أقطع الخلفاء العباسيون مُواليهم وقادتهم وجنودهم الأراضي في مختلف بقاع الدولة، وذلك لأسباب عدة، منها كسب موالين وتكوين شبكة أنصار قوية، واسترضاء فئات لها ثقل سياسي، وكذلك لحماية حدود الدولة من هجمات أعدائها، فضلاً عن تشجيع الناس على السكن في المناطق المُسيطَر عليها حديثاً.
وكان النبي محمد أول مَن أقطع أراضيَ في الإسلام، فأقطع أقواماً ليؤلف قلوبهم على الدين، كما أقطع الزبير بن العوام أرضاً في خيبر فيها شجر ونخل، حسب ما ذكر محمد ميسر بهاء الدين وعمر أحمد سعيد، في دراستهما "الإقطاع العسكري في العصرين البويهي والسلجوقي 334- 590هـ/ 945- 1198م)".
وعلى نهج النبي، أقطع الخلفاء الراشدون مَن رأوا أن في إقطاعه صلاحاً، فأقطع الخليفة أبو بكر الصديق طلحة بن عبيد الله وكتب له كتاباً بذلك وأشهد له ناساً. وبحسب الباحثيْن، كان الإقطاع في عهد الرسول والخلفاء الراشدين على شكل هِبة أو مكافأة يقدِّر الإمام حجمها وتُمنَح لأشخاص قدّموا خدمات كبيرة للإسلام.
ومارس الخلفاء الأمويون الإقطاع بشكل واسع، فأقطعوا الأراضي للأمراء والولاة وأقاربهم، واشترطوا فيها الإعمار، فإن لم تُعمّر القطعة خلال سنتين أُخذت من صاحبها.
واستمر العمل بهذا المنهج في العصر العباسي، وكان للخليفة الحق في إقطاع الأراضي لمَن يشاء، وسُمّي هذا النوع بـ"إقطاع التمليك"، وفيه يصبح المُقطع مالكاً للأرض، كسائر أمواله، فيحق له بيعها وتوريثها بعد موته، ويكون عليه دفع العُشر عنها. ويُقطع هذا النوع من الإقطاع من أراضي الموات (البور غير الصالحة للزراعة)، أو من الأراضي التي توفي صاحبها وليس له وريث، وأيضاً من أراضي الصوافي، أي التي حُررت أو فُتحت وتركها أصحابها.
أما النوع الثاني من الإقطاع فسُمّي "إقطاع الاستغلال"، ويُعطى لرجال الجيش والموظفين بدل الرواتب والأرزاق، أي أنه يُمنح نظير الخدمة، سواء مدنية أو عسكرية، ولكن تبقى نفس الأرض وخراجها لبيت المال، ذكر الباحثان.
حماية حدود الخلافة
وحمل إقطاع الأراضي أهدافاً عسكرية في كثير من الحالات، إذ كان وسيلة للدفاع عن أراضي الخلافة منذ عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان الذي أدرك أن الدفاع عن حدود الدولة الإسلامية يتطلب استقرار مقاتلين في المناطق الحدودية للمرابطة وجهاد العدو، حسب ما ذكر محمد حسن سهيل في كتابه "الإقطاع في الدولة العباسية 447-656هـ".
ويشرح الكاتب أنه كان من عادة العرب أن يتركوا مجموعة من المقاتلين في كل مدينة تُفتح كحاميات عسكرية هدفها حفظ الأمن وضمان استقرارها، وإذا حدث اضطراب فيها أو هاجمها العدو أُرسلوا إليها النجدات لمساعدة الحامية. ومنذ عهد والي الشام معاوية بن أبي سفيان، اتُّخذت التدابير اللازمة للدفاع عن السواحل والحصون، فقد أمر الخليفة عثمان بإرسال الجند إليها وإقطاعهم الأراضي والمنازل التي ليست ملكاً لأحد، أو التي جلا عنه أهلها.
ففي الثغور الشامية، أُقطع المقاتلون أراضيَ من أجل السكن، بهدف الدفاع عنها في وجه الدولة البيزنطية. فعلى سبيل المثال، اقتطعت في حصن "أذنة" أراضٍ للمقاتلين الذين جُلبوا من دمشق والأردن، كما أُقطع لـ300 مقاتل في حصن "المصيصة"، ثم زيد هذا العدد في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور وصار عدد مَن أُطعوا أراضيَ ألف مقاتل.
وفي أنطاكية، أقطع الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك جنده أراضيَ، وجعل الفلتر (مقداراً من الأرض مثل الفدان) بدينار. وفي العصر العباسي، أُقطع المقاتلون الذين جُلبوا من خراسان في منطقة تسمى "عين زربي"، بناها الرشيد سنة 180هـ على الحدود مع الدولة البيزنطية، حسب ما روى سهيل.
وفي بداية الخلافة العباسية، استغل البيزنطيون فترة الاضطراب ودمروا حصون المسلمين المهمة، فأعاد الخليفة أبو جعفر المنصور بناء حصن "ملطية" على حدود الشام مع الدولة البيزنطية، وأقطع أربعة آلاف جندي مساكن، بهدف حماية المنطقة من هجمات البيزنطيين.
وبحسب سهيل، كان الخليفة هارون الرشيد من أكثر خلفاء بني العباس اهتماماً بتنظيم الحدود مع البيزنطيين وتحصينها، ففي سنة 170هـ استحدث منطقة عسكرية جديدة سماها "العواصم"، وكان المقاتلون الذين يعسكرون فيها تُقطع لهم أراضٍ من أجل معاشاتهم وأرزاقهم هم وعائلاتهم، وذلك بهدف حماية الثغور الإسلامية من هجمات الروم والخزر، وكذلك إحياء الأراضي التي دمرها الروم وهجرها سكانها.
غير أن أراضيَ زراعية أخرى كانت تُقطع للمقاتلين من أجل زراعتها في أوقات السلم، لتوفير أرزاقهم مع عائلاتهم. فعندما أمر الخليفة المنصور بإعادة حصن ملطية، في العام 139هـ، أقطع الأراضي المحيطة بالحصن للجند لهذا الهدف، حسب ما ذكر سهيل.
وأعفيت الإقطاعات من الضرائب حتى العام 243هـ، عندما أمر الخليفة المتوكل بإلغاء الامتيازات الممنوحة لأصحاب الإقطاعات في الثغور بسبب عجز الميزانية.
امتيازت ومنح
في فترة النفوذ التركي داخل البلاط العباسي، أصبحت الإقطاعات العسكرية تُمنح للأمراء على شكل امتيازات ومنح إضافة إلى الراتب. ويذكر سهيل أن الخليفة المعتصم بالله (218- 227هـ) كان أول مَن استكثر من العنصر التركي في جيش الخلافة، فحاز القادة منهم إقطاعات واسعة عندما بنى المعتصم مدينة سامراء، بل وعزل قطائعهم عن قطائع الناس وجعلهم منفردين لا يختلطون بهم.
كان من عادة العرب أن يتركوا مجموعة من المقاتلين في كل مدينة تُفتح كحاميات عسكرية هدفها حفظ الأمن وضمان استقرارها، وإذا حدث اضطراب فيها أو هاجمها العدو أُرسلوا إليها النجدات لمساعدة الحامية
وأقطع الخليفة المتوكل (232- 247هـ) قادته الأتراك عدة قرى في سواد الكوفة، وذلك بطريقة "الضمان"، أي يعطي الخليفة قرية أو مدينة إلى رجل لمدة سنة مقابل مالٍ معلوم يسمى "مال المقاطعة"، فيستفيد الطرفان، ويتولى الضامن جباية الضرائب، وكان ذلك سبباً في استفحال أمر القادة الأتراك بسبب الإقطاعات الممنوحة لهم، بحسب سهيل.
وفي عهد الخليفة المقتدر (295- 320هـ) كثر شغب الجند لمطالبتهم برواتبهم، خصوصاً أن الأموال التي وفرّها الخليفة لم تكن تكفي لذلك، فأمر سنة 302هـ باسترجاع الإقطاعات من القادة وأفرد لها ديواناً سُمي بـ"ديوان المرتجعات".
استرضاء الموالين والأنصار
حقق إقطاع الأراضي هدفاً سياسياً آخر، إذ كان إحدى الوسائل المهمة لاسترضاء وتقريب الموالين من القادة وتكوين شبكة قوية من الأنصار، حسب ما ذكر عبد الستار مطلك درويش، وأميمة قاسم يحيى، في دراستهما "الاسترضاء بمنح الإقطاعات في العصر العباسي 132-656هـ/ 749-1258م".
وحقق العباسيون هذا الهدف، لا سيما مع وجود كثير من الأراضي الواسعة التي حصلوا عليها، سواء تلك التي انتلقت إليهم من الأمويين، أو أراضي البوار، أو المدن الجديدة التي أنشأوها، كما قدّمت الطواعين التي تُهلك الناس مصدراً آخر من مصادر الأراضي التي بلا مالك، فكانت تؤول ملكيتها للخلافة، إضافة إلى المصادرات التي كانت تقوم بها الدولة ضد أحد خصومها أو أعدائها، مثل مصادرة أملاك البرامكة في عهد الخليفة هارون الرشيد.
وبحسب درويش ويحيى، وجد الخليفة المنصور في مدينة بغداد أرضاً سانحة ليقطعها لقادته ورجاله، فأقطع أحد قادته ويدعى مقاتل بن حكيم بن عبد الرحمن بن الحارث أرضاً بين باب البصرة وباب الكوفة، ومنح قائداً آخر من خراسان يدعى "أبي النجم" أرضاً في الجانب الغربي من بغداد، كما أقطع عمه العباس منطقة نهر الأمير في واسط.
وبالنظر إلى خريطة الإقطاعات في عهد الخليفة المنصور، نجد أن أهل بيته مُنحوا إقطاعاتهم على أطراف المدينة، بينما توزعت إقطاعات القادة بين وسط المدينة وأبوابها، أما الجنود فإن إقطاعاتهم كانت في بساتين المدينة.
حقق إقطاع الأراضي هدفاً سياسياً، إذ كان إحدى الوسائل المهمة لاسترضاء وتقريب الموالين من القادة وتكوين شبكة قوية من الأنصار
ولم يبخل الخليفة المنصور في منح عدد من الشعراء، باعتبارهم من الموالين، بعض الإقطاعات، كما فعل مع "أبو دلامة"، حينما منحه إقطاعاً مقداره مئة جُريب (وحدة لقياس الأرض).
وبحسب الباحثين، سار الخلفاء العباسيون على نفس النهج، فأقطع الخليفة المهدي أنصاره قطيعة "الأنصار"، وسميت بذلك لأن الخليفة منحها لأنصاره، ومنح الخليفة المأمون أراضيَ لجند خراسان بهدف تسكينهم بغداد، بينما كان تأسيس مدينة سامراء في عهد الخليفة المعتصم فرصة مواتية له لاسترضاء جنوده الأتراك فمنحهم فيها إقطاعات كثيرة وواسعة.
الإقطاع العسكري
يذكر عبد العزيز الدوري في كتابه "مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي"، أن الإقطاع في القرن الرابع الهجري تأثر بالظروف السياسية التي شهدتها بغداد آنذاك، إذ تغلغل البويهيون في مراكز الخلافة وسيطروا على مراكز صنع القرار، وسلبوا الخليفة كل سلطة، وشهد عهدهم بداية نشوء نظام الإقطاع العسكري.
فبدلاً من أن يدفع البويهيون رواتبَ لجندهم ذهبوا إلى إقطاعهم الأراضي والقرى، يأخذون من وارد ضرائبها بدلاً من الرواتب، وهكذا قامت بداية الاستقطاع العسكري، إذ وُزعت الأراضي بالإقطاع على الجند والقادة.
وبحسب الدوري، يختلف هذا الإقطاع عن النوعين المعروفين، واللذين عُمل بهما من قبل، وهما "إقطاع التمليك" و"إقطاع الاستغلال"، فـ"إقطاع التمليك" يُفترض فيه أن يكون من أرض الموات لإحيائها أو من أرض الصوافي، ويُعطي صاحبه حق الملكية ويدفع عنه العشر، و"إقطاع الاستغلال" موقّت، وشبيه بالمزارعة، ويدفع صاحبه عادة الخراج.
أما إقطاع البويهيين فهو في الأساس إقطاع لأراض لها زُراعها وملاكوها، إلى الجند والقادة، ما أدى إلى أن يصبح الزُراع والفلاحون تحت رحمة المقطعين العسكريين، وكان هدف هذا النوع من الإقطاع معالجة قضية رواتب الجند.
وكان من المفروض أن يدفع المقطع شيئاً من المال للخزينة، وأن يتكفل بنفقات الري، وأن تشرف الدواوين على الجباية، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، وتصرف المقطعون وكأن الأرض ملكهم، فأدى ذلك إلى خراب قسم من الإقطاعات لأن الجند لم يكن يهمهم إلا جمع المال، وكان مألوفاً أن يخرب الجنود إقطاعاتهم ثم يردونها ويعتاضون عنها بقطع يختارونها، بحسب الدوري.
وما زاد من سوء الحال هو اعتماد المُقطعين على وكلاء لإدارة إقطاعاتهم دون خبرة ودراية كافيين، فتدهور وضع الزُراع وساءت أحوالهم، وتعرضوا للظلم والإفقار، ما ترتب عليه هروبهم من أراضيهم إلى مناطق أخرى، ومن ثم تراجع النشاط التجاري، وتعرض التجار للمصادرات والضرائب الكثيرة نتيجة تجزئة أراضي الخلافة، وكل ذلك أدى إلى اضطراب الأوضاع العامة، ذكر الدوري.
ولم يختلف الوضع كثيراً في عهد السلاجقة، إذ ساد الإقطاع العسكري مثلما كان أيام البويهيين، وكان يُفترض أنه لفترة محددة، لكنه اتجه في ما بعد إلى الوراثة، وصار الإقطاع يقاس بعدد الجند المماليك والرقيق الذين يعليهم المُقطع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.