أؤمن بالعديد من الأشياء، أذكر منها الآن: الأمر الأول، إن الإجابات موجودة مسبقاً في الكون، كل ما فكرنا فيه سابقاً، كل ما يشغل بالنا حاضراً، كل ما ستنتجه الحاجة وتعقيدات الحياة لاحقاً، كل ذلك له إجابة، يتبقى فقط عجزنا عن طرح السؤال الصحيح، أو إيجاد الإجابة لما نمرّ به ويمرّ بنا.
الأمر الثاني، إن لكل شيء شبيه وطلّة، يجتاحني إحساس خفي بما يشبهنا من الأشياء في الكون، أؤمن بتلك المقولة بأن لكل شخص أربعين شبيهاً، مع إضافة بسيطة: من الوارد جداً أن تلك الأشباه من غير بني آدم.
أكتب هذا لأسجّل وقع تلك اللحظة؛ لحظة تابعت فيها بعين كسولة - وغالباً عين التأمل كسولة، غير لاهثة ببحث عن مفقود، فقط انتظار هادئ لعثور، تابعت فيلماً وثائقياً عن الكنغر، فأدهشني ما عرفته عن أنثى الكنغر تحديداً.
عندما رأيت أنثى الكنغر عرفت أنها تشبهني، وبقليل من التأمّل والكثيرة من القراءة، عرفت أين يكمن الشبه، هي تشبهني ككاتبة!
تلك الأنثى المعجزة ذات تركيب إنجابي معقد، فأنثى الكنغر تصنّف من الحيوانات الجرابية. في أوقاتها السعيدة، أي أوقات الرخاء والمطر، تتطوّر البويضة المخصبة داخل رحم الأم لمدة 30 إلى 40 يوماً، كما اكتشف العلم عام 1945، فيتكون أنبوب جديد، قناة ولادة جديدة لم تكن موجودة من قبل يزحف خلالها الجنين الذي لا يزيد طوله عن 2 سم، كحبة فاصوليا غير مكتملة النمو داخل نفق الولادة، حتى يلتصق بأطرافه الأمامية إلى جراب أمه، ملتصقاً بحلمة مستطيلة لا ينفك عنها من 3 إلى 4 شهور.
لكل شيء شبيه وطلّة، يجتاحني إحساس خفي بما يشبهنا من الأشياء في الكون، أؤمن بتلك المقولة بأن لكل شخص أربعين شبيهاً، مع إضافة بسيطة: من الوارد جداً أن تلك الأشباه من غير بني آدم
يبقى الجنين في الكيس لمدة من 4 إلى 5 أشهر حتى يبدأ الاستكشاف على مقربة من والدته قبل أن يتركها وينفصل نهائياً عنها ما بين 10 إلى 12 شهراً.
لا يعد السابق مدهشاً جداً، المبهر هنا أن أنثى الكنغر يمكن لها أن تحمل في جنين آخر من تزاوج واحد وتلده كآلة السكاكر ملتصقاً بإحدى حلمات الحليب، بينما ما زال ولدها الآخر، والذي يطلق عليه العلماء اسم " جوي"، لم ينفصل عنها بعد. ترضعهم من حلمات منفصلة، جوي من لبن عالي الدسم والآخر من لبن سهل الهضم، الأكثر إدهاشاً مما سبق أنه يمكن أن يكون رحمها محملاً ببويضة مخصّبة أيضاً، أي في فترة من الفترات، يغذّي جسد أنثى الكنغر ثلاثة صغار منفصلين في وقت واحد، بالإضافة إليها.
