لا أنا ولا غيري من المصريين داخل بلادنا نستطيع تعليق الجرس في رقبة القط، وتسمية الأشياء بأسمائها، والتحذير من غرق وشيك بعد تجريف عمومي. أسكت خوفاً، لكني لا أتوارى خلف أكاذيب، يعي قائلوها أنها أكاذيب، ويشيرون بأصابع الاتهام إلى البرْدعة، ويحمّلون المسؤولية لحكومة تنفذ الأوامر. وتتعدد مظاهر العنف، يأساً أو سُعاراً. لا يختلف فقير ينحر أولاده وينتحر، عن قاض متربّح تغريه الحصانة والنفوذ والثروة بالقتل. وفي جنون ما قبل النهاية، لا ذكر لارتهان المستقبل بإرادة واحد أحد، هزم الأحزاب وحده، يحلم ويشرّع، ويأمر فينفذون، وما المؤسسات الدستورية إلا واجهات. ومن واجهة البرلمان أنقل أرقاماً تذكّر بسنوات ما قبل احتلال مصر.
احتل الجيش البريطاني مصر عام 1882، وإلى جزيرة سريلانكا نفي الزعيم أحمد عرابي ورفاقه. هناك أرسل إليهم اليابانيون رسلاً يسألون عما جرى في مصر، بالأحرى عما جرى لمصر. طلبوا النصيحة، فأوجزها عرابي في كلمتين: "إياكم والديون".
وفي آذار/مارس 2019 قال وزير المالية محمد معيط لمذيع مصري حكومي إن على مصر سداد 541 مليار جنيه فوائد، و276 ملياراً أقساط ديون. طولبت مصر، عام 2019، بدفع 817 مليار جنيه فوائد وأقساط مستحقة. وبسؤال الوزير عن الفجوة بين الدخل والإنفاق، أجاب: "أستلف تاني". وهنا أستعيد ما ذكره النائب ضياء الدين داود، في البرلمان يوم 19 حزيران/يونيو 2022، اعتراضا على ميزانية 2022 ـ 2023.
ماذا أسمّي ما يجري في مصر الآن؟ معالم تتغير، وملامح تمحى. انتقام من ثروة المدينة العجوز، أحقاد تصب في مشروع كيان جديد يجيّشون له مؤسسات الدولة
الناشب استعرض، بالأرقام، الديون والفوائد والأقساط، مقارناً بين موازنة عام 2010 ـ 2011، وموازنة عام 2022 ـ 2023:
في عام 2010 ـ 2011 بلغت الفوائد 85.1 مليار جنيه، وكانت تمثل 21.2 في المئة من المصروفات. وفي عام 2022 ـ 2023 أصبحت الفوائد 690 مليار جنيه، وتمثل 33 في المئة من المصروفات.
في عام 2010 ـ 2011 كانت الأقساط 82.2 مليار، تمثل 16.8 من الاستخدامات. وفي عام 2022 ـ 2023 أصبحت 965 ملياراً، تمثل 31.5 في المئة من الاستخدامات.
في عام 2010 ـ 2011 كان إجمالي الأقساط والفوائد 167 ملياراً، بنسبة 34 في المئة. وفي عام 2022 ـ 2023 صعد إلى 1655 ملياراً. قال دواد: "هذا الرقم مرعب. الشعب كله يشتغل لصالح الدائنين".
في عام 2010 ـ 2011 كانت القروض 201 مليار، تمثل 40.3 في المئة من الموارد. وفي عام 2022 ـ 2023 أصبحت 1523 ملياراً، تمثل 49.7 في المئة من الموارد.
وفي ظل موازنة متقشّفة، استنكر النائب الإغداق ببذخ على أعضاء الهيئة الوطنية للانتخابات (يفترض أنها مستقلة). مكافأة جهود غير عادية كل ثلاثة شهور 30 ألفا لكل عضو. مكافأة 36 ألفاً لكل عضو في عيد الفطر. بدل مصيف 20 ألفاً لكل عضو. منح 72 ألفاً للعضو في كل شهر في يوليو أغسطس وسبتمبر، "يعني 216 ألفاً (للعضو في هذه الشهور الثلاثة) في بلد يستدين".
ما الذي ورطني في هذه الأرقام؟ كيف أحب الاقتصاد، وقد زادت مصروفات بيتي على إجمالي الدخل؟
كنت مشغولاً بدراما كفيلة، لو وافق الإمبراطور، بتغيير مسار التاريخ وخرائط الجغرافيا. قبل سنوات قرأت أن محمد علي اقترح على نابليون، أن يعيده إلى فرنسا داخل تجويف ماسورة، في سفينة بضائع. وانحاز نابليون إلى كبريائه. نسيت أي كتاب وثّق هذه المعلومة. وبحثت في عدة كتب، ولم أعثر على ما أريد. وصادفتني معلومة أخرى في كتاب "محمد علي الكبير"، تأليف الأمير عثمان إبراهيم وعلي كورخان (وهما من أسرة محمد علي) وكارولين كورخان. وقد أقام الباشا حفلات ضخمة، عند زواج ابنته نازلي بمحمد بك الدفتردار، "وجُهز سكن العروس بعناية. ولتسيير العربات حيث كدس فيها جهاز وهدايا، لم يتورع الباشا عن هدم المساكن الموجودة في الشوارع شديدة الضيق. وقد أفلس البعض ليقدم هدايا تليق بالحدث".
تحيرني سيكولوجية التفكيك والنسف، وتفريغ العمران، والاستهانة بالذاكرة. ماذا أسمّي ما يجري في مصر الآن؟ معالم تتغير، وملامح تمحى. انتقام من ثروة المدينة العجوز، أحقاد تصب في مشروع كيان جديد يجيّشون له مؤسسات الدولة. جرافات تسحق آثاراً تشمل الأشجار والحدائق والمقابر والعوامات. هوس بالأسمنت المسلح، ومباهاة بالقبح. لن يكون ميسوراً فهم أحداث "قصر الشوق" و"ثرثرة فوق النيل" و"العوامة 70"، بعد تخزين العوامات وتهجير أصحابها. لحقت العوامات النيلية الأثرية بكوبري أبو العلا الأثري. في عام 1998 تكلف تفكيك كوبري أبو العلا أربعة ملايين جنيه، وجادلت الحكومة آنذاك بإعادة تركيبه بموازاة كورنيش النيل، وتحويله إلى ممشى، مزار تقام فيه أنشطة ثقافية وفنية.
عوامة في النيل
فشلت ثورة 25 يناير إلا في محو اسم محطة مترو حسني مبارك، محطة "الشهداء" حالياً. الاسم الجديد يثير حنق السلطة الكارهة للثورة، لكنه دليل على أن ثورة عبرت من هنا. لولا تغيير اسم محطة المترو، في النشوة الثورية، لسمي ميدان رمسيس، أعلى المحطة، "ميدان حسني مبارك"؛ تكريماً لرئيس حرامي بحكم قضائي نهائي لا يقبل النقض. لعل الحكم أهين بتكريم الرئيس اللص بجنازة عسكرية، بالمخالفة لأعراف تقضي بعدم منح هذا الشرف لمن أدين بارتكاب جريمة تخل بالشرف. ذهب مبارك ملعوناً، وبقي "ميدان رمسيس" بدون تمثال الملك الذي اقتلعوه من وسط القاهرة عنوة.
لحظة تحرك موكب تمثال رمسيس، فجر الجمعة 25 آب/أغسطس 2006، ودّعنا الملك بالدموع والزغاريد. ولم تنم القاهرة. كانت ابنتي "سلمى" (عشر سنوات آنذاك) تمسك بيدي، وأصرت "ملك" (أقل قليلاً من أربع سنوات) على أن أحملها فوق كتفي، في المسافة من ميدان رمسيس إلى ميدان التحرير، ورفضتْ أن نسبق الملك بمسافة لا تستطيع فيها رؤية وجهه الذي يعانق البنايات الشاهقة. كلما حاولتُ اختصار الطريق بالسير في شوارع جانبية بعيداً عن الموكب، بكت وأشارت إلى التمثال، وضربت صدري بقدميها، ورأسي بيديها، ونادت وهي تبكي: "لا يا بابا. رمسيس رمسيس".
في مصر الآن حِرف تحتضر. وأمام الاحتضار، وحياة كالموت، لا عزاء إلا في خرافة يستعان بها على جنون العاصفة
بمثل هذه الدموع فارق أصحاب عوامات النيل أعمارهم وذكرياتهم. ويودع آخرون رفات ذويهم التي يتم سحقها وتغريبها، بدلاً من تحويل مقابر العظماء إلى مزارات، لولا فقر خيال قادة الجرافات. جنون الإزالات والنسف والتفريغ يذكّر بالفترات التالية للاحتلال. السفاح سليم فعل هذا بمصر، وقضى على المئات من الصنائع، بعد ترحيل المهرة من الأسطوات إلى بلاده.
وفي مصر الآن حِرف تحتضر. وأمام الاحتضار، وحياة كالموت، لا عزاء إلا في خرافة يستعان بها على جنون العاصفة. لعل للقصة ظلالاً من حقيقة، وبطل الواقعة هو النبي سليمان الذي أرهق الجن في تشييد عرشه، واشتكى شيوخ الجن إلى إبليس. حثهم على الصبر؛ فهم يستريحون نهاراً. علم سليمان بالشكوى فأمرهم بحمل الأثقال ليلاً ونهاراً، وتسلل شيوخهم إلى إبليس عاتبين، فسألهم: ألا تذهبون بالأثقال، وتعودون بالمقاطف فارغة؟ وأحيط سليمان علماً، ففرض عليهم حمل الأثقال جيئة وذهاباً، ليلاً ونهاراً. وحين أبلغت الجن إبليس أن الجبار ضاعف العذاب بسبب مشورته، تبسم إبليس قائلاً: "أبشركم بالفرج"، ومات سليمان.
محمد علي سحق المصريين؛ ليصنع من أعمارهم زيتاً يسهّل دوران آلات حكمه. راهن المصريون على الوقت، ولم يقاوموا على العكس من السودانيين الذين احتالوا، وواجهوا ابن محمد علي بأقصى درجات العنف. إذا كان آخر الدواء الكيّ، فإن الحرق قد يكون آخر صور مقاومة الاستبداد.
أرسل محمد علي ابنه إسماعيل إلى منطقة شندي السودانية، عام 1822، لقمع تمرد نتج عن ضرائب باهظة فرضها الولاة الأتراك. تقمص إسماعيل باشا شخصية أبيه الباشا صاحب مذبحة القلعة. واستدعى زعيمي شندي (المك نمر والملك مساعد). إسماعيل وبّخ الملك نمر، واتهمه بإثارة الفتنة، وأهانه بفرض غرامة تعجيزية من الأموال والعبيد والماشية. أوضح الملك صعوبة الدفع، فضربه الباشا بالغليون أمام قومه.
أفلتت لحظة مضيئة، سلمية، أتاحتها ثورة 25 يناير 2011، وبقيت الفكرة ملهمة، أكبر من محاولات قمعها
الملك نمر لم يقف في وجه العاصفة، وأبدى الموافقة. ثم دعا إسماعيل إلى عشاء. وأثناء ذلك طوّق أتباعه الحفل بالقش والحطب، ثم أضرموا النيران قبيل الفراغ من العشاء، وحاصرت النار الباشا ورجاله؛ فماتوا خنقاً وحرقاً. لم يكن العنف حلاً، فسرعان ما بدأت حملة انتقامية قادها الدفتردار، ثأراً لشقيق زوجته.
أفلتت لحظة مضيئة، سلمية، أتاحتها ثورة 25 يناير 2011، وبقيت الفكرة ملهمة، أكبر من محاولات قمعها. حين تتم تجربة أنواع أخرى من العلاج سوف نشفى، وساعتها سنقرأ أدبيات الاستبداد باعتبارها تنتمي إلى ماض أسود. ستقرأ الأجيال القادمة كلمات صلاح عبد الصبور في مسرحية "ليلى والمجنون" كتاريخ:
في بلد لا يحكم فيه القانون
يمضي فيه الناس إلى السجن بمحض الصدفة
لا يوجد مستقبل
في بلد يتمدد في جثته الفقر، كما يتمدد ثعبان في الرمل
لا يوجد مستقبل
في بلد تتعرى فيه المرأة كي تأكل
لا يوجد مستقبل.
في المستقبل، بعد زوال سحابة الاستبداد، سيكون هذا التراث أشبه بفيلم تاريخي، يصنعه الأحرار عن الثمن الباهظ لحرية لم يتمتع بها الأسلاف. نحن الأسلاف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين