تندرج هذه المادة ضمن ملف "75 عاماً من النكبة… الحلم وسط المأساة"
تأخذ مسألة الهوية في الحيز الفلسطيني العام مكاناً مهماً وربما أساسياً ناحية التعارف والعلاقات الاجتماعية بين الفلسطينيين، خاصة في مجتمع اللاجئين الذين يعرّفون عن أنفسهم من خلال قراهم ومدنهم المحتلة التي هُجِّروا منها عام 1948.
لم يكن هذا الأمر غريباً في طفولتي، حيث درست في مدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في إحدى مخيمات قطاع غزة، وبالتحديد في مخيم رفح. كنا كلنا من مجتمع اللاجئين مع استثناءات تكاد تكون محدودة من غير اللاجئين، وعلى الرغم من أننا نقيم في غزة ونحمل هويات فلسطينية بأرقام وطنية، إلا أننا، كأولاد في المدرسة، كنا نعرّف عن أنفسنا بقرانا ومدننا الأصلية، كأن أحداً ما كان يعلّمنا أن هذا ليس المكان الذي من المفترض أن نكون فيه. لقد تمّ تهجيرنا وعلينا أن نحيا على هذه المعرفة بالأرض.
لاجئ في المدرسة
لم أنتبه كثيراً للتشابه الكبير بيني وبين الطلاب والأساتذة في مسألة اللجوء، إلا عندما عرفت أن هناك مدارس ابتدائية حكومية يرتادها غير اللاجئين، ومن هنا كانت مدرسة "الأونروا" مساحة النقاش الأولى حول النكبة، حول الهجرة، حول اللجوء باعتباره حدثاً أنتج أجيالاً كثيرة، ومنها جيلي. من قرية القبيبة ــ قضاء الرملة، إلى أسدود وحتى صفورية، كنا نعرّف عن أنفسنا في حصص التاريخ وفي وقت الفراغ بين الحصص المدرسية.
عمل والدي كمعلم وإداري في وزارة التربية والتعليم، بعد المعرفة البسيطة عن النكبة وعني كلاجئ، سألته ذات يوم: لماذا يسموننا "غزازوة" بينما تنحدر أصولنا من قرية القبيبة قضاء الرملة، وزميلي في الصف من قرية يبنا ــ قضاء الرملة، وأستاذي من حتا ــ قضاء غزة وغيرهم الكثير؟
عمل والدي كمعلم، بعد المعرفة البسيطة عن النكبة وعني كلاجئ، سألته ذات يوم: لماذا يسموننا "غزازوة" بينما تنحدر أصولنا من قرية القبيبة قضاء الرملة، وزميلي في الصف من قرية يبنا ــ قضاء الرملة، وأستاذي من حتا ــ قضاء غزة وغيرهم الكثير؟
فتح والدي أمامي أبواباً أخرى للتعرّف على حكايا اللجوء من خلال قصص جدتي كل مساء وجاراتنا اللاتي يجتمعن كل صباح أمام بيوتهن ليحكين لأطفال الحارة عن الصوف والأغاني والحلو والأفراح قبل النكبة. كوّنت معرفتي حتى المرحلة الإعدادية من قصص الجدّات والأجداد، ومن السير القصيرة التي قيلت لي في المدرسة والحارة، وعلى الرغم من أني أقمت في غزة إلا أني ترعرعت في مخيم للاجئين وسط مدينة رفح.
كل شيء في المخيم ظل يقدم درساً وشرحاً عن النكبة. تشقّق البيوت في الشتاء كان يعيد الناس لنقاش النكبة وحياة اللاجئين. الرطوبة في الصيف كانت تذكّر الجدات بطقس فلسطين في قراهن الأصلية. اكتظاظ الناس في البحر الملوث في غزة كان يذكّر الجدات بعذوبة ونقاء الماء في بحر يافا. كل الموجودات من حولنا، في غزة المكتظة، كانت تذكّرنا وتعيدنا إلى ما قبل حدث النكبة، إلى الأراضي الواسعة الخضراء والمسافات الشاسعة والجبل والنهر والسهل والبحر، وكل هذه نقيض المخيم، وهي حنين للتخيل أو حنين للعودة.
كل الموجودات من حولنا، في غزة المكتظة، كانت تذكّرنا وتعيدنا إلى ما قبل حدث النكبة، إلى الأراضي الواسعة الخضراء والمسافات الشاسعة والجبل والنهر والسهل والبحر، وكل هذه نقيض المخيم
مخيمات العودة
في عطلة كل صيف، كنا نذهب إلى مخيمات الشاطئ للترفيه، إلا أن المخيمات آنذاك كانت مختلفة ومليئة بالمعرفة عن القرى والمدن الفلسطينية المهجّرة. كل فريق من فرق الأطفال كان يحمل اسماً من أسماء القرى أو المدن، وبهذا كان الارتباط بالنكبة أكبر من كونه حدثاً تاريخياً صار في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل حدث لا زال حيّاً ويحيا كل يوم وفي كل مناسبة وكل حدث.
وهكذا اعتدنا مناداة بعضنا البعض بأسماء القرى، إعلان فوز الفريق المنتصر في كرة القدم بإعلان إنتصار "قرية يبنا" مثلاً على قرية "عاقر". وإن تسرّب عندنا في الطفولة وعي الحزن لخسارة قرية في فريق كرة القدم، إلا أنها ذهبت عميقاً في داخل الوعي الفلسطيني عن أهمية النكبة لنا كلاجئين. إن ماتت الفكرة فنحن لن نكون بعد الآن، وبالتالي مستقبلنا وحلمنا وأرضنا وقضيتنا لن تكون لها أهمية، وعملنا للتحرّر سيصير عدماً.
لاجئ بهوية سياسية
لا يوجد لاجئ فلسطيني لا يحلم بالعودة، فهي ليست أمنية وتخيلاً، بل حق أصيل من حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة، وهذا الحق أقرّه القانون الدولي والمجتمع الدولي، يناضل الفلسطينيون كل يوم من أجله، حتى صار شعاراً رئيسياً في العمل السياسي والاجتماعي والثقافي الفلسطيني، وفي التخيل الفلسطيني العام.
وعلى اختلاف السياقات التي يعيش فيها الفلسطينيون في مختلف مناطق التواجد، إلا أن ثمة سمة عامة متخيلة عن هذا الحق، حق العودة إلى الأرض، إلى فلسطين، إلى قرية القبيبة قضاء الرملة، إلى حيفا ويافا.
في بداية الثانوية العامة، وقبل المرحلة الجامعية، شعرت أن التخيّل بحد ذاته غير كاف، وأني بحاجة إلى وضع هذا التخيل عن فلسطين في قالب سياسي يوظّف ويخلق أدوات ووسائل لتجريبه وتحقيقه. بدأت تجريب خيالاتي مع الوقائع السياسية، وهكذا فعل وما زال معظم اللاجئين الفلسطينيين في مختلف مناطق التواجد.
هدف السياسة هو العودة، وبالتالي تظل السياسة حاضرة من خلال الحزب ومن خلال العمل الجماعي المشترك ومخاطبة العالم وخلق نقاش فلسطيني وعربي ودولي حي عن القضية الفلسطينية وعن النكبة، وخلق التواصل بين الفلسطينيين أنفسهم حول النكبة وحول القضية هو بحد ذاته فعل سياسي يخدم هذا التخيّل. ولأن السياسة في مجتمعنا تقريباً كشربة الماء، إلا أنها حين ترتبط بالنكبة تذوب فيها كل الاختلافات السياسية والفكرية والأيديولوجية، وهذا بالضبط ما يجعل قضية النكبة حاضرة في قلب كل لاجئ وكل فلسطيني، بطريقة يصعب على المرء وصفها.
في بداية الثانوية العامة، وقبل المرحلة الجامعية، شعرت أن تخيّل العودة بحد ذاته غير كاف، وأني بحاجة إلى وضع هذا التخيل عن فلسطين في قالب سياسي يوظّف ويخلق أدوات ووسائل لتجريبه وتحقيقه
هويات كثيرة لنكبة واحدة
في غزة يعيش ما يقارب مليونين من الفلسطينيين، أكثر من 70% منهم من اللاجئين الذين هُجّرت عائلاتهم إلى غزة، بعد اتفاق أوسلو صار لمعظم اللاجئين هويات فلسطينية وجواز سفر منحته السلطة الفلسطينية، مع إبقاء حقهم في العودة إلى أراضيهم في الداخل المحتل، وعلى الرغم من ذلك، صار للفلسطينيين، في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، هوية جديدة تسمى "هوية سلطة"، وهو الجواز الذي يؤهّلك للسفر رغم العناء والشقاء وصعوبة الحصول على تأشيرة، إلا أن الفلسطينيين في هذه المناطق لا زال بإمكانهم السفر. لم يأخذ كل الفلسطينيين هذا الحق في دخول أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، ومنهم ملايين ظلوا في مخيمات الخارج والدول المجاورة لفلسطين، كلبنان وسوريا ومصر والأردن.
أن تعرّف الفلسطينيين من خلال قراهم الأصلية ومدنهم التي هجروا منها وعاداتهم ولهجتهم وذكرياتهم مع النكبة وذكرياتهم مع أجدادهم ومع جيل النكبة، يعيدك فوراً إلى هويتك الأصلية، أنت من هناك، وهم أيضاً من هناك
لم أستوعب أن تكون هويتي "غزة" أو "هوية سلطة" بينما أنا لاجئ من قرية القبيبة، وهذا بالضبط ما اكتشفته حين عشت في بيروت، وقابلت الكثير من اللاجئين الفلسطينيين أمثالي، ولكن الفرق أنهم، وبسبب اتفاق سياسي، لم يحصلوا على "هوية سلطة". هذه المرة لم يكن التعارف ببساطة تعارف اللاجئين في مدرسة الأونروا في غزة، بل كان أكثر تعقيداً، لتداخل الهويات الفرعية مع الهوية الفلسطينية الأصلية، لاختلاف الانطباعات السياسية ولاختلاف اللهجات واختلاف النقمة على كل ما هو حاصل، ولتعب النكبة في الحياة اليومية، وهذا الفارق في مقارنة الألم والتعب والقسوة هي عادة فلسطينية ثقيلة لا يمكن التخلص منها بسهولة.
في مخيم البداوي في شمال لبنان، دخلت سوق المخيم لابتاع بعض الحلوى التي كنت قد اشتقت لها بعد سنوات من الغربة، وجدتها قريبة جداً وتكاد تبدو شبيهة بتلك التي تُعدّ في مخابز غزة، وهذا ما دفعني إلى التبحّر أكثر مع صاحب المخبز، وللغرابة، شعرت أني أقرب مما يجب لفلسطين في هذه اللحظة، حتى اختلاف اللهجة ذاب فوراً بعد الحوار الأول عن الخبز.
أن تعرّف الفلسطينيين من خلال قراهم الأصلية ومدنهم التي هجروا منها وعاداتهم ولهجتهم وذكرياتهم مع النكبة وذكرياتهم مع أجدادهم ومع جيل النكبة، يعيدك فوراً إلى هويتك الأصلية، أنت من هناك، وهم أيضاً من هناك، من المكان الذي لا يمكننا الأن أن نكون فيه، مع أنه من حقنا أن نكون هناك، ولكن الاحتلال ما زال عائقاً قائماً في إذابة هذه الهويات بيننا كفلسطينيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com