لم يفكر أي حاكم لمصر من العائلة العلوية في أن يدون بنفسه قصة حياته وكواليس فترة حكمه، باستثناء الخديوي عباس حلمي الثاني. من منفاه الأوروبي الذي عاش فيه منذ العام 1914، قرر الخروج عن صمته، بعد نحو ربع قرن من إقصائه عن عرش الخديوية، وبدأ بتدوين مذكراته في العام 1936 وانتهى منها بعد ثلاثة أعوام من ذلك.
تحدث الخديوي عن مراحل طفولته، تعليمه وتكوينه، شخصيته وأفكاره، والأهم حديثه عن فترة فائقة الأهمية من تاريخ مصر الحديث، من خلال وجهة نظر التاج الملكي، وهو ما قد يميز هذه المذكرات.
لكن ما هي الدوافع التي جعلت الخديوي يكسر صمته، خصوصاً وأنه لم يكن من السهل عليه الكتابة بنفسه أو الرد على خصومه؟
يحكي بنفسه أن دوافعه للكتابة كانت عزلته الطويلة وشعوره بالوحدة، وكان كلما حاول الهروب من كتابة مذكراته، يشعر بتأنيب ضمير بسبب رغبته الملحة في تحقيق العدالة المفقودة لوالده الخديوي توفيق، والذي برأيه لم يحاكم محاكمة عادلة.
كان عباس حلمي الثاني مطلعاً على كل ما يُنشر عن عائلته، ويبدو أنه حين قرأ ما كتب عنه وعن أبيه، من خلال عيون أعدائه، مثل اللورد كرومر أو العُرابيين، تضايق بشدة وشعر بالعجز وتردد في الكتابة.
لم يجد الخديوي الحزين مَن يرسم له صورة عهده على الرغم من طول مدته (1892-1914)، فكان عليه أن يرسمها بنفسه، ويوضح فيها ظروف عهده، وطبيعة علاقته مع الإنكليز، والأعمال التي فُرضت عليه دون إرادته.
وبجانب ما سبق، يمكننا الافتراض، من خلال مذكراته، أنه شعر بالحاجة إلى تقديم شخصيته الحقيقية، وشرح طبيعة الدور الذي لعبه سياسياً واجتماعياً وثقافياً. أراد أن يتذكره المصريون على حقيقية، بنجاحاته وإخفاقاته، وبما أراد تحقيقه باسم بلده، والأهم أن تكون له المكانة التي يستحقها في التاريخ. ولذا يُصر على امتداد صفحات مذكراته على وصف نفسه بأنه مصري حتى النخاع، ويؤكد أن الحركة الوطنية المصرية نبتت بفضل البذور التي زرعها.
ورغم أنه أتقن العديد من اللغات، ومنها العربية، لكنه لم يجد أفضل من اللغة الفرنسية لكتابة مذكراته بها. واختار لها عنوان "عهدي"، ثم كلف سكرتيره الخاص أثناء وجوده في المنفى خليفة بوبلي بتجهيزها للنشر. وترجمها بعد ذلك إلى العربية الدكتور جلال يحيى في العام 1993، ونشرها دار الشروق تحت عنوان: "عهدي: مذكرات عباس حلمي الثاني خديوي مصر الأخير 1892-1914".
بوصلة مفقودة
في مذكراته، يسلط الخديوي عباس الضوء على نمط حياة الطبقة الحاكمة التي عاشت في ترف من كافة النواحي، وكانت تسافر كثيراً إلى أوروبا في رحلات ترفيه، ولم تتعلم في مصر، بل كانت تتجهز لحكم بلادها من قلب أوروبا.
يحكي أنه طاف كل أوروبا وهو لم يبلغ العاشرة من العمر بعد، وتلقى فيها تعليماً خاصاً بأبناء الملوك وعلية القوم، وخاض رحلته التعليمية في سويسرا والنمسا وألمانيا، حيث درس العلوم الاستراتيجية والسياسية والعسكرية.
واللافت أنه حين يتكلم عن اختلاطه بأولاد البلد المصريين في صباه، يقصد هنا فئة اجتماعية محددة يسميها بـ"الأسر الراقية". يروي أنه لم يكن يتحدث اللغة العربية في صباه، وكان يتقن التركية والإنكليزية، فأنشأ له أبوه مدرسة على جانب قصر عابدين بهدف أن يختلط هو وأخوه مع 100 شخص فقط من أبناء المصريين الذين ينتمون إلى الطبقة العليا، وفي هذه المدرسة تعوّد على أن يعيش بين "المصريين" ويتحدث لغتهم.
كان عباس من صغره ذكياً، شغوفاً بالعلم والتجارة، مثقفاً على الطريقة الفرنسية، يتحدث التركية والفرنسية والألمانية والإنكليزية بطلاقة، لكن لا يتحدث العربية جيداً.
أثبت والده الخديوي توفيق للبريطانيين أنه خادمهم المطيع، فاعتقدوا أن الابن سيسير على خطى أبيه، فبجانب صغر سنه وانعدام خبرته السياسية وجهله بآليات عمل الدولة. وعندما كان الوالد على مشارف الموت غير المتوقع، أسرعت بريطانيا في إبلاغ ابنه عباس بالوضع قبل وفاة أبيه بيومين.
لم يكمل الشاب الطموح دراسته، ولم ينتظر أيضاً وصول سفينة مصرية تنقله إلى مصر. سافر على الفور على متن باخرة نمساوية وضعها إمبراطور النمسا فرانسوا جوزيف تحت تصرفه، وصحبه عالمان في القانون الدولي وأربعة ضباط تابعين لإمبراطور النمسا. وفي الثامن من كانون الثاني/ يناير 1892، تسلم مقاليد السلطة، عقب وفاة والده بيومين.
حسرة ومرارة
نظر عباس لحكم مصر على أنه ميراثاً من أجداده. يقول: "عرشي وسلطاني خلّفهما لي أجدادي العظام". ارتأى أن يبدأ قصة حياته بالحديث عن جده الكبير، الألباني محمد علي باشا الذي تمكن بذكائه من قتل كل المماليك الذين يسميهم عباس بـ"الطفيليين". ويُظهر الخديوي إعجابه الكبير بالأعمال التي أنجزها جده الكبير، لكن التحالف الذي شكلته القوى العظمى ضد جده، منع انتصاراته من أن تؤتي ثمارها.
ثم أتى بعد ذلك على سيرة جده إسماعيل. ينفي عنه تهمة التبذير في النفقات وشغفه الشديد في "الفشخرة" التي اشتهر بها وإغراقه البلاد في مستنقع ديون خرّب الاقتصاد، عاداً مَن يتهمونه بذلك بأهم جبناء وحاقدون على ما قام به.
ويذهب إلى أن جده إسماعيل استطاع أن يحقق آمال الفراعنة، ووصل إلى أعالي النيل في شرق إفريقيا، وأصبحت مصر أمة بفضله، وقطعة من أوروبا. لكنه يتغافل عن ذكر أحوال البشر في مصر وكيف كانت معيشتهم في ذلك الوقت.
ورغم ذلك الماضي المجيد الذي حاول تضخيمه، عاش عباس صراعات نفسية عدة، وخصوصاً ذلك المرتبط بذكرى والده الخديوي توفيق، والاتهام الذي وُجه إليه بالخيانة الكبرى بسبب وقوفه بجانب الإنكليز الغزاة ضد شعبه، كي يظل جالساً على كرسي الحكم.
لم يتردد الخديوي عباس حلمي الثاني في ذكر أسماء الشخصيات المصرية التي يفضلها الإنكليز، مثل الشيخ محمد عبده الذي، حسب الخديوي، كان تحت تأثير "قصر الدوبارة"، المقر البريطاني في القاهرة
ظل عار الأب الخائن يحاصر عقل الابن، لذا كان محور مذكراته يدور حول شخصية أبيه ومجهوداته اليائسة في حفظ البلاد، ويقول عنه: "إن قلبي ليتمزق حناناً دائماً له، وإن شعور الحسرة والمرارة عليه لا يفارقني".
وبالرغم من أن والده كان مستسلماً بشكل مطلق للإنكليز ومقراً بفضلهم عليه في حفظ مُلكه، إلا أن الابن حاول طوال مذكراته أن يبرر كل ما فعله الأب بالبلاد ونفي عار تبعيته للإنكليز عنه، ملقياً باللوم كله على "العاصي" أحمد عرابي و"فتنته"، وعلى المحيطين بوالده الذين لم يخدموه بصدق، وكانوا برأيه سبب الفوضى والاحتلال.
ولتبرير وجهة النظر هذه، حاول عباس رسم صورتين: الأولى صورة والده المخلص لوطنه والمحاصَر من الجميع، والذي رغب في حماية بلده من أي خطر، لكن أُسيء فهمه، لأنه كان ضحية، معتقداً صدق نية الإنكليز، ولم يكن أمامه خيار، فقد خانته النخبة التي كانت نتاجاً للنظام الذي وضعه محمد علي.
أما الصورة الثانية، فهي صورة عرابي، الذي يسميه بـ"الطاغية العسكري" ويعتبره السبب الرئيسي في احتلال مصر. وجه كل استيائه إليه وسعى إلى النيْل منه بكل الطرق، ووصل إلى اتهامه بالطائفية ومعاداة كل المسيحيين والطمع في تولي العرش، وبالسيطرة على مجاميع جاهلة. لكنه تجاهل استعراض استياء المصريين من تدخل القوى الأجنبية في شؤون بلدهم.
يمكن تفسير ذلك بالمرارة التي شعر بها تجاه آلام والده توفيق. حمّل غيره مسؤولية سيئات عهده، هو الذي كان متعلقاً بوالده منذ صغره. وفي المقابل، يذكر صفات والده الحميدة، ومنها تزوجه بامرأة واحدة فقط في بلد يشتهر بتعدد الزوجات، وكان ذلك أول مرة يقوم فيها حاكم بالتصرف بهذه الطريقة النبيلة.
الخديوي توفيق مع زوجته أمنية هانم، وأولاده عباس حلمي الثاني ومحمد علي وخديجة ونعمة الله.
بين الحذر والاندفاع... صراع الأفاعي
يحكي الخديوي في مذكراته أن اعتلاءه عرش مصر بدأ أولاً بالمقابلة الأولى مع اللورد كرومر، وحاول الأخير أن يعطيه الدرس الأول عندما أمر الفرق العسكرية الإنكليزية بعزف النشيد التركي لحظة تتويجه، كرسالة بأن إنكلترا والباب العالي سيكونان دائماً متحدين لعرقلة أي طموح استقلالي.
جلس الخديوي الجديد على العرش، وكان في عنفوان حماسته. كان شاباً نبيلاً يتمتع بصحة جيدة، وقادراً على تغيير المناخ السياسي في مصر. حاول أن يترك انطباعاً إيجابياً. لم يكن مثل والده تماماً، ليناً منصاعاً لكل لرغبات الاحتلال. أراد أن يحكم بنفسه، وحاول فعلاً التصرف كملك. يتحدث في مذكراته على لقاءاته مع ملوك أوروبا وكيف كانوا يحترمونه ويعاملونه مثلهم على قدم المساومة.
لكن سرعان ما اكتشف أنه أسير وصاية أجنبية، وليس لديه سلطة سياسية حقيقية، بل يؤدي دور "الكومبارس"، كما أن العديد من الأشخاص المحيطين به في القصر كانوا مجرد دمى في أيدي الإنكليز.
كان اللورد كرومر يخدم بلاده، أما الحكومة المصرية فكانت تخدم اللورد كرومر. ولم يتردد الخديوي في ذكر أسماء الشخصيات المصرية التي يفضلها الإنكليز، مثل الشيخ محمد عبده الذي، حسب الخديوي، كان تحت تأثير "قصر الدوبارة"، المقر البريطاني في القاهرة. أما بالنسبة إلى اطبقة الأرستقراطية فقد فضلت أيضاً التعاون مع الإنكليز.
هذا الارتباك والشعور بالعجز والوحدة، جعل الخديوي يعتقد أن الجميع يتجسس عليه، لذا تمثلت أهم تحدياته ببناء نخبة جديدة ودائرة نفوذ تدين بالولاء له بعيداً عن أعين الإنكليز.
يقول: "لما كانت الوسائل حولي صالحة للتجسس عليّ، وجدت أنني بدوري يحق لي أن ألجأ إلى استخدام وسائل خصومي لكي أفلت من حبائلهم، فأصبحت لي مخابرات في كل مكان، في المدارس، وفي الوحدات العسكرية، وحتى في منزل السردار.. وعمل الشيوخ من جانبهم على خدمتي".
الإهانات المتكررة التي شعر بها الخديوي عباس حلمي الثاني من الإنكليز دفعته إلى إعادة إحياء الشرعية الدينية لحكمه من خلال التحالف مع علماء الدين، والظهور بمظهر الحاكم المسلم المدافع عن الشريعة، على الرغم من إيمانه بالمبادئ الليبرالية
كان الخديوي يتدخل في أمور الحكم قدر الإمكان. لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ صبره ينفد. كره بشدة اللورد كرومر، القنصل الإنكليزي الذي كان على رأس سلطة الاحتلال في مصر بين العامين 1883 و1907، والذي رأى فيه الملك الحقيقي لمصر والشخص الذي اغتصب السلطة منه.
في المقابل، أخذ كرومر وطنية عباس وصغر سنة مقياساً لبغضه، ومنذ أول لقاء بينهما، وصفه كرومر بأنه "مصري للغاية" ولطالما ذكره بأن الإنكليز هم أصحاب الفضل في جلوسه على العرش، وبالتالي كان لا بد للصدام أن يحدث مراراً وتكراراً بين الرجلين الطموحين، وإنْ كان كرومر أكثر مهارة. وفي هذا يقول الخديوي: "كان عليّ أن أعرف أن ممثل بريطانيا العظمى، وتحت اللقب الذي يبدو ظاهرياً أنه متواضع وعادي: مندوب وقنصل عام، يستولي بأقل ما يمكن من أشكال وأدب على سلطات معينة للخديوي والحكومة".
وقع أهم صدام بين الرجلين في شتاء العام 1893، عندما عزل الخديوي رئيس الوزراء الموالي بشكل مطلق للإنكليز مصطفى فهمي باشا وعيّن مكانه شخصاً من اختياره، من دون استشارة كرومر.
ثم بعد عام على هذه الواقعة، جاء الصدام الثاني الذي سمي بـ"حادثة الحدود" حين قام عباس بجولة لتفقد بعض قوات الجيش المتمركزة قرب الحدود السودانية المصرية، ولاحظ أن الجنود يفتقرون إلى التدريب، فأدلى بملاحظات ساخرة تحط من شأن وحدات الجيش المصري التي يقودها ضباط بريطانيون.
في كلتا المرتين، أُجبر الخديوي بشكل مهين على النزول أمام رغبة كرومر، وهذا يدل على أنه كان يخشى من الإنكليز رغم الهالة الضخمة التي أسبغها على نفسه. وهنا يرى أن الإنكليز يحترمون القانون ويفرضونه في بلدهم، لكنهم لم يفعلوا الشيء نفسه في مصر.
واللافت أن كرومر كان يستغل بمهارة نقاط ضعف الخديوي من أجل ممارسة الضغط عليه، مثل كراهية الأول الشديدة للعرابين. يذكر عباس أن كرومر كان دائماً يقول له: "لا تنسى أن الحركة العرابية موجودة دائماً، وأنني إذا ما رفعت إصبعي الصغير، فإنه يمكنها أن تظهر من جديد، وأن تطيح بالأسرة خارج البلاد.. واعتاد أن يؤكد لي: إذا ما رفعت إصبعي الصغير، فإنه يمكنني أن أجعل الأسطول البريطاني يأتي من مالطة إلى الإسكندرية".
الإهانات المتكررة التي شعر بها الخديوي دفعته إلى إعادة إحياء الشرعية الدينية لحكمه من خلال التحالف مع علماء الدين، والظهور بمظهر الحاكم المسلم المدافع عن الشريعة، على الرغم من إيمانه بالمبادئ الليبرالية وقضاء سنواته الأولى من الدراسة في أوروبا. صحيح أن مذكراته تكشف عن رجل شديد التقوى، لكنه كما ذكر كان مؤمناً بالعلمانية وبعالمية الإنسان قبل الدين.
الخديوي عباس حلمي الثاني مع الملك جورج الخامس، في العام 1911.
بين فرنسا وبريطانيا
كانت العلاقات بين بريطانيا وفرنسا في نهاية العام 1898 قد توترت بشدة عقب حادثة فشودة، وهي بلدة سودانية جسّد الخلاف على السيطرة عليها صراعاً بين القوتين الاستعماريتين على السيطرة على أعالي النيل. كادت إنكلترا أن تخوض حرباً ضد فرنسا. استغل عباس حلمي الثاني بمهارة التنافس بينهما لتحقيق بعض الحرية، ورأى أن هناك أملاً في الاستقلال، لكن توقيع اتفاق "الوفاق الودي" عام 1904 وضع حداً لمناوراته، فبموجبه اعترفت فرنسا بشرعية وجود بريطانيا في مصر، وفي المقابل اعترفت بريطانيا بشرعية وجود فرنسا في المغرب.
ويبدو أن هذه الاتفاقية جعلت الخديوي يَقبل كل الإملاءات البريطانية بعد أن خذلته السياسية الفرنسية، وأصبح أكثر تسامحاً مع الوجود البريطاني في مصر. ولكنه حاول أن يشكل معارضة في الخارج ضد البريطانيين، وعن هذا يقول: "بعد عام 1904، ومع فقدان دعم وتأييد الفرنسيين، وبقائي وحيداً في وجه إنكلترا، اضطررت إلى أن أبحث عن وسيلة لتكوين مجموعة في لندن تدعم كفاحي ضد تدخل ممثلي صاحب الجلالة البريطانية في مصر".
في تلك الظروف، لم تكن هناك سوى نتيجة واحدة ومعركة واحدة، انتصر فيها دائماً كرومر الذي اعتبر الخديوي شاباً أحمق عديم الخبرة.
يروي الخديوي بمرارة أن كرومر سرق منه إنجازاته ومشاريعه التي أطلقها، ونسبها إلى نفسه، مثل بناء المدارس والمتاحف وخزان أسوان، وإلغاء السخرة، وإلغاء عقوبة الكرباج، وأعمال الري والبنية التحتية وخطوط التلغراف والجسور، ومشروع الجامعة الذي دعا إلى تأسيسها مصطفى كامل. يحكي أن هذه كانت إنجازاته وليست للإنكليز كما زعم كرومر، ويقول: "حاول كرومر أن يعطي نفسه هالة وجدارة وأن ينسب لشخصه تحسين وإكمال الأعمال الضخمة التي سهر أسلافي على متابعتها بلا انقطاع".
ويبدو أن الخديوي، من خلال استعراض المشاريع الناجحة التي قام بها، أراد أن يوصل رسالة بأنه على الرغم من الصعوبات التي واجهها، لم يتخلَّ عن مشاريع تحديث البلد. وبالرغم من إهانات كرومر له، عامل الأخير الأول بكل احترام وسجل له في مذكراته إيجابياته في تنظيم الوضع المالي للبلد، كما أقرّ بأنه احترف السياسة بفضل عجرفة كرومر، وهو ما يدل في الحقيقية على أنه لم يكن سياسياً ماكراً.
ما بعد كرومر
في المجمل، كان كرومر شخصية استبدادية بامتياز، واضطر لتقديم استقالته بسبب إحراجه في حادثة دنشواي عام 1906، ليأتي بعده خليفته السير إلدون غورست. رغب غورست في تحسين العلاقات مع الخديوي، فذهب إليه أولاً ليستمع إلى مشاكله مع كرومر.
أظهر غورست احترامه للخديوي، وابتعد عن التعامل الحاد الذي اتبعه كرومر معه، متبعاً نهجاً معتدلاً، مثل طلب المساعدة منه في الأمور الرسمية، وأخذ مشورته في شؤون الحكومة وكأنه شريك في تمارين الحكم، ما أشعر عباس بأنه موجود ومطلوب.
وحصل غورست على ثقة وصداقة الخديوي في فترة زمنية قصيرة، وليس هناك شك في أن الإهانات التي عانى منها عباس على يد كرومر جعلته يقدّر الطريقة التي عامله بها غورست.
واللافت أن الخديوي كان، كلما سافر إلى إنكلترا، يزور قبر غورست في قلعة كومب Castle Comb ويضع عنده إكليلاً من الزهور. وكتب في مذكراته يصف غورست بالقول: "إن وجود السير إلدون غورست في مصر كان يمثل أجمل فقرة اجتازتها البلاد، ورأينا مصر تتقدم بسرعة لم نكن نعهدها من قبل".
لم تدم فترة الهدوء التي عاشها الخديوي. خلف اللورد كتشنر (1911-1914) غورست بعد وفاته، وأثار تعيينه استياء الخديوي الذي اضطر إلى التعامل مع شخص أقسى من كرومر.
يحكي في مذكراته أنه هو الذي رشّح كتشنر، لكنه يعتبر ذلك من أكبر أخطائه، فكتشنر لم يرد له الجميل، ولم يغفر له إهانة كان قد وجهها له عام 1894. اشتبك الرجلان وتدهورت العلاقات بينهما بشكل نهائي، ولم يرغب أي منهما في رؤية الآخر على كرسيه، وأدت النتيجة في النهاية إلى إصرار كتشنر على عزل الخديوي في ظروف اعتبرها الثاني ليست في غاية الشرف.
وحيداً بلا رجال
من المصادفات في حياة الخديوي أنه كان صاحب ثاني أطول عمر بين حكام الأسرة العلوية بعد جده الأكبر محمد علي، فقد عاش 70 سنة. وهو أيضاً صاحب ثاني أطول فترة حكم بين حُكام الأسرة العلوية، فقد حكم لمدة 22 عاماً. وعزلته بريطانيا عن الحكم وهو في الأربعين من عمره، وهو نفس السن الذي توفي والده فيها. كذلك شاءت الأقدار أن يموت في نفس اليوم الذي عزل فيه، أي 19 كانون الأول/ ديسمبر (عام 1944).
من سوء حظ الخديوي أنه في الوقت الذي دقت فيه طبول الحرب العالمية الأولى، كان يقضي إجازة الصيف في قصره في إسطنبول، على ضفاف مضيق البوسفور، كما كانت عادته. وقبل ثلاثة أيام من مقتل الأرشيدوق فرديناند في سراييفو، قام شاب مصري بمحاولة جادة لاغتيال الخديوي في إسطنبول، ولكنه جرح فقط وتعافى سريعاً بعد ثلاثة أشهر من العلاج.
وعندما أراد العودة إلى القاهرة من أجل تأمين منصبه، إذ رأى أن محاولة اغتياله كانت بهدف إبعاده عن مصر، شك السفير البريطاني في إسطنبول السير لويس ماليت في علاقته بالحكومة العثمانية، ومنعه من العودة إلى مصر، واتهمه بالتآمر على الإنكليز، وهو الاتهام الذي اعتبره عباس حلمي الثاني افتراء ولا أساس له من الصحة.
انتهز الإنكليز تلك الفرصة لإزاحته عن الحكم، وكانوا مقتنعين بأنه سيعرقل سياسة "حماية بريطانيا على مصر". عزل الخديوي، ومنع أيضاً من دخول الأراضي المصرية، ثم تواصل الإنكليز مع ابنه الأمير محمد عبد المنعم وعرضوا عليه ولاية العهد، لكنه رفض هذا العرض قائلاً: "لست الولد الذي يخون والده".
عندها، اختار الإنكليز عم الخديوي، الأمير حسين كامل، بصفته "أكبر أمير حي في عائلة محمد علي" فوافق، وحصل على لقب سلطان مصر، وصدر قرار تعيينه يوم السبت، في 19 كانون الثاني/ ديسمبر 1914، وجاء فيه: "يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق على الانضمام لأعداء الملك، فقد رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديوية، وقد عرضت هذا المنصب السامي مع لقب سلطان على سمو الأمير حسين كامل باشا أكبر الأمراء الموجودين من سلالة محمد علي فقبله".
غضب الخديوي على عمه، وشعر بأنه تعرض للخيانة من أقرب الناس إليه، لكنه لم يستسلم لأمر عزله، وظل يعتبر نفسه صاحب السيادة الحقيقي، كما ظل يشعر بالنقيضين، بين فرحته التي لم تكتمل بأن حكمه قد بدأ مبكراً، وبين عزله المفاجئ وهو في قمة مجده السياسي.
ولذا نجده يوزان بين الشعور بالحسرة والفخر، فيقول: "بسبب هيبتي، رغبوا وقت الحرب العظمى أن يعزلوني، وأن يضعوا في مكاني سلطاناً لم يكن يقدر على أن يتكلم، ولا أن يتصرف بنفس الطريقة التي أتصرف بها أنا… انتهى حكمي مبكراً للغاية، فلم يستمر سوى اثنين وعشرين عاماً، كنت في تمام نضجي حين انتزعوه مني… أشعر بفخر أن إنكلترا لم تجرؤ على إعلان حمايتها على مصر، إلا بعد أن أبعدتني عن السلطة".
لم ييأس عباس حلمي الثاني من تحركاته الدؤوبة لاسترداد عرشه على امتداد أكثر من عشر سنوات، حاول خلالها التعاون مع كل الجهات التي يمكن أن تقدّم له يد العون، الأمر الذي أقلق سلطات الاحتلال البريطاني، فرغبت في الانتقام منه عبر تجريده من ممتلكاته الهائلة في مصر وشكلت لجنة للقيام بذلك.
كانت ضربة خانقة للخديوي المعزول. سعى لاسترداد ممتلكاته رغم ما واجهه من صعاب سياسية وقانونية، وحينما لم تسفر جهوده في استرداد عرشه وممتلكاته، وافق في نهاية المطاف على التنازل عن العرش لعمه فؤاد وأعلن ولاءه له ولولي عرشه فاروق، عام 1930، مقابل راتب سنوي قدره 30 ألف جنيه مصري، بجانب رفع الحجز عن بعض أملاكه في مصر.
الخديوي عباس أثناء إقامته في المنفى على متن يخته "نعمة الله" في نيس، في فرنسا.
وعاش الخديوي الثري بقية حياته في المنفى الذي فرضته عليه بريطانيا، مقسماً وقته بين الريفييرا الفرنسية وسويسرا، وعلى متن يخته "نعمة الله". وبعد ثلاثين عاماً خارج مصر عاش خلالها صراعات نفسية، عاد إلى بلده مرة أخرى، ولكنه عاد جثة هامدة، فقد توفي عن عمر 70 عاماً، ودفن في قبة أفندينا بجوار أبيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...