شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
في فلسطين... الكبار يموتون، لكن الصغار لا ينسون

في فلسطين... الكبار يموتون، لكن الصغار لا ينسون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 29 نوفمبر 202203:34 م

تمثل العلاقة بين الإنسان والأرض مشهدية أزلية، ولربما تختصر سراً من أسرار الاستمرار والبقاء، فالإنسان مجبول من خير أرض ما، ومع الوقت تكبر الذاكرة بفعل المواقف بين الإنسان والأرض التي أحبها، ومصير الفلسطيني منذ عام 1948، وبعد الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، أن يبقى في صراع مع الهوية والذات والوجود، وكل ذلك لأن بسبب هذه الأرض المسلوبة بالإجبار والقوّة من قبل احتلال وافد من بلاد أخرى ليسكنوا أرضاً ليست لهم.

أرض دون إنسان

لطالما كان الإسرائيليون يطمحون لـ"أرض دون شعب"، لأنهم يعلمون الرابط الوجداني بين الإنسان وأرضه، ومدى استعداده للتضحية بروحه من أجلها، وبقيت مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون "الكبار يموتون والصغار ينسون" عالقة في ذهن الفلسطيني، وقد أثبت بالفعل فشل هذه الرؤية، فبقي الفلسطيني متمسكاً بحلم استعادة أرضه على الدوام.

وقد استمرت إسرائيل كنظام احتلالي جاهدة لإبعاد الفلسطيني عن أرضه بشتى الطرق، واضعة أشكالاً مختلفة من المعيقات لتحقيق ذلك، فتستمر في السطو على الأراضي الفلسطينية بطرق غير قانونية، معتمدة على القوة المفرطة ضد المدنيين، ومتّبعة سياسة التجريف وقطع الأشجار، وتخريب المشاريع الزراعية، وإخلاء الأراضي من مالكيها، ونقل الملكية للمستوطنين فيما بعد، فمنذ عام 1967، قامت إسرائيل، بمصادرة 3,812,078 دونماً، أي ما يعادل 61.5% من مجموع مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد رافق عمليات المصادرة هذه، أعمال تصحير للأرض، وتسوية جائرة، بهدف إقامة المستوطنات عليها.

بقيت مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون "الكبار يموتون والصغار ينسون" عالقة في ذهن الفلسطيني، وقد أثبت بالفعل فشل هذه الرؤية، فبقي الفلسطيني متمسكاً بحلم استعادة أرضه على الدوام

ولم يتوقف أسلوب الاحتلال في شق الطرق الالتفافية حيث أقدم على تجريف مساحة 874,901 دونماً لإقامة المباني السكنية للمستوطنات، كما قامت الحكومة الإسرائيلية بتجريف مساحة 54,200 دونم لشق هذه الطرق، ويستمرّ هذا السلوك الإسرائيلي الاحتلالي في حيازة أرض فاقدة للهوية والتراث.

تتجه الممارسات الإسرائيلية في هذا الإطار أيضاً، بتعمد محو الأشجار المثمرة وغير المثمرة والغابات والأحراش، إذ أقدمت اجتثاث أكثر من نصف مليون شجرة من جذورها، كما وقامت بإزالة مساحات واسعة من الغابات الفلسطينية، على مدار خطتها بتنفيذ هذا السيناريو الذي يرمي إلى سلب أرض فلسطين، ولم تتوقف مأساة الشعب الفلسطيني أمام الأساليب المروعة التي يستخدمها المحتل، عبر التهديد والملاحقة والسطو على الأراضي والممتلكات، من خلال حجج أمنية غير قانونية يجرّمها القانون الدولي.

يقول المزارع أبو جابر، 52 عاماً، لرصيف 22:"في عام 2008، وفي ليلة معتمة، صحوت وعائلتي على أصوات حركة خارج المنزل القريب من أرضي شمال مدينة سلفيت، التي ورثتها عن أبي وأجدادي، وحينما خرجت لأعرف ما الذي يحدث، وجدت مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين برفقة قوات كبيرة من قوات الاحتلال، يخترقون السياج الحديدي المشبك حول أرضي، ويقومون بإتلاف المزروعات التي كنت أتعب عليها أنا وعائلتي منذ سنوات طويلة، والتي تشكّل مصدر رزقي الوحيد، وقاموا بتخريب مقتنياتي من الآلات التي كانت تساعدني على الري، وخلال دقائق كان المكان خربًا مدمرًا بفعل عشرات المستوطنين".

ويكمل أبو جابر:"حينما حاولت الدفاع عن أرضي، هاجمني مجموعة من الجنود المتوحشين، وأمسكوا بي تحت تهديد السلاح، وقالوا بالحرف الواحد، هذه آخر أيام لك في (أرضنا) يا أبو جابر، فصرت أصرخ بكل ما فيّ من حزن في تلك اللحظة، وطلبت منهم الابتعاد عن أرضي".

حينما حاولت الدفاع عن أرضي، هاجمني مجموعة من الجنود المتوحشين، وأمسكوا بي تحت تهديد السلاح، وقالوا بالحرف الواحد، هذه آخر أيام لك في "أرضنا" يا أبو جابر

ويضيف الرجل الخمسيني:"وبعدما ذهبوا دخلت الأرض لأتفقد مقتنياتها، فوجدت أن معظم الأشجار قد تم رشها بمادة كبريتات الماغنيسيوم القاتلة للأشجار الكبيرة، وقد تم دهن ساق الشجرة بالشمع الذائب بعد رشه بتلك المادة لضمان احتراق حياة الشجرة من الداخل".

ذاكرة مسنودة بالأرض

الخروج من الأرض بالإجبار يتسبب للإنسان بالألم والتيه والتغريب، وتصبح الحياة من بعد ذلك شكلاً من أشكال المطاردة للذات، والحنين إلى الأصل، لكن الأمر يكون أكثر صعوبة، حينما يرى المرء أشجاره التي تحمل الذكرى وتسند الذاكرة، تموت بفعل فاعل، وتتقشر وتتلف أمام عينيه، أو يتم قصها بمنشار الخشب الكهربائي، فإن هذا يجعل من الحياة عبثاً لا يمكن احتماله، ويزيد من البقع السوداء داخل الذات، فحياة الفلسطيني في الضفة الغربية مهددة بالخطر، لمجرد أن مزاج المستوطن الإسرائيلي دعاه في لحظة ما للشغب، والتنغيص على أفراد الشعب الأعزل، أو فكّر في كسر ملل يومه، بالخروج إلى أرض الفلسطينيين والاستيلاء عليها.

يقول أبو جابر:"في اليوم التالي للهجوم، حاولت أن أغسل الأشجار وأزيل الشمع الملتصق على سيقانها، بمساعدة إخواني وأبناء عمومتي، محاولاً سقايتها من جديد، لكن كان الأمر شديد الصعوبة، ولم يكن وقتها الجرح في الكف والأصابع، بل في عمق القلب، الذي تعرض للإيذاء والانتكاس بفعل هجمة المستوطنين بمساعدة القوة الهمجية لجيش الاحتلال".

يضيف أبو جابر: "أيام قليلة وبدأ المستوطنون يتوافدون كجماعات وبشكل متكرر برفقة قوات الجيش، ويجلسون في الأرض ويقومون باستفزازي ضاحكين. أخبروني بأن هذه ليست أرضي، وبأنها لهم، وكانوا في كل مرة يقتلعون السياج، أقوم بتركيبه مرة أخرى، وتوقعت بأن هذا سلوك صبياني من المستوطنين المنفلتين، يريدون مضايقتي لا غير".

ويضيف:"كنت مع الوقت أرقب كيف تذبل أشجار وتفقد صحتها، وبدأت أنا أيضاً أفقد صحتي معها، وكأنني تناولت نفس المادة السامة التي وضعها المستوطنون للأشجار، فقد نزل وزني 17 كيلوغرام، وصرت شاحب الوجه، لا أستطيع النوم بشكل متواصل، كيف لا، وأشجاري من الزيتون والرمان واللوز والليمون والتين، التي ورثتها من أجدادي، قد ذهبت هكذا بفعل جماعة المستوطنين المنفلتة، ولا أستطيع فعل أي شيء".

ويستطرد السيد أبو جابر:"لقد تقدمت بشكوى ضد هؤلاء المستوطنين وقوات الجيش، للارتباط العسكري الفلسطيني الإسرائيلي، وكذلك وكلت محاميّاً إسرائيليّاً للدفاع عن حقّي في استعادة حقوقي وتعويضي مادياً ومعنوياً، جراء ما حصل لي، لكن كانت الخدعة الأكبر بأن المحامي الإسرائيلي كان يماطل في ترتيب الملف، وبدا متواطئاً مع دولته".

ويكمل: "بقيت على سذاجتي لوقت طويل، بأن هذا فعل مؤقت، وسيبتعد عني أولئك الأوباش، إلى أن جاء يوم، تقدمت فيه قوات من الجيش الإسرائيلي، برفقة نفس الوجوه البشعة، ذات اللحى الطويلة والجديلات المتدلية، وقاموا بقص الأشجار الذابلة، بمنشار خشب كهربائي وآلات لم أرها من قبل، وكان معهم إخطاراً بأن هذه الأرض منطقة أمنية يجب إخلاؤها فوراً، وكان علي أيضاً أن أترك منزلي المجاور للأرض".

سقاية أخيرة

مثل هذه اللحظات، تصبح غير قابلة للنسيان، وفي كل مرة تنبض بالمشاعر نفسها، هكذا كان حال أبو جابر مع أرضه التي غادرها عنوة، وتحت الإرهاب والقمع من قبل النظام الإسرائيلي ومستوطنيه، حيث كانت السقاية الأخيرة للأرض التي اعتاد العناية بها وسقايتها، اختلط، بدموعه، ومهما تم تقليب التربة أو تجفيفها، أو البناء فوقها، فإن دموع أبو جابر المختلطة في الطين، هي الصك الذي يعده بالعودة من جديد.

يقول أبو جابر:"لقد سجدت على الأرض، وصرت أستنشق رائحتها، وأقبل طينها، وبللتها بدمعي، آخ لو سمعت صراخي وقتها، وبكائي، كنت كما الأطفال، وكأن أبي عاد ووضع حضنه بين حبيبات الطين ليحتوي وجعي، ولا زلت أذكر تلك الرائحة، صرخت في تلك اللحظة "أخذوا أرضك يا أبي، أخذوا الرائحة والصوت والذكريات التي كانت تجمعنا هنا".

ألغام مزروعة

في قرية عين الساكوت في منطقة الأغوار الشمالية، يمنع الاحتلال الإسرائيلي مئات المزارعين من الوصول لأراضيهم، وهو قرار يتم تطبيقه منذ عام 1967، من خلال السيطرة على أراضي الضفة الغربية، ويعلق الاحتلال على مداخل هذه الأراضي لافتات باللغة العبرية والعربية، يقول فيها:"هذه منطقة أمنية مغلقة، وتحتوي على ألغام". ومنذ وقت قريب، بدأ أصحاب الأراضي ملاحظة دخول المستوطنين لهذه الأراضي، لمباشرة الفلاحة داخلها.

يقول الحاج سعدي أبو طوق 78 عاماً، لرصيف 22:"أنا محروم من دخول أرضي في عين الساكوت منذ كان عمري 23 عاماً، صرت أكبر وأنا أشتاق لها وملامستها والنوم في براحها، وفي كل مرة ألمح تأخر حالة جسدي الصحية".

وعن ذكرياته مع أرض أبيه يضيف الحاج سعدي:" هناك شجرة تين زرعتها بيدي، حينما كنت في السابعة من عمري، أذهب كل حين، لأرى هذه الشجرة من بعيد، ولطالما تذوقت ثمارها الحلوة، والتي كنت دوماً أفتخر أمام أبي وأمي واخواني بأن هذه شجرتي، وبالفعل كان أبي يطلق عليها شجرة سعدي، وآخر كلمات أبي لي قبل وفاته:"ضلك روح اتطمن على شجرتك، رح يجي يوم وترجع تاكل منها، ولو قدرت روح كُل منها هسا".

يكمل الحاج سعدي: "ذات مرة حاولت التسلل عبر الأسلاك الشائكة إلى أرضي، ومشيت بخطوات حذرة، خوفاً من أن يكون الاحتلال قد وضع فعلاً الألغام في داخلها، كنت في غاية الرعب، وقلبي يتضارب مثل موج البحر، لكنني كنت أحاول تنفيذ وصية أبي، بجلب ثمار التين، وبالفعل، مشيت داخل أرضي، ومشاعري مختلطة ما بين الفرح والقلق، وعيوني لا ترى سوى شجرتي، وحينما اقتربت منها بالفعل، سمعت نداء الجندي الإسرائيلي عبر مكبر الصوت، الذي يطالبني بالتراجع، وإلا سيطلق النار تجاهي، تراجعت وعدت إلى منزلي منكسراً، ويا لها من حسرة، لقد كنت على بعد أمتار من تنفيذ حلمي، ووصية أبي، بالأكل من ثمار شجرتي، لكن هذا لم يتحقق إلى الآن، وأخاف أن أموت دون نيل ذلك".

حينما تكون الخطى الأولى للإنسان على تراب، لا تتعفر به قدماه، وإنما تتم صباغة روحه وجيناته وخلاياه، بهذا التعفّر، وأي خطوة دون ذلك، فيما بعد، هي عدم، لا قيمة لها، وتتجسد ذاكرة الإنسان في تلك الطرق التي اعتادها مع المكان الذي أحب، إذ يتحول في لحظة ما لمختبر مشاعره التي تفقد كينونتها في مكان آخر.

يباغتنا الحاج بالقول:"غريب كيف يصير الإنسان بلا قيمة حينما يفقد أرضه، وغريب كيف تتوقف الحياة عند تلك اللحظة التي نفقد إحساسنا بالتراب الذي لامسناه حفاة في سن الطفولة، وكأن ما كان في هذه الأرض من مكونات، ينتقل إلى ذاتنا بحيث تشعر الذات بالتغريب لمجرد الابتعاد عن هذا التراب، وها أنا عشت حياتي غريباً، مُغرباً عن أرضي وأرض أبي، وشجرتي، التي كانت الحلم الأول والأخير في حياتي".

ويختتم الحاج سعدي:" لقد علمت أولادي بأن أرضي وشجرتي هي هويتكم التي يجب عليكم التمسك بها مهما كلف الأمر، وحذرتهم من النسيان، فذاكرتي ورائحة الأرض، والتين والزيتون يجب أن تستمر معهم، وهذه الأرض لا بد أن تحتضننا من جديد في يوم ما".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard