضي السابق داود صندل.
وأوضح صندل لرصيف22، أن الإجراء الطبيعي في حال استمرار مؤسسات الدولة في عملها، أن يتم الإفراج وفقاً للإجراءات، مثل استخدام العفو الرئاسي للمحكومين بإسقاط المتبقي من عقوبتهم السجنية عنهم، أو إطلاق السراح بالنسبة للمنتظرين، أي الذين ما زالوا قيد المحاكمة، ومع انهيار هذه المنظومة العدلية، فإن التقدير متروك لإدارات السجون، كلاً على حدة، وتالياً فإن فتح السجون بالطريقة التي حدثت لا غبار عليه من الناحية القانونية، ويتوافق مع منظومة القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ودلل القاضي السوداني السابق على ذلك، بأن الرئيس السابق ومعه عدد من القيادات العسكرية مثل بكري وعبد الرحيم حسين، لم يطلَق سراحهم كونهم في الحبس في مستشفى عسكري بأمر من القضاء، ولم يثبت أنهم خرجوا، مبيّناً أن سير إجراءات المحاكمة لن تتأثر بفتح السجون، فإن لم يعُد المسجونون إلى السجن ولم يحضروا إلى المحكمة فإنها تقوم بالإجراءات غيابياً أو بحضور محامي الدفاع.
وتطرق صندل إلى المسجونين السياسيين، موضحاً أن المسجونين السياسيين لا يواجهون كلهم تهماً سياسيةً بل إن بعضهم يواجهون تهماً جنائيةً عاديةً، مثل الفساد والقتل، وبالنسبة إلى التهم السياسية مثل انقلاب الثلاثين من حزيران/ يونيو، فإن النائب العام يمكنه استخدام سلطته في سحب البلاغ من المحكمة الخاصة، مما يعني شطب البلاغ وإطلاق سراح المتهمين الذين ليست لديهم بلاغات أخرى، مبيّناً أن تداعيات هذه المسألة ستستمر لبعض الوقت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون