شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
شهد جلسة نُعت فيها الرئيس بـ

شهد جلسة نُعت فيها الرئيس بـ"ابن الـ..."... غضب عبد الناصر على يحيى حقي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

لم تتوقف مصارعة دولة يوليو لخصومها الكثيرين في الداخل والخارج يوماً واحداً. وصبغت شعبوية زعامة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر وانفراده بالقرار والملامح السلطوية لأجهزة حكمه معالم هذه المصارعة بالحدة والاستقطاب.

وكان من الصعب على أي أحد على صلة بالأحداث في مصر أن يُبقي نفسه بمنأى عن مجريات وتقلبات السياسة، حتى لو كان هذا الأحد رجلاً من طبيعة دمثة وتجنح إلى الهدوء والوداعة، ولم يَدخل في أي انحياز حزبي أو نزاع سياسي، كالأديب يحيى حقي.

على الرغم من أصوله التركية، كان حقي يمتلك شخصية مصرية صميمة وفاتنة. وتدل على مصريته وإنسانيته أعماله السردية المرموقة، بعناوينها ومضامينها، مثل: "قنديل أم هاشم"، "البوسطجي"، "خليها على الله"، "أم العواجز"، "من فيض الكريم"، "من باب العشم"، "أنشودة للبساطة"، و"مولد بلا حمص"...

يصف الناقد رجاء النقاش حقي بأنه "تلميذ السيدة زينب"، قاصداً نسبته إلى الحي المصري الذي نشأ فيه، ويضيف أنه كان "رجلاً مسالماً لا يعادي ولا يخاصم، ولا يحب لنفسه أن يكون طرفاً في أي صراعات أو معارك، كما أنه كان حريصاً على استقلاله، رافضاً كل الرفض الاشتغال بالسياسة والدخول في أمواجها الصعبة العاتية".

رغم ذلك، دخل حقي في خصومة مع عبد الناصر، رغم أنه لم يكن له يد في مسبباتها، ولم يعرف بها حتى.

بذاءة ضد الرئيس

في كتاب "عشرة أدباء يتحدثون"، يقول حقي للناقد فؤاد دوارة: عندما أعيد قراءة مقاطع مما كتبته في قنديل أم هاشم أقول إنني كنت "قليل الأدب" وكنت "بذيئاً" لأنني شتمت الشعب المصري شتائم فظيعة جداً، وأنا شديد الخجل بسبب ذلك، فعندما أقول عن الشعب إن "بوله فيه دم وديدان"، أي أنه مصاب بالبلهارسيا والأنكلستوما، أو أقول عن الناس "إنهم يسيرون كالقطيع فليس فيهم مَن يسأل أو يثور"، في مثل هذا الكلام بذاءة شديدة ولا بد من الاعتذار عنها.

كلمات يحيى حقي هذه تجسّد حساسيته الأخلاقية العالية، إلى درجة المثالية، وحرصه على "عطر الأحباب" (وهذا عنوان لأحد كتبه) حتى وهو يجسّم بؤس وضراوة واقعهم المعاش.

بالإضافة إلى ذلك، لم يكن حقي من معارضي حكم عبد الناصر، ولا من الناقدين لسياساته العروبية وأيديولوجيته الاشتراكية، وإنْ جعل من أفقه الإنساني المتسِع مدخلاً خاصاً له إلى سائر مفاهيم وأوضاع السياسة والمجتمع في زمانه.

في كتابه "مذكراتي في السياسة والثقافة"، يروي وزير الثقافة المصري الأسبق ثروت عكاشة واقعة عصيبة كان حقي، دون أن يدري، طرفاً فيها، دفعت عبد الناصر إلى اعتباره خصماً تجب معاقبته. وبالفعل عوقِب بالعزل من منصب مدير مصلحة الفنون الذي كان يشغله، قبل إلغاء المصلحة برمتها، ليكون مديرها الأول والأخير.

حدث ذلك في العام 1958، بعد شهرين فقط من تولي عكاشة منصب وزير الثقافة. كتب: "اتصل بي سكرتير رئيس الجمهورية يدعوني إلى لقاء عاجل مع الرئيس، الذي ما إنْ لقيته حتى طلب مني الاستماع إلى شريط صوتي مسجل لمجموعة من الأشخاص انهالوا على شخص الرئيس بالشتائم البذيئة ناعتين إياه بأحط النعات، وسألته مندهشاً عمّن يكونون، فذكر لي اسم أحد الوزراء واسم أديب رائد مرموق، وأنه استغنى عن خدمات الوزير وأمر باعتقال الأديب الشيخ، ولما سألته عن الغرض من دعوتي للاستماع إلى ذلك التسجيل، قال إن يحيى حقي رئيس مصلحة الفنون كان متواجداً معهما ويتعيّن إحالته إلى المعاش، فبادرته بقولى: لكن من الواضح من التسجيل الصوتي أنه لم يشارك في هذا السباب، وهو مشهود له بعفة اللسان ودماثة الخلق فضلاً عن أنه أديب مرموق ومحبوب، ومجازاته ظلماً على هذا النحو سيكون لها أثر سيئ في أوساط المثقفين والعامة على السواء. فقال: لكنه كان موجوداً معهم ولم يعترض وهذا يكفي. فناشدته أن يترك الأمر لي لأعالجه بأسلوب مناسب فوافق مقتنعاً بعد إلحاح".

"عندما أعيد قراءة مقاطع مما كتبته في قنديل أم هاشم أقول إنني كنت ‘قليل الأدب’ وكنت ‘بذيئاً’ لأنني شتمت الشعب المصري شتائم فظيعة جداً"

مع استشعار الوزير للحرج من تنحية حقي من إدارة مصلحة الفنون، وهو المدير الناجح، أسند إليه كتعويض مهمة تدريب العاملين الجدد في وزارة الثقافة، بالإضافة إلى "منصب ملحوظ" في دار الكتب، وفاتحه في رئاسة تحرير مجلة "المجلة" حتى لا يشعر بغربة عن عالمه في مجال الفكر والأدب والفن. وأخفى عكاشة عن حقي ما دار بشأنه في لقائه مع عبد الناصر، ويقول: "قبل منّي ذلك بدماثته المعهودة".

الواقعة بلسان أبطالها

بطل الواقعة الأول كان الناقد محمود محمد شاكر الذي سُجن لمدة تسعة أشهر، أما بطلها الثاني، وهو الشيخ أحمد حسن الباقوري، فقد عُزل من منصبه وزيراً للأوقاف.

رواية الباقوري للواقعة تختلف اختلافاً لافتاً عن رواية عكاشة لها. يحكي في كتابه "بقايا ذكريات" أنه لم يكن له يد في ما حدث ويرمي بالمسؤولية بالكامل على الناقد محمود شاكر. يقول: "ذات يوم اجتمعنا في ندوة في دار محمود شاكر، ورن جرس التلفون وإذا المتكلم هو يحيى حقي، وكان يشكو إليه أنه نقل إلى عمل لا يناسبه. فقال محمود شاكر في حماسة عمياء: وما حيلتي يا أخ يحيى في هؤلاء العساكر الذين يحكمون البلد وعلى رأسهم جمال عبد الناصر ابن الـ(...)".

ويعلّق وزير الأوقاف الأسبق على الشتيمة ويقول إنها "تستوجب حد القذف لو كان القانون يأخذ بالتشريع الإسلامي". وهذه العبارة ذات الصياغة الماكرة مقصودة من الباقوري الذي كان قبل توزيره عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وتبيّن وجوه الخلافات الدينية والسياسية والأيديولوجية بين الجماعة والدولة المصرية الحديثة برمتها.

"رن جرس التلفون وإذا المتكلم هو يحيى حقي، وكان يشكو أنه نقل إلى عمل لا يناسبه. فقال محمود شاكر في حماسة عمياء: وما حيلتي يا أخ يحيى في هؤلاء العساكر الذين يحكمون البلد وعلى رأسهم جمال عبد الناصر ابن الـ(...)"

لكن الغريب في سرد الباقوري للواقعة أنه يلمّح إلى تورط الناقد محمود شاكر عن عمد فيها. يقول: "كان الدور الأرضي (في مسكن محمود شاكر) قد خلا من قاطنيه وسكنه أحد رجال المخابرات. ولست أدرى إلى الآن إنْ كان هذا بعلم أو بالاتفاق مع الأستاذ محمود شاكر أم كانت مصادفة. وكان ضابط المخابرات عنده طبعاً كل أجهزة التسجيل فكان يسجل كل كلمة ينطق بها ناطق في هذه الندوة العلمية التي كانت مهوى الأفئدة".

والدرس الصحيح الذي فات الباقوري استخلاصه مما جرى، أدركه زميله في الحكومة، وزير الثقافة ثروت عكاشة. يعلق في مذكراته على الواقعة بالقول: "بطبيعة الحال، أرفض بذاءة القول للتعبير عن الخلاف في الرأي، لكني أدركت من ناحية أخرى أن التجسس على الوزراء وإحصاء تحركاتهم وسكناتهم وأسرارهم الشخصية داخل بيوتهم، قد اتصفت بالمساواة مع التجسس على المجرمين والخارجين على القانون، فكلهم في هذا سواء".

وفات ثروت عكاشة في ما يبدو أن يضم فئة أخرى أوسع، ليست من الوزراء ولا من الخارجين على القانون، وتضم كل المصريين الآخرين الذين شاءت حظوظهم أن تزج بهم في شراك التجسس التي تنصبها الأجهزة الأمنية، هؤلاء الذين كان يمثلهم في هذه الواقعة الأديب يحيى حقي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard