تروي لي جهينة، كبرى إخوتي، أنّ أمي لم تكن الوحيدة التي كانت تبكي كلما أنجبت أنثى، فمعظم نساء القرية بكينَ بقهرٍ لأنهنَّ يعلمنَ ما سيقال في حقهنَّ: "صرلها تسع شهور عم تتغذب وبالأخير جابت ‘فصدعة’ (ضفدعة)"، أو "يا حرام جابت بنت"، أو "يلا بسيطة ‘البطن’ يلي جاي بتعوضيها وبتجيبي صبي"، أو "إذا كل مرة بدك تجيبي بنت زوجك رح يتزوج مرة تانية. ما تزعلي حقو يعمل هيك"، وغير ذلك من الكلام الذي فيه إهانة وعنف ودونية للمرأة.
قمتُ بجولةٍ صغيرة في قريتي وفي بعض القرى المجاورة، والتقيتُ فيها بعدد من النساء والرجال تتراوح أعمارهم بين الستين والثمانين عاماً، وسألتهم: من أين كنتم تحصلون على المعلومات والمعرفة، أنتم وأهلكم، بخصوص معظم قضايا الحياة وبالتحديد موضوع الإنجاب، وأيّهما أفضل الأنثى أم الذكر؟
بناءً على ما سمعته، يمكنني القول إنّ رجال الدين وأصحاب النفوذ الاقتصادي والاجتماعي في تلك الفترة، هم مصدر المعلومات والمعرفة، وكلامهم كان مسموعاً ولا غبار عليه. وبما أن غالبية الناس حينذاك كانوا يعانون من الفقر والجهل والأمّية، ويحكمهم الدين والأعراف والتقاليد المتوارثة، كان من السهل على ما يبدو إقناعهم من قبل أولئك بالكثير من الأمور، مثل أنّ المرأة في حال أنجبتْ مولوداً ذكراً فالسبب في ذلك يعود لزوجها، وإن أنجبت أنثى فالسبب هو وجود عيبٍ أو ضعفٍ في جسدها، ولا علاقة لزوجها بذلك، وأنّ الله فَضّل المولود الذكر على الأنثى.
بالطبع كان الدليل الأقوى على صحة مثل هذا الكلام، هو القرآن، إذ جاء في سورة الكهف الآية 46 (الْمَالُ والبَنُونَ زِيْنَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاْلبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً). وبالرغم من أنّ الآية لم يُذكر فيها أيُّ شيء له علاقة بعيب أو ضعف في جسد المرأة، ولا بكون الرجل سبباً في مجيء المولود ذكراً، إلا أنهم كانوا يستشهدون بها، ولم يكن هناك من يعترض على ذلك!
يرى الدكتور محمد شحرور أنّ كلمة البنون الواردة في الآية 46 من سورة الكهف، تدل على الأبنية وليس على الأبناء، مع العلم أنّ هذه الكلمة وردت في آيات أخرى، وكان الأبناء هم المقصودون منها، أي أنّ دلالتها تتغير بناءً على الطريقة التي تَرِد فيها ضمن الآية، حسب رأيه. من جهة أخرى يَرى بعض رجال الدين وبعض المفسرين للقرآن، أنّ كلمة "البنون" في الآية ذاتها، تدل على الذكور والإناث معاً، بينما يَرى مُفسرون ورجال دين آخرون أنّ كلمة البنون تدل بشكل حصري على الذكور ولا علاقة للإناث بها. بالطبع سكان قريتي والقرى المجاورة كانوا من أصحاب هذا الرأي.
"كان من السهل على ما يبدو إقناع غالبية الناس بالكثير من الأمور، مثل أنّ المرأة في حال أنجبتْ مولوداً ذكراً فالسبب في ذلك يعود لزوجها، وإن أنجبت أنثى فالسبب هو وجود عيبٍ أو ضعفٍ في جسدها"
حين سألت أحد هؤلاء، وكان رجلاً في السابعة والسبعين من عمره: بما أنّ ضعف المرأة حسب رأي غالبية الناس في تلك الفترة، هو السبب في إنجابها الأنثى، أليس من المنطقي أن تكون قوتها هي السبب في إنجابها الذكر ولا علاقة لزوجها بالأمر؟ أجاب: "ليك عمي رامي المرا هي السبب إذا كان المولود بنت أو صبي، بس لما بتجيب صبي الفضل الكبير بيرجع لزوجها لأن نوعية ‘البدار’ (البِذار) هي الأساس". المقصود بالبدار النطاف الذكرية التي يتم تجاهل الحديث عنها واستبدالها بجملة "عيب أو ضعف في جسد المرأة" في حال كان المولود أنثى!
إن لم يكن في مقدوري أن أُنجب مع زوجتي سوى مولود واحد لسبب ما، فأتمنى أن يكون هذا المولود أنثى، وبالطبع لا مشكلة لديّ إن جاء ذكراً، ولكن هذا ما أتمناه وأرغب فيه حتى هذه اللحظة. حين سمعت أمي كلامي، وبالرغم من كل ما عانته في ما مضى بخصوص ذلك، قالت لي: "الولاد رزق من عند الله ويلي بيبعتو الله يا محلاه، بس الصبي أفضل من البنت"، ثم صمتت لثوانٍ عدة، وقالت: "البنت حنونة على أهلها وبتهتم فيهم أكتر من الصبي".
رأي أمي في جزئه الأول مصدره الدين، ويظهر فيه أثر التربية والمورث والتقاليد. أما رأيها الحقيقي فهو ما قالته بعد أن صمتت لثوانٍ عدة. أظن أن أمي، بينها وبين نفسها أو في لا وعيها، تُفضّل الأنثى على الذكر، أو على الأقل لا ترى أن هناك فرقاً يُذكر بينهما.
قالت لي أمي: "الولاد رزق من عند الله، بس الصبي أفضل من البنت"، ثم صمتت لثوانٍ عدة، وقالت: "البنت حنونة على أهلها وبتهتم فيهم أكتر من الصبي". رأي أمي في جزئه الأول مصدره الدين والمورث، أما رأيها الحقيقي فهو ما قالته بعد صمتها
لماذا المولود الذكر أفضل ومُرحب بولادته أكثر من الأنثى لدى شريحة كبيرة من البشر؟ برأيي هناك العديد من الأسباب في مقدمتها الدين والأعراف والتقاليد الاجتماعية والعائلية والخلفية الثقافية وما شابهها، فالأنبياء والرسل والأولياء والقديسون معظمهم ذكور، وتالياً الذكر هو الأفضل وصاحب المكانة الأكبر عند الله من الأنثى، حسب رأي تلك الشريحة البشرية. أيضاً هناك سبب له علاقة بفكرة أن الذكر هو السند والمعيل وحامل اسم العائلة، وهذا برأيي يعود إلى مرحلة من حياة البشرية كان فيها عدد الذكور ضمن العائلة أو القبيلة أو الدولة ضرورياً من أجل الحماية وشن الحروب والقيام بالأعمال التي تحتاج إلى القوة البدنية، وغير ذلك.
يبدو أنه لا زالت هناك بقايا من هذه المرحلة موجودة في لا وعي كثيرين من البشر وفي وعيهم أيضاً، بالرغم من أن عدد الذكور الآن لم يعد مهماً ولا ضرورياً من أجل ما تم ذكره أعلاه، فمثلاً يمكن لآلة واحدة أن تقوم بعمل كان يحتاج إلى عشرات الرجال وأحياناً إلى مئات منهم، ويمكن لشخص واحد بكبسة زر أن يطلق سلاحاً نووياً يفتك بجيش مؤلف من ملايين الذكور.
من المؤلم والمؤذي جداً أن يكون الإنسان امرأةً في مجتمع كهذا، وفي مجتمعاتٍ مشابهة تنظر إلى المرأة بدونية، وتمارس عليها التنمر والقمع والعنف بكل أشكاله. ومن المؤسف أنّه لا تزال هناك حتى الآن مجتمعات لم تُغيّر نظرتها إلى المرأة ولا أسلوب تعاملها معها على كافة الأصعدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...