هذا المقال جزء من مجموعة مقالات ينجزها رصيف22، عن العملات الرقمية والاستثمارات الجديدة، في محاولة لتقديم خريطة طريق نحو "اقتصاد آمن"، بعيداً عن احتكارات البنوك، وفساد الحكومات، والتغيرات السياسية العالميّة.
أشار تقرير "واقع الاقتصاد الإسلامي العالمي" لعام 2022، إلى أن قيمة الإنفاق الاستهلاكي "الإسلامي" وصلت إلى ما يقارب تريليوني دولار، والمتوقع أن يصل حجم هذ الإنفاق إلى 2.8 تريليونات دولار، عام 2025، أي أننا أمام نموذج اقتصادي قائم على معايير تراعي حسب وصفها "القيم والمبادئ الإسلامية".
يغطّي هذا الإنفاق الاقتصادي الخدمات، والأغذية، والقروض، ومستحضرات التجميل التي تلتزم بالمعايير الإسلامية الخاصة بالمحرّمات في الدين الإسلامي، سواء تلك المتعلقة بالطعام والشراب، أو تلك المرتبطة بالمال نفسه، حيث يعاد النظر في أساليب التعامل مع المال لتفادي الفائدة والغرر، والقمار. بصورة ما، يضمن هذا النموذج الاقتصادي أن المال يمرّ ضمن قنوات لا تحوي شبهةً، وبرغم الكثير من الانتقادات والملاحظات الموجهة إلى هذا الشكل الاقتصادي، لكن لا يمكن تجاهله مع ازدياده عالمياً.
واجهت العملات الرقميّة أزمة التحليل والتحريم حين انتشرت في العالم العربي، وتخبطت الفتاوى في ما يتعلق بها. عام 2017، أصدرت أمانة الفتوى في دار الإفتاء المصريّة، تحريماً قاطعا لها، وعام 2021، أفتت الهيئة العامة للشؤون الإسلامية في الإمارات، بـ"جواز المتجارة" بها، وفي حين شبّهها البعض بالمقامرة محرّماً إياها، ومال البعض إلى تحريم المضاربة، وإجازة امتلاكها، رأى الكثيرون أنها لا تمتلك خصائص "العملة" شرعاً وقانوناً.
عام 2022، بعد أن اتضحت ملامح العملات الرقميّة، أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فتوى لا تجيز التعامل بالبتكوين والعملات غير الرسميّة بـ"شكلها الحالي"، بهدف "تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد"، في إشارة إلى الضرر الذي قد تعود به على "المسلمين". لكن اللافت في الفتوى هو القسم الرابع منها: "لا يشمل القول بالمنع والتحريم العملات الرقمية الرسمية التي تصدرها الدولة، أو تتبناها البنوك المركزية وتضمنها، فهذه يجوز التعامل بها في نطاق الدولة التي أصدرتها"، أي بصورة ما، تنتصر الفتوى للعملات الرقميّة الوطنيّة، وتالياً ترسّخ سلطة البنك والدولة على حساب اللا مركزية التي تنادي بها العملات الرقميّة.
إستراتيجيات تفادي الشبهة
تأسست عام 2021، منصة "كريبتو حلال"، التي تهدف إلى "الرقابة والتدقيق الشرعي على تعاملات أسواق العملات الرقمية"، إذ يقدّم القائمون على المنصة المشورة، والإجابة عن الأسئلة المختلفة حول العملات الرقميّة على منصات التواصل الاجتماعي، كما يقدّم "كريبتو حلال" شهادات "ثقة" للمنصات والعملات الجديدة ومدة شرعيتها واتساقها مع نظام الاقتصاد الحلال.
تضارب الآراء الفقهية بين من يحرّم ويبيح ويحلل، يكشف عن تردد موقف الاقتصاد الإسلامي من العملات الرقمية، فيما تتفق الآراء بشكل عام على أن العملات الرقمية التي تصدرها البنوك الوطنية مشروعة. الجدل يحيط إذاً باللا مركزيّة التي تتبناها العملات الرقميّة
ترعى المنصة أيضاً محفظة "إسلام والت"، التي يتم عبرها تبادل عملة "إسلام كوين"، التي تتسق مع معايير الشريعة، وتعتمد نظام "إثبات الحصة POS"، إلى جانب تطوير محفظة الاسترداد التي تحمي أصحاب العملات من الهجمات الرقميّة. تعد "إسلام والت" أيضاً، بأنها تحوي ميزة "الزكاة"، إلى جانب اعتماد "بوت" التداول "Zaki"، القادر على القيام بالتبادلات بشكل أوتوماتيكي يتوافق مع "الشريعة"، ويمكن لمتابع المنصة عبر فيسبوك أن يرى كيف حكمت المنصة أن الإيثيروم "مباح"، والبيتكوين أيضاً مباح، علماً أن الفتاوى السابقة تستهدف هذه العملات بالذات.
ما زال التطور التقنيّ يغيّر من "قواعد" التعامل مع العملات الرقميّة وأساليبه، والفقه المالي الإسلامي يحاول ملاحقة هذا التطور، لكن الواضح أن المشكلة تتعلق بـ"المجهولية" و"المضاربة" و"الضمان" في ما يخص الموقف الفقهي من العملات الرقميّة. فتضارب الآراء الفقهية بين من يحرّم ويبيح ويحلل، يكشف عن تردد موقف الاقتصاد الإسلامي من هذه العملات، فيما تتفق الآراء بشكل عام على أن العملات الرقمية التي تصدرها البنوك الوطنية مشروعة. الجدل يحيط إذاً باللا مركزيّة التي تتبناها العملات الرقميّة.
إسلام كوين: حذلقات العملة الحلال
السباق في اقتصاد الحلال وما يحويه من غوايات استثمارية، بدأ يأخذ شكلاً أكثر جديّةً، إذ يعلَن قريباً عن إطلاق عملة "إسلام كوين" للتبادل العام، ضمن شبكة "الحق" للكتل المتسلسلة، التي تضمن الانصياع لمعاير الشريعة، وهذا بالضبط ما يشير إليه المؤسس المشارك للعملة، محمد الكاف الهاشمي، الذي يؤكد أن مفهوم "الريادة" هو ما سيجعل العملة الإسلامية تنال انتشاراً، كونها تعتمد مفهوماً "إسلامياً" لا فقط كصفة تسويقية ولتحريك العواطف، بل من خلال الالتزام بكونها "الرائدة" و"الأولى" في هذا المجال. ويضيف: "تشمل العملة جانباً خيرياً بنسبة 10%، حيث أن كل عملة يتم إصدارها تذهب هذه النسبة منها إلى نشاط خيري متعلق بالتكنولوجيا في العالم الإسلامي، وتالياً فإن الاستثمار في هذه العملة لا يعني فقط حصول الشخص على فوائد الربح والاستثمار، بل دعم مشاريع كثيرة تسير في الناحية التكنولوجية".
السباق في اقتصاد الحلال وما يحويه من غوايات استثمارية، بدأ يأخذ شكلاً أكثر جديّةً، إذ يعلَن قريباً عن إطلاق عملة "إسلام كوين" للتبادل العام، ضمن شبكة "الحق" للكتل المتسلسلة، التي تضمن الانصياع لمعاير الشريعة
أين الشبهة بدقة؟
تبدو كلمة الشريعة الإسلامية غامضةً في ما يخصّ العملات الرقميّة، وتذكّر دائماً بمفاهيم الربا والقمار وغيرها من التعريفات التي لا يأخذها الاقتصاد التقليدي بعين الاعتبار، وبعيداً عن مفهوم "ضمان" العملة بمقابل مادي، الذي يقتصر على العملات الرقمية التي تصدرها بنوك، والتي لا يحرَّم التبادل بها، يظهر مفهوم المجهولية بوصفه العقدة التي يقف عندها الفقه الإسلاميّ، فـ"معرفة" سير عمليات التبادل والإنفاق تهدد أحد أهم أسس العملات الرقميّة، القائم على الانفتاح الكليّ والثقة بالتعامل نفسه، لا بالسلعة التي يتم شراؤها.
مثلاً، البنك الإسلامي، عادةً، يضمن للمودعين أنه لا يقدّم قروضاً ولا يموّل المشاريع التي تحوي شبهة "الحرام"، كونه يعرف من يُقرض، ومن يقترض منه، وهنا المفارقة، في حالة العملات الرقمية. أساس اللا مركزية قائمة على مجهولية أطراف التعاقد، فهل العملات الرقمية الإسلاميّة ستحافظ على هذه المجهوليّة؟ لا نعلم.
الجانب الآخر هو ضمان البنك للعملة الرقميّة، تقلّب أسعار البيتكوين وعدم ثباتها هما ما يحرّك فتاوى تحريمها، لكن هذا بالضبط ما يؤكد لا مركزيتها، وقدرتها على تجاوز السوق الرسميّ، وهذا ما يتضح في الفتاوى ذاتها التي تحرّم العملات الرقمية، وتبيح تلك الخاصة بالبنوك، التي بالأصل تقف العملات الرقميّة بمواجهتها، ولا يمكن هنا تجاهل التوظيف السياسي لهذه الفتاوى، التي تميل نحو البنك الوطني، بوصفه صاحب السلطة على المال.
الملاحظ أيضاً أن الفتوى الخاصة بشبكة "الحق"، تصنّف "إسلام كوين" كنوع من العملات التي يمكن "التعامل بها مع منتج معيّن أو منصة معيّنة، بحيث تكون هي العملة الرئيسية التي يتم من خلالها تقييم وشراء الخدمات والمنتجات المقدمة في تلك المنصة أو البرنامج". الغموض السابق إحالة إلى نوع من الانغلاق في هذه المنصات، أي التركيز على ما تقدّمه منصة الحق فقط، أو المنصات التي توافق إسلام كوين على التعامل بها، ما يعني أنها ليست مفتوحةً أمام المنصات الأخرى إن أمكن افتراض ذلك.
وهذا الانغلاق إن صحّ، يعيق تطور العملات الرقميّة، بل يمكن القول، ولو فرضياً، إن سوق العملات الرقمية الإسلاميّة، إن كان فعلاً سيلتزم بالمعايير الشرعيّة، سيكون مغلقاً على مجموعة من السلع والخدمات وأشكال التبادل، ولا يمكن له احتواء كل ما يمكن استخدام العملات الرقميّة ضمنه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...