شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كيف استغلّ جمال عبد الناصر ضريح حسن البنّا للتخلص من خصومه؟

كيف استغلّ جمال عبد الناصر ضريح حسن البنّا للتخلص من خصومه؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأحد 19 فبراير 202310:13 ص

كيف استغلّ جمال عبد الناصر ضريح حسن البنّا للتخلص من خصومه؟

استمع-ـي إلى المقال هنا


في أعقاب ثورة تموز/ يوليو 1952، ظهرت صراعات عدّة في الحياة السياسية في مصر، كان أبرزها الصراع بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، والرئيس الراحل محمد نجيب، وكذلك الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين، بقيادة مرشدها الثاني حسن الهضيبي.

وفي سياق سعي عبد الناصر إلى جذب الجماهير ناحيته، قاده دهاؤه إلى زيارة ضريح مؤسس الجماعة حسن البنا، مرتين، في ذكرى اغتياله الرابعة والخامسة، وكانت لكل مرة ملابسات خاصة.

ثلاثة رؤساء حول ضريح البنّا

في الجزء الثالث من كتابه "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ"، كتب "مؤرخ الإخوان" محمود عبد الحليم، تحت عنوان "زيارتان لقبر الإمام": "في 12 شباط/ فبراير 1953، أبدى أعضاء مجلس الثورة عزمهم على زيارة قبر الإمام حسن البنا في ذكرى استشهاده، فرحب الإخوان، وكان في استقبالهم عند القبر جمع غفير من الإخوان على رأسهم المرشد العام (حسن الهضيبي)، وألقى الرئيس محمد نجيب كلمة طويلة مدح فيها حسن البنا".

ويشير عبد الحليم إلى أنه قيل آنذاك "إن جمال عبد الناصر كان هو صاحب فكرة زيارة قبر الإمام، وإنه هيأ نفسه للقيام بها، لكنه فوجئ بأن اللواء محمد نجيب قد سبقه إليها".

هذه الواقعة يذكرها أيضاً عباس السيسي في الجزء الرابع من مؤلفه "في قافلة الإخوان"، معلّقاً بأنه "كان من سياسة جمال عبد الناصر التقرب من الجماهير والتودد إلى جماعة الإخوان".

 ويبدو أن كلاً من جمال ونجيب أراد من الزيارة جذب الجمهور إلى صفوفه، خاصة أن جماعة الإخوان المسلمين تتمتع بشعبية كبيرة. ويذهب محمود عبد الحليم في هذا الاتجاه بقوله: "الزيارة كانت تجاوباً لما يدور في خواطر أكثر الناس، وقد رفعت من أسهم رجال الثورة عند الجمهور وزادتهم ثقة بهم وحباً لهم، ولهذا كان التسابق بين جمال ونجيب".

ويتطرق إلى هذه الزيارة أيضاً أحمد حمروش، وهو أحد الضباط الأحرار، في مؤلفه المعنون بـ"مجتمع جمال عبد الناصر"، ويذكر أن عبد اللطيف البغدادي وأنور السادات رافقا عبد الناصر ونجيب إلى ضريح البنّا في الذكرى الرابعة لاغتياله، وأن "الغرض كان إشعار الجماهير بأن حركة الجيش لا تعادي زعماء الأحزاب المنتمين لها، وإنما تعادي تصرفات خلفائهم من بعدهم".

إذن وقف الثلاثي محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات، وهم أشخاص توالوا على رئاسة مصر، على قبر مؤسس جماعة الإخوان ومرشدها الأول حسن البنّا.

حل جماعة الإخوان

مرت الزيارة الأولى بدون مشاكل، لكن بعدها ظهرت خلافات بين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب. كان الأخير يتمسك بالديمقراطية وعودة الحياة السياسية، وهو ما لم يُرضِ الأول، فعمل على الإطاحة به، كما أن عبد الناصر أراد أن يفتت جماعة الإخوان المسلمين، من خلال جذب بعض أعضائها إلى صفّه، فراح يهاجم مرشدها الثاني حسن الهضيبي، مستغلاً واقع أن الجماعة بأكملها لم تكن مع قرار تنصيبه مرشداً لها.

يروي الكاتب سليمان الحكيم، في مؤلفه "عبد الناصر والإخوان من الوفاق إلى الشقاق"، قصة خلاف عبد الناصر مع الهضيبي. يقول: "حينما علم عبد الناصر بمحاولة الهضيبي إعادة بناء الجهاز السري ليكون أداته في الصراع بين الثورة والإخوان، حاول من جانبه وأد تلك المحاولة، بأن بدأ الاشتباك مبكراً قبل أن ينجح الهضيبي في استكمال بناء جهازه السري، ليقضي على تلك المحاولة في مهدها".

ووفقاً للحكيم، انتظر عبد الناصر الفرصة المناسبة لبدء الهجوم، فأتاه يوم 12 كانون الثاني/ يناير 1954، وفيه كان مقرراً إقامة احتفال في جامعة القاهرة، في ذكرى سقوط ضحايا من طلاب الجامعة قتلى، وخلال الاحتفال اشتبك الطلاب المنتمون إلى الجهاز السري للإخوان مع الطلاب المنتمين إلى هيئة التحرير (أول التنظيمات السياسية التي أقامتها ثورة يوليو)، وحرقوا سيارة عسكرية داخل حرم الجامعة.

عندها، شعر جمال عبد الناصر بأن الهضيبي بدأ يستعرض قوته الجديدة، متعجلاً الاشتباك مع "الثورة" لإرهابها، حتى لا تفكر في التعرض للجهاز الجديد للإخوان قبل أن يكتمل بناؤه، فاتخذ مع مجلس قيادة الثورة قراراً بحل جماعة الإخوان المسلمين، بعدها بيومين فقط، في 14 كانون الثاني/ يناير.

"لا تظنوا أنني أجنبي عنكم"

بذكاء سياسي يُحسب له، أراد عبد الناصر أن تشعر القيادات القديمة لجماعة الإخوان بأن صراعه مع قيادة الهضيبي فقط، وليس مع كامل التنظيم أو مع الإسلام، فتوجه بعد أيام من إصدار قرار حل الجماعة إلى قبر حسن البنّا، برفقته عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة. ويكتب سليمان الحكيم عن ذلك: "في مشهد تاريخي وقف أمام القبر ليخطب مناشداً قواعد الإخوان، أنه لم يكن أبداً نقيضاً للإسلام، وليس لديه ما يدعو إليه غيره، وأنه جندي مخلص من كتائب الدعوة الإسلامية، والنهوض بأوطانه".

وقف الثلاثي محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات، وهم أشخاص توالوا على رئاسة مصر، على قبر مؤسس جماعة الإخوان ومرشدها الأول حسن البنّا، في ذكرى اغتياله الرابعة

وأورد محمود عبد الحليم في مؤلفه أن عبد الناصر قال في خطبته: "إنني أذكر هذه السنين والآمال التي كنا نعمل من أجل تحقيقها، أذكرها وأرى منكم مَن يستطيع أن يذكر معي هذا التاريخ وهذه الأيام، ويذكر في نفس الوقت الآمال العظام التي كنا نتوخاها، ونعتبرها أحلاماً بعيدة.. وأشهد الله أني أعمل – إني كنت أعمل – لتنفيذ هذه المبادئ وأفنى فيها وأجاهد في سبيلها".

ولزيادة اللعب على وتر المشاعر والذكريات، توجّه عبد الناصر إلى أعضاء الجماعة بالقول: "لا تظنوا أيها الإخوان المسلمين أنني أجنبي عنكم، فإني واحد منكم"، حسبما ذكر وزير الأوقاف حينذاك أحمد حسن الباقوري في كتابه "بقايا ذكريات". والباقوري حضر تلك الزيارة وكان قد فُصل من جماعة الإخوان.

لم يذكر الحكيم موعد الزيارة بالتحديد، لكن على الأغلب أنها كانت في الذكرى الخامسة لاغتيال حسن البنا، في 12 شباط/ فبراير 1954.

وتساءل محمود عبد الحليم مستنكراً تلك الزيارة: "ليت شعري بأي وجه جاء هذا الرجل بعد كل الذي فعله ليزور قبر حسن البنا؟"، معدداً أن عبد الناصر قام بها "بعد أن اقترف نحو الإخوان ما يلي: أصدر قراراً بحل الإخوان المسلمين، وباعتقال المرشد العام وقيادات الإخوان وإيداعهم السجن الحربي، وأصدر بياناً باتهام الإخوان بالخيانة".

كان في استقبال جمال عبد الناصر عند القبر القطب الإخواني البارز عبد القادر عودة، وشقيق حسن البنا عبد الرحمن البنا. ويلفت سليمان الحكيم إلى أنه بعدما قال عبد الناصر كلمته، رد عليه عبد الرحمن البنّا بالقول: "إن مجيئك هنا يؤكد زعامتك لهذه الأمة وانتماءك الصحيح لدينها الحنيف، وإخلاصك غير المنقوص للدعوة إليه"، طالباً من عبد الناصر أن يفرج عن الإخوان المعتقلين الذين كانت قد مضت أيام على اعتقالهم في أحداث جامعة القاهرة.

غلاف عدد 16 شباط/ فبراير 1954 من مجلة "التحرير"، ويظهر في الصورة جمال عبد الناصر وعبد الرحمن البنا وصلاح سالم.

ويشير عبد الحليم إلى أن والد البنا وإخوته وولده، ومعهم عبد القادر عودة وصالح عشماوي وعبد الرحمن السندي وسيد سابق والشيخ محمد الغزالي وحلمي المنياوي كانوا في استقبال عبد الناصر، لكنه يستنكر فعلهم قائلاً: "لكن هل هؤلاء يمثلون الإخوان المسلمين وهم يستقبلون من حل هيئتهم واعتقل مرشدهم ومئات من إخوانهم واتهمهم علناً وعلى صفحات الصحف بالخيانة؟".

على أي حال، نجح عبد الناصر في سحب البساط من تحت أقدام خصمه حسن الهضيبي، خاصة أن كلمته المؤثرة لاقت استحسان الكثيرين من قواعد الإخوان وقياداتهم، وخففت في نفوسهم الأثر السيئ الذي أحدثه قرار حل الجماعة.

ويؤكد مؤرخ الإخوان هذه الحقيقة، بقوله: "مستحيل أن تكون هذه الزيارة قضاءً لحق الوفاء أو حتى مجرد عمل يمت إلى الخلق والإنسانية بسبب. لا بد أنها كانت أسلوباً ماكراً لشق الدعوة وتفريق صفوفها، واحتواء طائفة منها بإثارة نعرة أولي القربى في هذه الطائفة"، مشدداً على أنها "نجحت وحققت المقصود منها، حتى كشفت الأيام للجميع حقيقة النيات، ولم تتكرر هذه الزيارة بعد ذلك على مر السنين".

عبد الناصر يشتم نجيب

عندما أصدر مجلس قيادة الثورة قرار حل جماعة الإخوان، لم يوافق محمد نجيب على الأمر، لكنه كان الصوت الوحيد المعارض فلم يؤثر في شيء، وفقاً لأحمد حمروش الذي يقول: "حرص جمال عبد الناصر ألا يقطع الحبل نهائياً مع الإخوان، فقام بعد قرار الحل بزيارة قبر حسن البنا في الذكرى الخامسة لاستشهاده".

ويشير مسؤول قسم الوحدات في النظام الخاص لجماعة الإخوان، صلاح شادي، في كتابه "الإخوان المسلمون وسنوات الحصاد"، إلى أن الخلاف ظهر بين عبد الناصر ونجيب لدى التنافس بينهما على زيارة قبر حسن البنا في 12 شباط/ فبراير عام 1954، مشدداً على أن "الصراع بينهما كان من أخطر الصراعات وأعمقها في سياسة عبد الناصر حيال الحكم النيابي الصحيح".

"مستحيل أن تكون هذه الزيارة قضاءً لحق الوفاء أو حتى مجرد عمل يمت إلى الخلق والإنسانية بسبب. لا بد أنها كانت أسلوباً ماكراً لشق الدعوة وتفريق صفوفها"

في تلك الأثناء، كانت دار الإخوان المسلمين مغلقة، عقب قرار حل الجماعة، وكان المرشد حسن الهضيبي يقبع في السجن الحربي، رفقة أكثر من 400 من أعضاء جماعة الإخوان، بخلاف المعتقلين في السجون الأخرى.

لكن في الحقيقة، بدأ الصراع بين عبد الناصر ونجيب يظهر إلى العلن منذ أواخر عام 1953، و"كان في حقيقته مجرد صراع على السلطة"، كما يقول مدحت أبو الفضل في كتابه "قصتي مع الإخوان وقصتهم مع العسكر".

ويشير عبد اللطيف البغدادي، أحد الضباط الأحرار، في الجزء الأول من مذكراته التي تحمل اسمه، إلى أنه "كان واضحاً للبعض من أعضاء المجلس أن جمال عبد الناصر يسعى ويهدف إلى محاولة تركيز السلطة بيديه".

على أية حال، يروي صلاح شادي أن المقصود من الزيارة في الحقيقة كان إحداث شرخ في كيان الجماعة، وعندما علم نجيب برغبة عبد الناصر ظن أنه أراد أن يكسب لنفسه شعبية لدى الإخوان المسلمين، ينفرد بها دونه، فعزم كذلك على الذهاب إلى قبر البنا ليشاركه هذه الشعبية.

ويضيف شادي أن عبد الناصر غضب بشدة، لأنه أراد أن يستغل وحده دعاية الذهاب إلى قبر البنا، وشتم محمد نجيب ولعنه أمام حارسه إسماعيل فريد، وطلب منه أن يبلغ نجيب بذلك، ويحذّره من الذهاب إلى مقبرة البنا وإلا فإن العاقبة ستكون وخيمة، وهو ما أورده أيضاً عبد اللطيف البغدادي، والضابط صلاح نصر في مذكراته المعنونة بـ"الثورة المخابرات النكسة".

ويلفت أبو الفضل إلى أن عبد الناصر رفض مشاركة نجيب في زيارته "حتى لا تؤكد ما كان متداولاً وقتها من أن حل الجماعة لم يكن بموافقة محمد نجيب".

انصاع نجيب إلى تهديد عبد الناصر، ولم يذهب إلى الزيارة، وخرج غلاف عدد مجلة التحرير رقم 44، الصادر في 16 شباط/ فبراير عام 1954 وعليه صورة عبد الناصر برفقة عبد الرحمن البنا، أمام قبر مرشد الإخوان، وغاب محمد نجيب.

بعد هذا الموقف، اشتدت وطأة الصراع بين عبد الناصر ونجيب داخل مجلس قيادة الثورة، وحاول كل منهما أن يستقطب الإخوان إلى جانبه، ولكي يربح الأول اتخذ قراراً مفاجئاً للجميع بالإفراج عن جميع الإخوان المعتقلين، ومن ضمنهم حسن الهضيبي، ولم يكتف بذلك وفقاً لسليمان الحكيم، إنما ذهب لزيارة الأخير في بيته، فقابله باستعلاء ولم يوصله إلى باب المنزل عند مغادرته.

وانتهت القصة بأحداث 25 آذار/ مارس 1954، حين خرجت تظاهرات تطالب بسقوط الديمقراطية والحرية، وبزيادة حالة الشقاق في جماعة الإخوان، بسبب عدم الالتفاف حول الهضيبي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image