"عبد الغفور البرعي" شخصية قدمها الفنان الراحل نور الشريف في عمل درامي "لن أعيش في جلباب أبي" في منتصف التسعينيات وحققت نجاحاً كبيراً، وهي مأخوذة عن رواية للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس تحمل نفس الاسم.
القصة باختصار هي عن صعود عبد الغفور من عامل بسيط "صبي" في وكالة الخردة إلى واحد من أغنى رجال مصر، رغم عدم إتمامه لتعليمه واعتماده على نفسه بشكل كامل وسط ظروف وعوائق يرى البعض أن تجاوزها هو مهمة شبه مستحيلة.
ورغم تعلق الجمهور برحلة الصعود هذه، لكن الأغلب يراها ضرباً من الخيال، ولكنها في الحقيقة ليست كالعنقاء وليست أسطورية إلى النهاية، فهناك بيننا في الوطن العربي أكثر من عبد الغفور. وقصص صعودهم الحقيقية قد تُلهم الكثيرين، ورغم عدم تسليط الضوء عليهم، لكن ربما تستحق قصصهم أن تدوّن في أعمال روائية يوماً ما.
"محسن مرسيدس"
"كانوا بيخبوا كيس الفاكهة مني عشان مشوفهاش، وأنا كنت كل اللي عاوزه من خيلاني أنه حد فيهم بس يطبطب عليا".روى الحاج حسن عبد السميع هذه الكلمات لابنته "ندا" واصفاً صعوبة اليُتم الذي شعر به في الطفولة، عندما توفى والده وهو لم يبلغ العاشرة بعد، ولم يترك له ولأمه قوت يوم واحد.
تحكي ندا لرصيف22 عن معاناة والدها الراحل في طفولته وتقول: "عندما توفي جدي لم يترك أية أموال في البيت سواء لجدتي أو لأبي الطفل، الذي تعجب من هجر أخواله له، وعدم تعويضه عن حنان الأب، مما زاد من إحساسه باليُتم، ابتعد الأخوال حتى لا ينفقوا على شقيقتهم الأرملة وأبنائها اليتامى، حتى المشاعر بخلوا بها".
ورغم أن للطفل "حسن" أشقاء أكبر منه في مراحل متقدمة من التعليم، لكن أمه اضطرت أن تحرمه من إكمال تعليمه لضيق ذات اليد، ليقوده أحد المعارف للعمل صبياً في ورشة كهرباء للسيارات، في حي عابدين في القاهرة.
عاش حسن فقيراً ويتيماً من جهة الأب، فعمل ميكانيكياً منذ صغره، ونبغ في عمله حتى اشتهر بـاسم "محسن مرسيدس"، لاحقاً أسس ورشته الخاصة، فكان كل رواده من نجوم الفن والرياضة، وظلّ حريصاً على تدليل أمه وعائلته حتى آخر يومفي الوقت الذي كان يعيش فيه أقران حسن أجمل أيام طفولتهم في المدارس ولعب الكرة، كان حسن يعاني من شقاء مهنة أكبر من عُمره، فلم يكن أمامه سوى العمل بجد وطاعة "الأسطى" لكي يتحصل على أجرة اليوم ويذهب بها لأمه.
تعلم حسن من الأكبر منه، ولم يكن ينهي العمل فحسب، بل كانت أذانه صاغية، ويدون لنفسه ملاحظات، ومع اقترابه لسن النضج بدأ يصبح الرجل الأول بعد صاحب الورشة، لكن الاعتماد عليه زاد من حاقديه، وكرمه مع والدته أكثر من أخوته الأكبر أيضاً فتح باب الغيرة من أخوته على شقيقهم الأصغر، الذي أصبح عائل الأسرة.
أصبح حسن "الواد الكسيب" وتزوج وهو شاب في شقة إيجار، وبعد إنجابه لابنته الأولى قرر خوض مغامرة جديدة، وهي الاستقلال بنفسه وفتح مركز صيانة لكهرباء السيارات خاص به، وبالفعل حصل على إيجار لمحل صغير جداً في حي العجوزة في القاهرة.
لم يكن يُدرك أن هذا المحل الصغير سيصبح فيما بعد أحد أشهر مراكز صيانة كهرباء السيارات في هذه المنطقة، وأن زبائنه سيكونون من أصحاب السيارات الفارهة من "مرسيدس" و"BMW".
سيتردد عليه الكثير من المشاهير الذين لا يثقوا إلا به لصيانة سيارتهم... من لاعبي كرة قدم، إلى فنانين، إلى ضباط إلى قضاة، كلهم تقربوا من "محسن مرسيدس" وهو اسم الشهرة الذي أطلقه حسن على نفسه، تقربوا منه لأمانته وأخلاقه وإجادته للعمل.
أصبح إسمه "الحاج حسن" بعد أن أدى فريضة الحج لأكثر من مرة، واستمر في مهنته ولم يتكبر على العمل بيده رغم كونه رب عمل لأكثر من عامل.
بسبب حادثة عمل فقد "الحاج حسن" إحدى عينيه، ورغم امتلاكه لرفاهية اعتزال العمل والراحة، إلا أن رغبته في جعل ابنتيه تعيشان في مستوى عالٍ طوال حياتهما جعلته يواصل العمل رغم أزماته الصحية.
أقبل الحاج حسن على شراء سيارات من زبائنه، وصيانتها وإعادة بيعها بمكسب له، وكانت هذه تجارة إضافية إلى مهنته الأساسية، وعندما امتلك قيمة شراء الشقة التمليك التي تحلم بها الأسرة، لم يندفع مثل أقرانه للبحث عن الاستقرار، وقرر خوض مغامرة جديدة، وهي البناء بنفسه.
تقول ندا ابنته: "كنا في وضع مادي ممتاز ولا زلنا نعيش في شقة مستأجرة، وبدلاً من أن يشتري بيتاً قال لنا انتظروا، سأبني عمارة".
بالتعرف على أصدقائه ومعارفه من سيرته ومعاملته الطيبة، أصبح الحاج حسن مهتماً ببناء العقارات، وبالفعل بنى عقارين، وتحوّل لاحقاً لبيع الشقق ليتخصص في العمل العقاري.
منذ طفولته حتى وفاته، لم يأبه الحاج حسن بشيء أكثر من رعاية أسرته، بداية من والدته التي ذاقت الأمرين، مروراً بزوجته وابنتيه، الذي أصر على تعليمهما "أحسن تعليم"، تخرجت الكبرى من كلية إعلام، والصغرى من كلية ألسن، لكن "قصة كفاح أبوهما وسمعته الطيبة" هي أكثر ما يشعر ابنتيه وأحفاده بالفخر.
من تأجير الدراجة إلى تجارة الأثاث
كيف يفكر طفل في تأجير دراجته الخاصة؟ هذا ما فعله محمد إسماعيل في طفولته لتحسين مستوى معيشة أبويه وأخوته الأربعة، وسيلة متعته ورفاهيته الوحيدة حولها لأداة لكسب الرزق، ورغم نشوة المكسب والحصول على المال للأطفال، لم ينفقها على شراء الألعاب أو الحلويات، بل استثمر هذا المكسب في الإدخار لشراء المزيد من الدراجات وبيعها.تقول ابنته هبة لرصيف22: "تعلم أبي منذ الصغر تصليح الدراجات، فأصبح يُصلح ويؤجر ويبيع، ثم اتجه بعدها للعمل كمندوب لنقل الدم في المستشفيات، ورغم أنه عاش كل هذه التجارب قبل أن يُكمل سن الخامسة عشر، إلا أنه كان يتوق إلى مغامرة أكثر، مثل السفر للخارج قبل أن يُكمل دراسته".
كان محمد يذهب إلى ورشة النجارة كلما زار مصر في إجازته من عمله في العراق، أسس ورشته بكل ما وفّره في الغربة من مال، ومع السنوات صار من كبار تجار الأثاثسافر محمد الشاب الذي لم ينضج بعد بروح استكشافية إلى العراق دون شهادة، دون خبرة، طرق جميع الأبواب دون كلل أو ملل من أي شيء، كان يعمل بكل ما هو متاح أمامه فقط للحصول على قوت يومه، عامل قهوة، سائق ليموزين، فكان يكتسب من كل مهنة مهارة جديدة يضيفها إلى مهاراته وخبراته، وظل في مهنة السائق في العراق فقط من أجل إدخار الأموال لتحقيق حلم أكبر عند عودته إلى مصر.
لم يرتح محمد لدى عودته في عطلته السنوية إلى مصر، بل وجد مصنعاً للنجارة خلف منزله، فقرر تعلم المهنة، لم لا؟ وصار يتردد في كل إجازة في مصر على المصنع للتدرب على أصول المهنة، وشجع إخوته أيضاً على تعلم نفس المهنة، دون ترك وظيفته كسائق ليموزين في العراق، التي اعتبرها مصدراً لادخار المال لحلم أكبر.
عاد محمد إلى مصر بشكل نهائي، وقرر استثمار ما ادخره من مهنته في العراق لشراء المواد الخام ليبدأ هو بنفسه تصنيع الأثاث المكتبي في مدخل بيته، وفي يوم ولادة ابنته الكبرى اشترى 10 ألواح خشبية دفعة واحدة، ثم قام بشراء سيارة سوزوكي بالتقسيط، في محاولة لبيع ما يصنعه، ثم نجح في الحصول على ورشة تصنيع صغيرة، ولكنه كان يضطر إلى تقطيع الأثاث خارج ورشته لعدم امتلاكه ماكينات التقطيع.
تدريجياً استطاع محمد شراء المعدات، وطور من ورشته، ثم بدأ بالتعاقد مع معارض الأثاث لعرض ما يصنعه، حتى أصبح من أكبر موردي سلسلة محلات "عُمر أفندي"، وأصبح مع عائلته واحداً من أكبر مصنعي الأثاث في حي مصر الجديدة، واليوم تورّد لأكبر معارض الأثاث في مختلف محافظات مصر.
مثله مثل الكثير من رجال الأعمال الناجحين، لا يهدر محمد ما جمعه من أموال بادخارها بل بتشغيلها، فتح لنفسه باب رزق جديد بشراء الأراضي وبناء العقارات، وما زالت الرحلة التي بدأت بتأجير دراجته وهو طفل مستمرة.
في عُرف الطموحين القناعة ليست كنزاً
"مُترجم بالسفارة الأمريكية بالقاهرة" هل هناك وظيفة يحلم بها شاب حديث التخرج أفضل من هذه؟ براتب يتخطى 3 ألاف مصري في تسعينيات القرن الماضي، حصل عبد الرحمن شاهين على وظيفة العُمر كما يقولون، ولكنها لم ترضِ طموح الشاب الذي كان يستطيع العيش في عيشة كريمة والإدخار وتحقيق أغلب أحلامه من هذه الوظيفة.
باسم مستعار حتى لا تتم ملاحقته من قبل مصلحة الضرائب، يحكي رجل الأعمال عبد الرحمن قصته، ظروفه تختلف عن قصص كفاح أخرى، أكمل عبد الرحمن خريج كلية لغات وترجمة جامعة الأزهر تعليمه حتى حصل على درجة الماجيستير وعُين كمترجم في السفارة الأمريكية، ولكنه لم يكن يريد الاستقرار المادي والمهني والصورة الاجتماعية التي يبحث عنها أقرانه، فقرر ترك كل هذه الرفاهية طواعية من أجل خوض مغامرة، "يا صابت يا خابت" بخسارة كل شيء.
من خلال عمله كمترجم وسفره لعدة دول، جذبته فكرة الاستيراد والتصدير، وحلم بأن يكون له عمله الخاص بتصدير الفاكهة من مصر، فأسس شركة صغيرة في التسعينيات وقام بتصدير شحنة صغيرة إلى السعودية ولكن الشركة لم تنجح.
فقام بتأسيس شركة أخرى، واستعان بأموال شقيقته للدخول معه بربع رأس المال، شقيقته باعت ذهبها الخاص لمساندته في رأس المال لفتح الشركة، وبدأ في الإعداد لأول شحنة تصدير، وكان ينقصه ألف جنيه لإصدار الشحنة، وهو مبلغ كبير في التسعينيات، قام باقتراضه من شقيقته أيضاً.
ومع مرور الوقت وبعد سنوات من العمل والكدح، أصبحت للشركة شحنات مصدرة للدول الأفريقية ودول جنوب شرق آسيا، أصبح يبحث عن مزارع للفاكهة والمواد الغذائية من مصر لتصدير منتجاتها للخارج، في وقت لم يكن فيه إنترنت كان التواصل مع الخارج بفاكس من سنترال، حتى قام بشراء الفاكس، قبل انتشار البريد الإلكتروني.
استقال عبد الرحمن من وظيفة مريحة ومجدية كمترجم في السفارة الأمريكية في القرن الماضي براتب 3000 جنيه ليفتح شركته الخاصة، خسر مرة ومرتين قبل أن ينجح، وهو اليوم من أصحاب الملايينمع دخول الإنترنت إلى مصر كبر نشاط الشركة، وأصبحت تُصدر إلى أغلب دول العالم، يقول عبد الرحمن أنه غير نادم على ترك وظيفة العُمر من أجل مغامرة لم تكن محسوبة، وإن المغامرة جعلته صاحب شركة رأس مالها ملايين من الدولارات.
ولكنه في نفس الوقت لا ينصح الجيل الجديد بضرورة أخذ نفس المجازفة، فالزمن مختلف، والقيود على الاستيراد والتصدير أصبحت أكثر صعوبة من الماضي، ولكنه يشجع دوماً على عدم وضع سقف للطموح، والجرأة والمغامرة إذا أراد المرء أن يكون له شأن في المستقبل.
السر في الاستثمار لا الادخار
من القصص المسرودة نرى أن المغامرة كانت أحد العوامل المشتركة التي صنعت غنى أصحابها، كذلك الشغف، الحاج حسن كان شغوفاً بالمهنة التي تعلمها صبياً، وحلم أن يصبح هو صاحب مركز الصيانة يوماً ما وثابر حتى حقق حُلمه، محمد إسماعيل كان شغوفاً بتعلم النجارة حتى في أوقات راحته وعطلاته، وعبد الرحمن شغفه بأن يكون رجل أعمال حر كانت أقوى من حُلم التمسك بوظيفة العُمر.
يشترك من وصلوا إلى الثراء من الفقر بجرأتهم على المغامرة المالية، والأهم عدم التحجج بالظروف لقتل الطموح"الاستثمار لا الإدخار" هو شعار رُفع من قبل أبطال قصصنا، فالاستثمار هو من يساعد على زيادة رأس المال، خاصة الاستثمار في رأس المال الثابت، كالعقارات. عدم التحجج بالظروف، وتعليق شماعة للفشل، لا شيء يقف أمامك للعمل بجد لتحقيق حلمك، لن يساعدك أحد غير نفسك، لن ينهض بك أحد إذا فشلت سوى أنت.
الجميع يرى ما أنت عليه الآن، ولكنهم لا يروا ما الذي كنت عليه حتى وصلت إلى هدفك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون