شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عينا من لا بصر له ولسان من لا صوت له

عينا من لا بصر له ولسان من لا صوت له

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 15 أبريل 202301:00 م

الحواس


في المواعيد الغرامية الأولى الساذجة، وحين يكون العاشقان أقل جرأة من أن ينظرا في عيني بعضهما مطولاً، أو أن يستغرقا النظر إلى باقي أجزاء الجسد، تقف اليدان وحيدتين تحت بقعة الضوء، تتوتران، تتعرقان، تتحركان بسرعة، كممثل يقف على الخشبة أول مرة، يحاول استذكار حواره ريثما يهدأ تصفيق الجمهور.

الإيماء، النقر بالأظافر على الطاولة، لمس شاشة الهاتف المحمول، العبث بثقب في الغطاء، حكّ بقعة قهوة قديمة عليه، اعتصار "شلمونة" العصير، الإمساك بالملعقة وتحريك القهوة، حصر سيجارة بين إصبعين ثم الاصطدام بأي شيء وسكبه.

لا أحد محروم من نعمة مراقبة اليدين في الموعد الأول، ومحاولة الاستقراء والاستنباط المبني على صورتهما، وهذا ما أظنه السبب الذي جعل صديقتي تحرص على تنظيف الشعر الأشقر عن أصابع يديها البيضاوين بالشمع قبل أن تطلي أظافرها بلون أسود، ثم تدلكهما بالنيفيا قبل موعدها الغرامي في كافيتريا الجامعة.

بياض، نعومة، لزوجة وعطر، هذا ما كان يعود به بعد المصافحة الأولى، وهذا ما يكفي لنسج عشرات التخيلات والتهيؤات عما تخفيه الأكمام تحتها.

لو لم تكن اليدان أول الطريق نحو الحب لما كانت دبل الخطوبة والزواج تعلق فيهما، اليدان سباقتان دوماً، فما من جسد يصل إلى جسد قبل أن تتلاقى جسورهما وتمهد الطريق. في المصافحة تشدان أو تنسحبان، وفي العناق تلتفان وتسندان راحتيهما على الكتف والظهر أو الردف والخصر، كأنهما انتحاريان يقتحمان أسوار الملابس، ويفجران دفاعات "اللا"، ممهدين الطريق أمام الجحافل.

اليدان سفيرتان تتحدثان جميع اللغات بصمت، تقبلان، تغويان، تتماديان، تقرصان، ترقصان، تخرمشان، تعزيان، تعتذران، تشتمان، تتوسلان وأيضاً تخذلان... مجاز

وأصابع اليدين أضحية الجسد، ينذرها للمجهول والمغامرة، فأول ما يستغرب شيئاً يتلمّسه بها، وأول ما يقلقه شيء يبعده بها، وأول ما تظهر المعجزات منها، فتخرجان من جيوب الأنبياء بيضاً من غير سوء وينبع الماء من خلالها، يثنيها الجسد لحماية وجهه عند الضرب والخوف، ويوعز لها بالانسلال على مهل فوق غطاء الطاولة لتنفرد وتطلب من الآخر "أن لنقترب"، فتتلقى صفعة الرفض أو انتظار التردد أو لذة اللقاء.

أما الراحتان فإنهما واحتان، لوحان مكنونان من التاريخ والمستقبل، مستقر عصي العقاب في المدرسة، والرقيم الذي يحفظ أرقام الصدف الغرامية، وموطن اللعبة الأولى "باح يا باح".

اليدان سفيرتان تتحدثان جميع اللغات بصمت، تقبلان، تغويان، تتماديان، تقرصان، ترقصان، تخرمشان، تعزيان، تعتذران، تشتمان، تتوسلان وأيضاً تخذلان.

اليدان هوية مصغّرة

لا تعمد النساء اللواتي ينظفن الصحون بشكل متكرّر إلى وضع طلاء الأظافر، وفي كل بيت فيه العديد من البنات، تكون واحدة منهن مستعدة لأداء جميع المهام المنزلية باستثناء الجلي، حرصاً منها على طلاء الأظافر سريع الخدش والقحط، وخوفاً على يديها غير المعتادتين من حساسية تصيبها بسبب سائل الجلي. وللنساء اللاتي يعملن في الأرض سمرة واضحة في اليدين، مرفقة بخشونة وتشقق في الأصابع، واللواتي يمسكن الأقلام لفترات طويلة تظهر لهن عقد على أصابعهن الوسطى من جهة السبابة، أما اللواتي يعجنّ الطحين ويعملن في الخبز فيتلون الجلد فوق براجمهن (مفاصل سلامياتهن) بالحمرة حتى المساء، وأولئك العاملات في التمريض والطبابة تكون الأكزيما الناتجة عن الإكثار من المعقمات سبباً في انمحاء بصمات أصابعهن.

نعومة اليدين معيار الرفاهية

"سألوا الدب شو بتشتغل؟ قال: موظف بالسرايا، قالوا: باين من إيديك الطرايا"، بهذا المثل الشعبي كان يعيّب على الرجل ناعم اليدين، فالنعومة دلالة على كسله أو علمه في الحكومة وجني الضرائب، بعيداً عن المهام التي كان يمارسها الرجال عادة فتسبب لهم خشونة تدل على عصاميتهم ورجولتهم كالعمل في البناء أو الزراعة، أما نعومة اليدين عند المرأة فمعيار أنوثة فارهة، فنزار قباني في وصف يدي حبيبته يقول:

اليدان عينا من لا بصر له، ولسان من لا صوت له، وعائل من لا معيل له

على الرغم من نزعتي الراديكالية

 وتعاطفي مع جميع الثورات الثقافية في العالم

فإنني مضطرٌ أن أرفع قبعتي ليديك البورجوازيتين…

المصنوعتين من الذهب الخالص...

مضطرٌ أن أعترف بنعومتها القصوى وأنوثتها القصوى...

وسلطتهما المطلقة على الماء

والنبات والحجر والبشر...

في المصافحة تشدان أو تنسحبان، وفي العناق تلتفان وتسندان راحتيهما على الكتف والظهر أو الردف والخصر، كأنهما انتحاريان يقتحمان أسوار الملابس ويفجران دفاعات "اللا"، ممهدين الطريق أمام الجحافل... مجاز

ويزيد طول الأصابع من حسنهما إلى جانب البياض، فهناك نوع شهي من العنب تكون حباته بيضاء طويلة يسمى "أصابع العروس"، أما النوع الأسود منه فيسمى "أصابع الساحرة".

لليدين يد في كل شيء

في اللغة يشار إلى اشتراك فلان بأمر فيقال وضع يده فيه، ويُدل على فاعل الخير باليد البيضاء، والبخيل باليد المغلولة، وصاحب السلطة باليد العليا، والكادح باليد السمراء، والمندس باليد الخفية، والعاجز باليد المكسورة، والأسير باليد المكبلة، والسارق باليد الطويلة، والخشن باليد المالحة، والمبذّر باليد المثقوبة، والسائل باليد الممدودة للناس. العروق في اليدين عامل إثارة وكناية عن العزم، والأظافر المدببة دلالة شراسة مغناج.

في برامج الطبخ تكون اليدان البضتان المتحليتان بالذهب سيدتَي الصورة، وفي العزف تكونان _مهما بدا شكلهما_ بطلتي المشهد، وفي الرقص، ولكيلا يغفل أحد عن جمال تمايلهما، توضع فيهما فقاشات، وفي الراحتين يختبئ النصيب الذي تستقرأه العرافات، في الموت تستسلمان بوضع كف على كف، في الفرح تصفقان، في الوداع تلوحان، في الخصام تدفعان، في الولادة تتشبثان وتنقبضان، وفي انثناء الأصابع وامتداد بعضها إشارات النصر والموافقة والحب والإهانة والتوعد. من كدّهما تشبع البطون، وفي لمسهما قرة العيون.

اليدان عينا من لا بصر له، ولسان من لا صوت له، وعائل من لا معيل له.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image