هنا، عيني الكسولة المتابعة انتبهت، تركت طعامي قبل أن أكمله، سجّلت بعض الملاحظات على هاتفي، استعنت بدراستي كطبيبة بيطرية كي أفهم ما الذي يجرى هنا، قلت في سري: "هذا أنا ككاتبة"، عددت على أصابعي كم عدد الأجنة/ مشاريع الكتابة التي على جسدي أن يغذيها معا الآن: "جوي" طفلي الكبير، "مشروع رواية" لم ينفك عني بعد، لكنه بدأ في استكشاف بيئته، عرفت الشخصية الرئيسية فيه مرادها وفهمت ما هي بصدده ورأت طريقها، لكنها كي تنفصل نهائياً تتنزع غذاء عالي الدسم، وهذا ما يبقي عقلي في حال ضعف شديد، وكآلة سكاكر (أحببت ذلك التشبيه) بلا تدخّل منّي، هناك فكرة قوية عالقة لا سبيل فصلها عن تعرجات مخيلتي، بل أغرقها بالملاحظات والأفكار وبعض السعة من الوقت الضيّق أساساً بما يجب، وللسخرية هناك أخرى لم تخرج بعد من نفق الولادة، لكنها كانت كافية لتغيير ذوقي الموسيقى تغييراً صادماً كي أعيش أجوائها وأحلم بأبطالها.
كل ذلك، فضلاً عني أنا كطبيبة وابنة وصديقة وأخت، وما يتبع ذلك من متطلبات ومهام وجهد.
أكملت بعدها الفيلم متسائلة ربما كطريقة للتعلم منها: ما الذي تفعله أنثى الكنغر كي يتحمّل جسدها كل ذلك العبء؟ جاءت الإجابة عظيمة: تقفز.
في ذروة أوقات الجفاف تتخلي أنثى الكنغر عن أطفالها، لذا إذا لازمتني أوقات يأس ورياح عاصفة، كأنثى كنغر مثالية، يجب وبلا تأنيب ضمير أن أتخلى عن أي شيء وأنجو بنفسي أولاً
برغم أنها تبدو طريقة تستهلك الكثير من الجهد، تعرف أنثى الكنغر أن القفز هو أكثر وسيلة للحفاظ على الطاقة، أكثر من الركض.
في بيئة جافة كأستراليا، فترات الجفاف فيها أكثر من فترات المطر، تحتاج أنثى الكنغر للقفز لمسافات طويلة بحثاً عن العشب والماء، محافظة على طاقتها القليلة جداً، والتي تتغذي فيها على عشب قليل السعرات وماء شحيح، لذا يظل القفز الخيار الوحيد أمامها.
بعض المشاهدات تخبرنا: "أن حيوان الكنغر يتحرّك بهدوء شديد مقارنة بالحيوانات الأخرى. ربما لأنها على اتصال بالأرض قليل جداً، أو ربما لأن لديها قدمين فقط للقلق بشأن قدرتهم على وضع أقدامهم بعناية. مهما كان السبب، يمكن لمجموعة كبيرة من حيوانات الكنغر التحرك بسرعة كبيرة دون الكثير من الأصوات على الإطلاق.
طول خط القفز السريع للكنغر طويل (6 أمتار بسرعة 50 كم/ساعة) هذا يعني أنها تلمس الأرض مرتين فقط في الثانية، في المقابل، يلمس الحصان الراكض الأرض أربع مرات في كل خطوة".
عندما وصلت لتلك النقطة من البحث والقراءة، قفزت فرحاً من فهم أعرف أنه أنقذني. نعم، القفز دون ضجة هو الحل وليس الركض. الركض يعني أن أقطع المسافة كلها، أن ألمس الأرض مراراً لكن بشكل أسرع، عليّ القفز عن كل ما يعطلني، عن كل ما من غير فائدة، القفز عن الواقع وإحباطه، هذا لأني لا أملك سوى الكتابة ويجب عليّ العناية جيداً بشأن وضع أقدامي في كل مرة.
كل ما سبق تبقى الدرس الأكثر أهمية بالنسبة لي، في ذروة أوقات الجفاف تتخلي أنثى الكنغر عن أطفالها، لذا إذا لازمتني أوقات يأس ورياح عاصفة، كأنثى كنغر مثالية، يجب وبلا تأنيب ضمير أن أتخلى عن أي شيء وأنجو بنفسي أولاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين