في عصر الدولة الأموية، ظهرت بعض المغنيات اللواتي حظين بشهرة كبيرة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومنهن عزة الميلاء التي أفرد لها أبو الفرج الأصفهاني، في موسوعته الشهيرة "الأغاني"، أجزاءاً واسعة للحديث عنها، خاصة أنها غنت في مجالس حضرها حسان بن ثابت، شاعر النبي محمد، كما أن أبناء الصحابة كانوا يستشيرونها في أمر خطبتهن للنساء.
من هي عزة الميلاء؟
لعلّ جميع الأخبار التي نُقلت عن عزة الميلاء، كان مصدرها الأصفهاني في "الأغاني"، والذي يُعرّفها بالقول: "كانت مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنّى الغناء الموقع من النساء في الحجاز، وكانت من أجمل النساء وجهاً، وأحسنهن جسماً، وسُميت الميلاء لتمايلها في مشيها، وقيل: بل كانت تلبس الملاء، وتُشبه بالرجال، فسُميت بذلك، وقيل: بل كانت مغرمة بالشراب، وكانت تقول: خذ ملئاً واردد فارغاً، ذكر ذلك حماد بن إسحاق، عن أبيه، والصحيح أنها سُميت الميلاء لميلها في مشيتها".
ويُنسب إلى الميلاء دخول الغناء إلى المدينة المنورة.
يروي الأصفهاني عن إسحاق قوله: "ذكر لي ابن جامع، عن يونس الكاتب، عن معبد، قال: كانت عزة الميلاء ممن أحسن ضرباً بعود، وكانت مطبوعة على الغناء لا يعيبها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغني أغاني القيان من القدائم، مثل سيرين، وزينب، وخولة، والرباب، وسلمى، ورائفة، وكانت الأخيرة أستاذتها، فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسية، فلقنت عنهما نغماً، وألفت عليهما ألحاناً عجيبة؛ فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء وحرض نساءها ورجالها عليه".
ويصف المؤلف جرجي زيدان، في كتابه "الحجاج ابن يوسف"، الميلاء قائلاً: "كان من أهل المدينة في أواسط القرن الأول للهجرة مغنية يُقال لها عزة الميلاء... وكان العرب يومئذ لا يعدون الغناء من الصنائع اللائقة بأهل الشرف، على أن عزة كانت مع ذلك ذات دين حسن وهيبة ووقار، إذا جلست للغناء في حفل عام، أنصت لها الحاضرون وكأن الطير على رؤوسهم".
واشتهرت الميلاء في المدينة، وأُعجب بها مشايخها.
يقول إسحاق نقلاً عن الزبير إنه "وجد مشايخ أهل المدينة إذا ذكروها، قالوا لله درها ما كان أحسن غناءها، ومد صوتها، وأندى خلقها، وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها، وأكرم خلقها، وأسخى نفسها، وأحسن مساعدتها"، متابعاً بالقول: "حدثني أبي، عن سياط، عن معبد، عن جميلة السلمية (موسيقية ملحنة كانت أعلم المغنيين والمغنيات في العرب بصناعة الغناء) بمثل ذلك من القول فيها".
سيدة من غنّى من النساء
كان كثير ممن يحبون الغناء من الرجال ويهتمون به في هذا الوقت، يأتون إلى عزة الميلاء ليتعلموا منها.
وفقاً لمؤلف "الأغاني"، "كان ابن سريج في حداثة سنه يأتي المدينة، فيسمع من عزة ويتعلم غناءها، ويأخذ عنها، وكان بها معجباً، وكان إذا سُئل من أحسن الناس غناءاً؟، قال: مولاة الأنصار المفضلة على كل من غنى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء".
ويُضيف الأصفهاني: "كان ابن محرز (مُغنٍّ حجازي فارسي) يُقيم في مكة ثلاثة أشهر، ويأتي المدينة فيُقيم فيها ثلاثة أشهر من أجل عزة، وكان يأخذ عنها"، ونقل عن إسحاق قوله أيضاً: "وحدثني الجمحي، عن جرير المغني المديني، أن طويساً (عيسى بن عبد الله، أشهر من غنى في المدينة بالعربية)، كان أكثر ما يأوي إلى منزل عزة الميلاء، وكان في جوارها، وكان إذا ذكرها يقول: هي سيدة من غنّى من النساء، مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس؛ تأمر بالخير وهي من أهله، وتنهي عن السوء وهي مجانية له، فناهيك ما كان أنبلها، وأنبل مجلسها".
"كان من أهل المدينة في أواسط القرن الأول للهجرة مغنية يُقال لها عزة الميلاء... وكان العرب يومئذ لا يعدون الغناء من الصنائع اللائقة بأهل الشرف، على أن عزة كانت مع ذلك ذات دين حسن وهيبة ووقار، إذا جلست للغناء في حفل عام، أنصت لها الحاضرون وكأن الطير على رؤوسهم"
ووفقاً للمرويات، كان حضور الميلاء في المجلس له احترامه وهيبته من الجميع، فيقول إسحاق: "كانت إذا جلست جلوساً عاماً فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها، من تكلم أو تحرك نقر رأسه، وحدثني أبو عبد الله الأسلمي عن معبد أنه أتاها يوماً وهي عند جميلة وقد أسنت، وهي تغني على معزفة في شعر ابن الإطنابة (عمرو بن عامر بن زيد مناة الكعبي الخزرجي):
"عللاني وعللا صاحبيا واسقياني من المروق ريا"
ثم عقب على ذلك بالقول: "فما سمع السامعون قط بشيء أحسن من ذلك، قال معبد: هذا غناؤها وقد أسنت، فكيف بها وهي شابة".
ابن أبي ربيعة يشق ثيابه
يُطلعنا الأصفهاني على الحال الذي وصل إليه بعض الرجال بسبب جمال صوت عزة، والذي وصل حد شق الثياب، فيقول: "قال إسحاق: وذكر لي عن صالح بن حسان الأنصاري، قال: كانت عزة مولاة لنا، وكانت عفيفة جميلة، وكان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وابن أبي عتيق، وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنيهم، وغنت يوماً عمر بن أبي ربيعة لحناً لها في شيء من شعره، فشق ثيابه، وصاح صيحة عظيمة صعق معها، فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب، قال: إني سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي".
وفي السياق ذاته، يروي ابن إسحاق: "حدثني مصعب الزبيري، عن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، عن أبيه عن جده، قال: كان في المدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه، وكان يغشى عبد الله بن جعفر، فسمع جارية مغنية لبعض النخاسين تغني: بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا؛ فاستهتر بها وهام، وترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء وطاوس فلاماه، فكان جوابه لهما أن تمثل بقول الشاعر: يلومني فيك أقوام أجالسهم فما أبالي أطار النوم أم وقعا".
وعندما بلغ عبد الله بن جعفر خبره، بعث إلى النخاس، فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت، وقال لها: "ممن أخذته؟"، قالت: "من عزة الميلاء"، فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره، فأعلمه إياه وصدقه عنه، فقال له: "أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية، قال نعم، فدعا بعزة وقال لها: غنيه إياه، فغنته، فصعق الرجل، وخر مغشياً عليه"، فقال ابن جعفر: "أثمنا فيه، الماء، الماء"، فنضح على وجهه، فلما أفاق قال له: "أكل هذا بلغ بك عشقها؟"، قال: "وما خفي عنك أكثر".
لقاء عزة الميلاء بشاعر النبي
يُقال إن الصحابي حسان بن ثابت، شاعر النبي، أعجب بها، وحضر مجلساً غنت فيه من شعره. وقال حسان الأنصاري، وفقاً لما نقله الأصفهاني: "حدثني أبو عبد الله الأسلمي المدني، وقال: كان حسان بن ثابت معجباً بعزة الميلاء، وكان يقدمها على سائر قيان المدينة".
أما عن لقائهما، فيروي قصته صاحب "الأغاني": "أخبرني حرمي، عن الزبير، عن محمد بن الحسن المخزومي، عن محرز ابن جعفر، قال: ختن زيد بن ثابت الأنصاري بنته، فأولم، فاجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامة المدينة، وحضر حسان بن ثابت وقد كف بصره يومئذ، وثقل سمعه... وأقبلت الميلاء وهي يومئذ شابة، فوضع في حجرها مزهر، فضربت به، ثم تغنت، فكان أول ما ابتدأت به شعر حسان: ′فلا زال قبر بين بصري وجلق عليه من الوسمي جود ووابل′، فطرب حسان، وجعلت عيناه تنضحان، وهو مصغ لها".
والي المدينة يطالب الميلاء بوقف الغناء
نُسب إلى عزة الميلاء أنها فتنت الرجال والنساء بالغناء، حتى أن والي المدينة الذي تقول بعض المرويات إنه كان سعيد بن العاص، حاول منعها من الغناء.
نترك الأصفهاني يروي لنا القصة نقلاً عن ابن إسحاق: "حدثني ابن سلام، عن ابن جعدبة، قال: كان ابن أبي عتيق معجباً بعزة الميلاء، فأتى يوماً عند عبد الله بن جعفر، فقال له: بأبي أنت وأمي هل لك في عزة، فقد اشتقت إليها، قال: لا، أنا اليوم مشغول، فقال: بأبي أنت وأمي إنها لا تنشط إلا بحضورك، فأقسمت عليك إلا ساعدتني وتركت شغلك، ففعل".
ويُواصل ابن إسحاق سرد الرواية: "فأتياها ورسول الأمير على بابها يقول لها: دعي الغناء، فقد ضج أهل المدينة منك، وذكروا أنك قد فتنت رجالهم ونسائهم، فقال له ابن جعفر: ارجع إلى صاحبك فقل له عني: أقسمت عليك ألا ناديت في المدينة أيما رجل فسد أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نفسه بذلك لنعرفه، ويظهر لنا ولك أمره، فنادى الرسول بذلك، فما أظهر أحد نفسه، ودخل ابن جعفر إليها وابن أبي عتيق معه، فقال لها: لا يهولنك ما سمعت، وهاتي فغنينا، فغنته بشعر القطامي (عمير بن شييم بن عمرو بن عباد) ′إنا محيوك فاسلم أيها الطلل وإن بليت، وإن طالت بك الطيل′، فاهتز ابن أبي عتيق طربا، فقال عبد الله بن جعفر: ما أراني أدرك ركابك بعد أن سمعت هذا الصوت من عزة".
ويُقال إنه بسبب هذا الموقف من الوالي، وكذلك تحريم بعض المسلمين للغناء، كادت عزة الميلاء أن تتركه لولا تدخّل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .
لقاء الميلاء بالشاعرة ليلى الأخيلية
خلال العصر الأموي أيضاً، كانت هناك شاعرة مشهورة تُدعى ليلى الأخيلية، وكانت تجمعها قصة حب بتوبة بن الحمير الخفاجي، أحد شعراء العصر، ولكنهما لم يتزوجا، إلا أنه يُقال إنه ظل يُنشد فيها شعراً حتى توفي، وكان لهذه الشاعرة لقاء مع عزة الميلاء، يحكيه المؤلف جرجي زيدان، في "الحجاج بن يوسف".
يقول زيدان: "كان طويس عند عزة، وطرق الباب، فقالت له: اخرج إلى الطارق واطلب إليه أن يريك وجهه أو يذكر لك اسمه"، فذهب وبعد غياب طويل، عاد وهو يقول: إن صاحبنا من أهل البادية ويهوى الغناء، وقد جاء لسماع عزة الميلاء، وقد سألتُه عن اسمه فأبى أن يخبرني به، ولما ألححت عليه قال إنه لا يقول اسمه ولكنه أنشدني هذين البيتين: ′وذي حاجة قلنا له لا تبح بها فليس إليها ما حييتَ سبيل، لنا صاحب لا ينبغي أن نِخونه وأنتَ لأخرى صاحب وخليل′، وطلب أن أخبرك أنه قائلهما، فلما سمعت عزة قول طويس بغتت وتبسمت، ولولا ثقل بدنها لوثبت إلى الباب لاستقبال ذلك الضيف، فقال لها طويس: ما بغتك يا عزة؟، قالت: ألا تعرف قائل هذا الشعر، قال: كلا، ومن هو؟، قالت: لو أني سمعت لفظ قائله لعرفته ولو كان في غير هذا الشعر، ألم ترَ أنه يلفظ حرف المضارعة مكسوراً مثل أهل بهرا؟، قال: أظنني لحظت ذلك فيه، ولكن ماذا في هذا؟، قالت: ويلك! هذه ليلى الأخيلية الشاعرة، وهذا الشعر شعرها وهي تكسر حرف المضارعة في لفظها أيضاً".
ويتابع المؤلف سرد الرواية: "قال طويس: إذا كانت هذه هي ليلى فقد تمّ حظنا؛ لأني أسمع بشعرها وحديثها مع توبة الذي كان يهواها، فهل أدعوها؟، قالت: كيف لا وهي صديقتي ويندر أن تنزل إلى المدن إلا لحاجة ماسة؛ لأنها تقطن البادية، فأسرع طويس مهرولاً حتى أتى الباب ففتحه، ورحب بليلى وجعل ينظر إلى قامتها ويلاحظ مشيتها وهي ملتفة بالعباءة وطولها يندر في النساء".
لم يتمكن طويس من رؤية وجه ليلى الأخيلية؛ لأنها كانت ما زالت ملثمة، فلما أقبلت على القاعة نهضت عزة وسارت لاستقبالها عند الباب وهي تقول: "مرحبا بليلى، أهلا بك يا حبيبة، لقد بالغت في الاختفاء حتى أسأنا معاملتك وأخّرناك، قالت ذلك وتناولت وسادة فوق البساط وثنتها وأجلستها عليها".
ويواصل زيدان رواية الحادثة، حيث "قالت ليلى بصوتها الجهوري الذي لا يكاد يشبه أصوات النساء: لا بأس عليك، وإن لم يكن ذلك ذنبي؛ لأني كنت أحسبك تعرفينني من صوتي ولهجة كلامي. وفي هذه الأثناء، كان طويس واقفاً بالباب يتشوق لرؤية وجه ليلى، لكنها بقيت ملثمة لا تلتفت إليه، كأنها تتوقع خروجه لتخلو إلى عزة، فأدركت الأخيرة ما في نفسها فقالت: لا تحتجبي يا ليلى منه، إنه طويس المغني"، فضحكت ونظرت إليه وأزاحت اللثام وهي تقول: "أهذا هو طويس المشهور بالشؤم؟ لقد تمّ سرورنا بلقياه!".
قيل: "كان الرجل من أهل الوجاهة إذا أراد التزوج بفتاة لا يعرفها استشار عزة ووسّطها في خطبتها أو استطلاع مدى جمالها وصحتها"... عزة الميلاء كانت من أشهر المغنيات في العصر الأموي، وشغلت الرجال والنساء معاً، كما نقل أبو فرج الأصفهاني قصتها
فلما أزاحت ليلى النقاب بان تحته وجه يتدفق مهابة وعينان دعجاوان، وثغر حسن، وآثار الصحة بادية في وجهها من سكنى البر؛ فدهش طويس من جمالها، ولما رأى استئناسها به فرح، وقال وهو يمشي نحو البساط الذي كانت هي جالسة عليه: "إن سروري تمّ بلقياك أيتها الشاعرة البارعة، وقد كنت أعجب لما أسمعه من شغف توبة بك وإشادته في الأشعار بذكرك وأنت زوجة لسواه، فلما رأيت هذا الوجه علمت السر الذي دعاه إلى ذلك".
وعندما سمعت ليلى اسم توبة علا وجهها الاحمرار وكأنها خجلت وطأطأت رأسها حياء، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: "وهل سمعت شيئاً من قوله؟"، قال: "سمعت كثيراً، ولكنني أذكر هذه الأبيات فقط:
"ولو أن ليلى الأخيلية سلَّمت عليَّ ودوني جندل وصفائح
لسلَّمت تسليم البشاشة أو رفا إليها صدًى من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أناله ألا كل ما قرت به العين صالح".
بحسب زيدان، لم يتم طويس كلامه حتى اصفرّ وجه ليلى، وأدركت عزة ذلك فيها فأحبت الترفيه عنها فدعتها إلى الطعام والغسل، فشكرتها وذكرت أنها لا تحتاج إلى شيء من ذلك، وإنما جاءت لزيارتها ساعة لتسمع حديثها وتطرب بغنائها ثم تنصرف.
وبحسب مؤلف كتاب "الحجاج بن يوسف"، قالت عزة: "لعلك قادمة من الشام؟، قالت: نعم، وقد وصلت إلى المدينة الساعة، وكان معي رفيق خلَّيته في مكان وجِئت إليك على أن أعود إليه عاجلاً".
الصحابي نعمان بن بشير يلتقي عزة
ما يدل على حب بعض الصحابة لغناء عزة الميلاء، ما رواه الأصفهاني في "الأغاني"، بعد أن ذكر تواتر الرواية إلى أن وصلت إليه: "دخل النعمان بن بشير المدينة في أيام يزيد بن معاوية وابن الزبير، فقال: والله لقد أخفقت أذناي من الغناء، فأسمعوني، فقيل له: لو وجهت إلى عزة الميلاء، فإنها من قد عرفت، فقال: إي ورب الكعبة، إنها لممن تزيد النفس طيباً، والعقل شحذاً، ابعثوا إليها عن رسالتي، فإن أبت صرت إليها، فقال له بعض القوم: إن النقلة تشتد عليها، لثقل بدنها، وما بالمدينة دابة تحملها، فقال: وأين النجائب عليها الهوادج؟، فوجه إليها بنجب، فذكرت علة، فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه: أنت كنت أخبر بها، قوموا بنا، فقام هو مع خواص أصحابه حتى طرقوها، فأذنت وأكرمت واعتذرت، فقبل النعمان عذرها، وقال لها غني، فغنت:
أجد بعمرة عنيانها فتهجر أم شاننا شانها
وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها".
وقال: "أشير إليها أنها أمه، فأمسكت، فقال: غني، فوالله ما ذكرت إلا كرماً وطيباً، ولا تغني سائر اليوم غيره، فلم تزل تغنيه هذا اللحن فقط حتى انصرف".
الميلاء... خاطبة النساء لأبناء الصحابة
في تعداد مآثر عزة الميلاء، يقول زيدان: "كان الرجل من أهل الوجاهة إذا أراد التزوج بفتاة لا يعرفها استشار عزة ووسطها في خطبتها أو استطلاع مدى جمالها وصحتها".
ويتفق مع ذلك الرأي ما نقله المؤلف شهاب الدين النويري، في كتابه "نهاية الأرب في فنون الأدب"، عن الأصفهاني الذي قال: "إن مصعب بن الزبير، لما عزم على زواج عائشة بنت طلحة، جاء هو وعبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق وسعيد بن العاص، إلى عزة الميلاء، وكان يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء، فقالوا لها: إنا خطبنا فانظري لنا، فقالت لمصعب: ومن خطبت يا ابن أبي عبد الله؟، فقال: عائشة بنت طلحة، فقالت فأنت يا ابن أبي أحيحة؟، قال: عائشة بنت عثمان، قالت: فأنت يا ابن الصديق؟، قال: أم القاسم بنت زكريا بن طلحة".
قالت عزة: "يا جارية هاتي منقلي (تعني خفيها)، فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، فإذا هي بجماعة يزحم بعضهم بعضاً، فقالت يا جارية انظري ما هذا، فنظرت ثم رجعت فقالت: امرأة أخذت مع رجل فقالت داء قديم امض ويلك، فبدأت بعائشة بنت طلحة، فقالت: فديتك كنا في مأدبة أو مأتم لقريش فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك فلم أدر كيف أصفك فديتك فألقي ثيابك؛ ففعلت فأقبلت وأدبرت، فارتج كل شيء منها، فقالت لها عزة: خذي ثوبك فديتك".
ويواصل الأصفهاني حديثه حول الواقعة: "قالت عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي، قالت عزة: وما هي بنفسي أنت؟، قالت: تغنيني صوتاً، فاندفعت تغني لحنها، فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك فدفعته إلى مولاتها فحملته، وأتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن، حتى أتت القوم في السقيفة".
و"عندما عادت سألها الرجال الثلاثة عما فعلت، فقالت: يا بن أبي عبد الله أما عائشة فلا والله إن رأيت مثلها مقبلة ومدبرة، محطوطة المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقية الثغر، وصفحة الوجه فرعاء الشعر، لفاء الفخذين، ممتلئة الصدر، خميصة البطن، ذات عكن، ضخمة السرة، مسرولة الساق، يرتج مابين أعلاها إلى قدميها، وفيها عيبان، أما أحدهما فيواريه الخمار، والآخر يواريه الخف، عظم القدم والأذن، وكانت عائشة كذلك"، بحسب الأصفهاني.
وتابعت عزة حديثها: "أما أنت يا بن أبي أحيحة، فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط ليس فيها عيب، والله لكأنما أفرغت إفراغاً ولكن في الوجه ردة وإن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به، وأما أنت يابن الصديق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم كأنها خوط بانة تنثني وكأنها جدل عنان، أو كأنها جان يتثنى على رمل، لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت، ولكنها شختة الصدر وأنت عريض الصدر، فإذا كان ذلك كان قبيحاً لا والله حتى يملأ كل شيء مثله"، وفق الأصفهاني الذي يعقب على ذلك بقوله: "فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن".
أما الجزء الآخر من الرواية، وهو تاريخ رحيلها، فاختلف فيه الرواة على رأيين، الأول وهو الأكثر ترجيحاً، وبه قال الأصفهاني: "توفيت عام 115 من الهجرة"، والآخر عام 87، ويؤيد ذلك الكاتب محمد أبو ذنينة، في مؤلفه "الموسوعة الموسيقية"، إذ يقول: "توفيت على عهد الوليد عبد الملك بن مروان (86 – 96 هجرية)".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...