إن كان الفلسطيني الجيد من منظور اليمين الإسرائيلي المتطرف هو الفلسطيني الميت، فعلى الجهة المقابلة يرتَعُ يمينٌ دينيٌ آخر بكل أشكال الجمود الفكري ورفض التجديد، مطالباً الفلسطيني بالانحصار في الصورة النمطية للشكل المقبول دينياً واجتماعياً لما يجب أن يكون عليه الفلسطينيون: نساء محجبات يقتصر دورهن على المهام البيتية والوظائف البسيطة، ورجال أشداء متدينون ينكرون كل أشكال الحياة الطبيعية ويلتفون حول قيم ومبادئ أصولية رجعية لا يمكنهم النظر إلى حيواتهم إلا من خلالها، مع إيمانٍ تام بأن القضية الفلسطينية تتطلب كل ذلك التطرف والتشدد كشرط لتحقيق الانتصار أو التحرير، واعتبار أن أي مظهر آخر للحياة يهدم مشروع التحرير الفلسطيني.
إذن، نحن أمام يمينين متطرفين يرسخان صورة الفلسطيني الميت مع اختلاف شكل الموت الذي يتبناه الطرفان، وذلك ليستمر الصراع على أشده، كاحتلال ومقاومة للاحتلال، دون احتمالات أخرى، مع رفض أي محاولة فلسطينية لكسر شكل ذلك الصراع الذي يحتكره يمين السادة في إسرائيل ويمين العبيد على الجهة الأخرى.
لم تكن هذه الحادثة هي الأولى بالمطلق، فملاحقة الفنانين وقمع نشاطاتهم الفني، وتقييد حريتهم الإبداعية أمر شائع في القطاع، فالكثير من المسرحيات تم منعها تحت ذرائع غير منطقية بالمطلق
وربما كانت فرقة حي للرقص المعاصر للتعبير عن صراعات ومخاوف وتطلعات الإنسان الفلسطيني في قطاع غزة بالرقص محاولةً طموحة لكسر ذلك الجمود والتأصيل للحالة الفلسطينية المنحصرة منذ سنين طوال في مشاهد الموت والخراب والحروب، والقصف والدماء والوحشية، وذلك من خلال التعبير عن كل ما يجول في عقل الفلسطيني من صراعات وتناقضات بالرقص المعاصر، وإن كان هذا هو هدف الفرقة، فإنها أيضاً تحقق تدخلاً صارخاً للفن والثقافة والجمال في جسد القضية الفلسطينية المثقل بالموت والخوف والجمود الفكري، هذا الذي لم يرق للكثيرين.
"حي للرقص المعاصر" وتصادمها مع تحجيم الفن وعزله داخل إطار ثقافة المجتمع
إن أبرز العبارات التي توجهها دوائر الرقابة في قطاع غزة للفنانين والفنانات في مختلف المجالات هي: "هذا العمل يتنافى مع ثقافة المجتمع" أو "هناك جرأة وخروج عن العادات والتقاليد في أعمالكم"، وغيرها من العبارات المشابهة، هذا ما دفع الكثير من الفنانين والأدباء والموسيقيين إلى التساؤل عن ثقافة المجتمع تلك! وأيُ فنٍ يتناسب معها، إذ هي ترفض كل أشكال الفن الحقيقي الذي يحقق عناصر الجمالية، والإبداع، والأصالة، وإثارة السؤال والدهشة. أما الإجابة عن هذه التساؤلات التي يطرحها أولئك الفنانون فغالباً ما كانت تدفعهم إلى السفر أو الهجرة خارج قطاع غزة ليتمكنوا من ممارسة إبداعهم الفني، وإفراغ ما بحوزتهم من أفكار وأعمال جمالية، أو كانوا يختارون التراجع عن حالتهم كفنانين مع دفن أحلامهم وتطلعاتهم وأفكارهم في الوحل، والاستمرار في عادية قطاع غزة.
إن الحديث عن الفن المقبول في قطاع غزة، هو حديث عن الفن الملتزم، ربما يكون هذا التركيب غريباً بعض الشيء، لأن الغرض النهائي من الفن هو التجديد وخلق السؤال القادر على تجسيد ذلك التجديد، أما أن يكون فناً ملتزماً ومحصوراً في ثقافة المجتمع فما القيمة المرجوة منه. ويقتصر ذلك الفن الملتزم في قطاع غزة على بعض عروض الدبكة (دبكة الرجال فقط)، والغناء الوطني فقط، والكتابة الأدبية الملتزمة أيضاً بالشرائع الإسلامية والأعراف الاجتماعية، والفن التشكيلي الذي ينحصر في بعض لوحات الطبيعة، والمشاهد الوطنية المعروفة، بعيداً عن الجسد أو السريالية باعتبارها كفراً وشعوذة، وبالقياس على ذلك يمكن تصور الحالة الثقافية والفنية والأدبية في قطاع غزة.
وبالعودة إلى فرقة حي للرقص المعاصر، التي تمثل نموذجاً واضحاً على التصادم بين الإبداع الفني وحالة تحجيم الفن وترسيخ الجمود الفكري في القطاع، حيث إنها واجهت انتقادات واحتجاجات واسعة من قبل المجتمع الغزي، والعربي أيضاً بعد التقرير الذي أعدته إحدى الوكالات الأوروبية حول الفرقة، فبين من اتهم الفرقة بأنها تحاول هدم القيم الإسلامية، ومن أجزم بأن هذه الفرقة تمولها جهات خارجية مجهولة من أجل نشر الرذائل والشذوذ في المجتمعات المتدينة الطاهرة، إلى جانب الانتهاكات والتعديات على القائمين على الفرقة فهذه الحادثة لم تكن هي الأولى بالمطلق، فملاحقة الفنانين وقمع نشاطاتهم الفني، وتقييد حريتهم الإبداعية أمر شائع في القطاع، فالكثير من المسرحيات تم منعها تحت ذرائع غير منطقية بالمطلق، كأن تقتحم الشرطة المكان وتلغي المسرحية فقط لأن هناك مؤدية غير محجبة، أو لوجود فكرة مخالفة حسب تقدير رجال الأمن! بالإضافة إلى مراقبة المراسم والمعارض الفنية ومنع اللوحات الفنية المخالفة لثقافة المجتمع، والكثير من الحوادث الأخرى.
وفي ظل كل هذا القمع للحالة الثقافية في قطاع غزة لا بد من التساؤل حول الدوافع والأسباب، بمعنى، هل قمع الفن والثقافة والجمال في غزة أصبح عقداً اجتماعياً؟ أم هناك أسباب واقعية؟
الرقص للنساء فقط، الرجال لا يرقصون!
على الرغم من أن الرقص أمر شائع جداً بين الرجال في قطاع غزة خاصةً في حفلات الأعراس، والمناسبات الاجتماعية الأخرى، فإن ربط رقص الرجال بحالة ثقافية فنية كالرقص المعاصر لم يتم قبوله بين الأوساط المختلفة في قطاع غزة، ربما يعود السبب في ذلك إلى الاعتياد فقط، حيث أن الرقص في الأعراس أمر متداول وشائع من فترات قديمة في المجتمع الغزي، على غرار الرقص المعاصر وأدائه وحركاته التي اعتبرها البعض خروجاً عن طبيعة الرجال التي يفترض أن تكون قاسية وصارمة.
أما السبب الآخر لعدم تقبل الرقص المعاصر للرجال لدى المجتمع الغزي، فهو عدم فهم ذلك الربط بين الحالة الفكرية والأداء الراقص، لأن الرقص الشعبي لدى الرجال هو أمر مرتبط بالأعراف الاجتماعية المقبولة، أما الرقص المعاصر فتم تصنيفه على أنه حالة دخيلة، ورسخ الشكوك حوله بعض آراء رجال الدين الذين لا يتوقفون عن طرح نظرية المؤامرة، وأن هناك جهات خارجية تريد النيل منا.
أما الحديث عن ربط الرقص بالأدائي بالنساء فقط، فهو يفسر الفهم الشهواني للرقص، وعليه، فالرجل سيرفض أن يمارس هذا النوع من الرقص، بل سيهاجم أي رجل آخر يؤدي رقصاً أدائياً معاصراً إذ لن يفهم هذا النوع من الرقص إلا على محمل الإثارة الجنسية، إذن، فالأمر متعلق بموروث ثقافي-اجتماعي قديم لا بد أن تتم مواجهته بالانفتاح على العالم، والتدرب على تقبل الثقافات خارج حدود قطاع غزة، ذلك لكسر الجمود الفكري والتمسك بالعادات والأعراف على أنها طريق النجاة الوحيد.
إن ممارسة الحركات الراقصة سواء من قبل النساء أو الرجال هي أسمى تعبير عن إنسانيتنا، أو ما يجعلنا بشراً متسامين عن خصالنا البدائية، أما قدرتنا على الرقص فهي ما يعني أننا ما زلنا أحياء.
كيف يمكن للرقص أن يحل مشاكلنا كفلسطينيين في قطاغ غزة؟
لقد كان هذا التساؤل هو الأساس المنطقي الذي بنى عليه جميع الأشخاص الذين هاجموا "فرقة حي للرقص المعاصر" تعليقاتهم وتساؤلاتهم، فبينما تؤمن غالبية مجتمع غزة بالقوة والصلابة كطريق للخلاص من تحديات الحياة، وطريق رئيسي لحل القضية الفلسطينية، تطل عليهم "فرقة حي" بالرقص للتعبير عن الإنسان في غزة، هذا ما لم يستطع الأخير فهمه، وعليه هاجمه ورفضه.
الجدير بالذكر أن اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة يعيشون منذ العام 2006 ويلات الحروب، وتداعيات الحصار المفروض على القطاع، وضيق العيش وانعدام فرص العمل، مع الإدعاء الدائم للنظام الحاكم أنه عاجز عن إيجاد أي حلول، وذلك للإبقاء على حالة الاستفادة من الأوضاع القائمة في قطاع غزة. هذه الحياة القاسية التي عاشها الفلسطيني صنعت حاجزاً بينه وبين الحياة، ورسخ ذلك الحاجز وجود الإسلاميين الذين روجوا لمعادلة أن مظاهر الحياة الطبيعية محرمة طالما نحن تحت الاحتلال، وقد شكلت تلك المعادلة خدمة مجانية للاحتلال.
إن من السهل احتلال شعب ميت، وما أصعبه احتلال شعبٍ حي، هذه هي القاعدة المناهضة للنظرة المتطرفة للأمور، فكيف يمكن أن تقتل شعباً بينما هو يغني ويرقص مستبشراً بالحياة، تاركاً الجمال والفن ليصقل روحه ويؤنسنها بمعزل عن كل الأفكار الرجعية المتطرفة، وكيف يمكن لشعب أن ينال حريته بينما هو يرفض الحياة برمتها. إذن فالرقص لن يحل مشاكلنا، بل سيوقظ فينا الإنسان القادر على فهم مشاكله، وتقبل الحياة والآخرين بعيداً عن الأحكام والأوصاف النهائية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...