شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لو كانت فلسطين قطعة قماش…

لو كانت فلسطين قطعة قماش…

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 29 نوفمبر 202210:43 ص

ذات يوم، رأيت سيارة لشخص معاق يسير في طريق الحافلات في حاجز قلنديا، فخطر ببالي أن أسأل الجنديّ هل بوسعي استعمال مسرب الحافلات لاختصار الوقت والمذلة على الحاجز؛ الجندي قال نعم، لكنني حين استعملت مسلك الحافلات في المرة التالية، قال لي جندي آخر إن ذلك ممنوع، وعليّ العودة بالسيارة ريڤيرس في مسرب الفئران. كنت فأراً صغيراً يبحث عن خلاصه الذاتي وحريّته المنشودة، أدركت ذلك من التعليقات على حائطي على فيسبوك. كانت الحافلات آنذاك قد دخلت المسرب ورائي، وتعثّر خروجي، وأخيراً خرجت وعلى رأسي ريشة، وشعرت بمذلة وحرج وندم.

في أواخر التسعينيات، نمت عند صديقي في قرية البرج جنوب الخليل، وفي اليوم التالي، كان أصدقائي مشتاقين لرؤية يافا وبحر يافا. عند حاجز الظاهرية أوقفنا الجنود واتضح لهم أنّ أصدقائي يحملون "هويّات ضفّة"؛ فأعادونا أدراج الخيبة. لكنْ ثمة طريق جانبية لففت بسيارتي من خلالها، فوجدت نفسي أسوق في الرمال والصحراء، حتى غرزت السيارة ووقعت عجلة منها في حفرة، وانتظرنا معجزة لتحريك السيارة، فجاءت على يد شبان من البدو، ساعدونا ودلّونا على طرق عبر التلال بين شجيرات صغيرة وصخور، حتى وصلنا إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى اللقية وراهط ويافا، قادتنا رائحة يافا وريح محبتنا، وصلنا مثل اللصوص، ذهبنا الى العجمي.

شاطئ العجمي يعجُّ بسيارات الجيش والشرطة؛ أوقفت سيارتي في موقف السيارات الترابية، وأعيننا إلى البحر، لم يجرؤ أحد منا على النزول من السيارة، وتركنا نسيم البحر ينظف عيوننا ورئاتنا ويجلونا مثلما تُجلى الآنية الصدئة، حتى اكتشفنا أن في التلة المجاورة التي يربض عليها مطعم السمك المطلّ على البحر، يجلس على إحدى الطاولات جبريل الرجوب، رئيس جهاز الأمن الوقائي، وأن الدوريات التي حولنا هي لحراسة المكان. أتراها كانت جلسة تنسيق أم عمل، أم تراه وصل الى المطعم مثلما وصلنا؟ ربما كان هؤلاء الجنود والشرطة هناك لحمايتنا، لا لحماية أحد آخر! هكذا جنَّبنا الجميع الحرج واتخذننا قرارا حكيماً بالهرب، اعتذرنا للبحر وللعجمي، وغادرنا دون أن نبلل أقدامنا بالبحر.

 أوقفت سيارتي في موقف السيارات الترابية، وأعيننا إلى البحر، لم يجرؤ أحد منا على النزول من السيارة، وتركنا نسيم البحر ينظف عيوننا ورئاتنا ويجلونا مثلما تُجلى الآنية الصدئة، حتى اكتشفنا أن في التلة المجاورة التي يربض عليها مطعم السمك المطلّ على البحر، يجلس على إحدى الطاولات جبريل الرجوب، رئيس جهاز الأمن الوقائي

تعلمنا تجنب الحواجز واختصار طرق اللفات والطرق الالتفافية، تمرَّدنا، تعلَّمنا أصول الانتهازية والفردانية، وبدلاً من التعاضد الجمعي، صار الحل الفردي والآني والارتجالي والانتهازي هو حلنا للتغلب على انعدام حرية الحركة، صرنا نفتش عن خلاصنا الآني دون تفكير؛ طريقي من البيرة إلى القدس التي كنت أقطعها خلال ثلث ساعة للوصول إلى عملي، صرت أقضي ثلاث ساعات فيها.

بعد خمسة أشهر من مرمطة الحواجز، استقلت من عملي وعملت في القدس، بلا حاجز أو مذلة! أذكر التوتر الذي كان يغمر الجميع ونحن ننتظر في حاجز قلنديا، بينما يتسلّى الجنود بنا نحن السواقين الفلسطينيين. أذكر ذات مرة أنّ سيارة تجاوزت الدور، وحاولت أن تنسل أمامي، وأنا كنت قد أمضيت ساعتين حتى وصلت إمقدمة الطابور الأفعواني، وكان بوسع السائق الذي يزاحمني من الجانب، أن يدخل إلى المدخل قبل وصولنا إلى الحاجز الحديدي المرتجل، لكننا ضغطنا البنزين في الوقت ذاته، والتصقت سيارتانا، وبفضل قوة ماتور سيارتي، علَّقت سيارته فوق الحاجز الحديدي الذي من المفترض أنّه مصنوع ليرصف حاشية الطريق، لا أن يعترض في منتصف الشارع. علقت سيارته السوبارو فوق الحاجز، وعجلاتها في الهواء كسمكة خرجت من الماء.

هنا في القدس، كما في الضفة الغربية أو غزة أو أي قرية عربية في الداخل المحتل، نعيش في غيتوهات، وبوسع الاحتلال أن يغلق شارعاً أو شارعين لعزلنا تماماً كخراف في حظيرة. من المتعارف عليه أن سكان القدس الفلسطينيين بوسعهم دخول الضفة ومناطق الـ 48، لكن لأي سبب أمني أو سبب آخر يراه أصغر جندي، يمكنك ألا تغادر المنطقة التي تسكن فيها، وألا تدخل أي منطقة معينة؛ لا يحق لنا التجمهر، وابن البلد يمنع كذلك أحياناً من شرب القهوة أو الشاي على درجات باب العامود.

هنا في القدس، كما في الضفة الغربية أو غزة أو أي قرية عربية في الداخل المحتل، نعيش في غيتوهات، وبوسع الاحتلال أن يغلق شارعاً أو شارعين لعزلنا تماماً كخراف في حظيرة

جداي الاثنان كانا رعايا الإمبراطورية العثمانية، وسيقا إلى السفربرلك عبر بلاد كثيرة، لخدمة جيشها خارج حدود فلسطين، عادا بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، عادا من مصر؛ عبد الجبار يحتضر وإسماعيل يعتني به، أما أبي الذي تيتم بعمر الخامسة، فقد تعثر جيله وقدره بإمبراطورية أخرى لا تغيب عنها الشمس، فالتحق في شبابه كجندي "متطوع"، في جيشها، وكلّ ما كان يحب أن يذكره أبي رحمه الله، أنه وصل إلى معسكر إنجليزي في العلمين في مصر، وأنّه أطلق النار على شيء تحرك في الليل فاتضح لاحقاً أنّه حمار.

والآن، كما كنا منذ مئات السنين، ما نزال خاضعين لقوة عظمى أخرى لا تتحكم فقط بنا، بل بكل شعوبنا العربية؛ يكفي أن ترى الشبه بيننا كفلسطينيين وبين شعوب دول عربية حولنا الآن، مفتّتة ومقسّمة، تعيش شعوبها وأقلياتها في غيتوهات متاهيّة، ويحلم سكّانها بالحرية والسفر والمساواة، سبحان الله… الرحيل حلمنا والهجرة إلى بلاد الثلج صارت وسيلتنا للبقاء.

حين كتبت هذا العام في أيار/ مايو، عن حادثة سوء تجربة عودتي من جسر الملك حسين، بعد أن حاولوا منعي من العودة إلى فلسطين، بحجة أنّ الجسر قد امتلأ بالمغادرين، على الرغم من أنّهم أغلقوه بوجهي وبوجه المئات من الناس قبل موعد الإغلاق بساعة، خيرونا باستعمال خدمة الـvip للعبور فقط: ادفعوا مائة وخمسين دولاراً مقابل كل فرد لتستطيع العودة إلى فلسطين. لن أدفع؛ أفضل استئجار سيارة ليوم والعودة الى عمان والبقاء ليلة في الفندق على أن أدفع لهم ستمائة دولار لأعود عبر الـvip أنا وعائلتي. كثيرون منتفعون من حرية خدمة الـvip هذه، أو بالأحرى، من جدران الاحتلال التي تفتح بواباتها بـ"افتح ياسمسم إلكترونيّة" وبالدولار.

خيرونا باستعمال خدمة الـvip للعبور فقط: ادفعوا مائة وخمسين دولاراً مقابل كل فرد لتستطيع العودة إلى فلسطين. لن أدفع؛ أفضل استئجار سيارة ليوم والعودة الى عمان والبقاء ليلة في الفندق على أن أدفع لهم ستمائة دولار لأعود عبر الـvip أنا وعائلتي

أذهلني الكم الهائل من أصدقائي ومعارفي وأقاربي الذين يستعملون الـvip، وتذمر بعضهم من انتقادي له؛ الـvip بسهل علينا السفر يا جمال؟ ليش بتنتقده؟ إنهم يدفعون مئة وخمسين دولاراً وربما أكثر ليسافروا بخدمة خاصة، غير عن سفر هؤلاء الرعاع الآخرين المكدسين في قاعات المسافرين "اللي على الله!" واذا ما معك مصاري، الله لا يردك، ارجع يوم تاني واستنى في الطوابير واطلع في الباص مع خمسين راكب! أما إذا كنت من غزة ورايح مصر، نام ليالي على الحدود، وممكن ترجع وممكن ما ترجع، وممكن تسافر وممكن ما تسافر، وسبحان الله، كل البشر على هالكرة الأرضية مع كل خطوط العرض والطول الوهمية بدهم إياك يا الفلسطيني صامد في أرضك متمسك بمصيرك… قال أنت رمز الصمود!

قبل عام ونصف، عدنا إلى البيت في القدس من رام الله، بعد زيارة رمضانية، وصلنا صباحاً بعد منتصف الليل بنصف ساعة أو نحوها. قرب البيت، ثمة حاجز أقامته الشرطة والجنود والمستوطنون. بيتي يبتعد عن الحاجز المرتجل ثلاثين متراً، ولداي الطفلان نائمان في السيارة، دنت من خلفنا سيارة شرطة أخبرنا سائقها الشرطي باللغة العربية أن الطريق مغلق.

الطريق يعجُّ بالجنود والشرطة، وكانوا يشكلون حاجزاّ بشرياً، قبل أن أرى أن ثمة حاجزاً من الستائر الحديدية خلفهم؛ حاولت التحدث مع الشرطة، لكن لا أحد منهم يستجيب أو يرد. بقيتُ أنتظر على الحاجز، ثم فجأة مرَّ من أمامي ضابط مع جنود كثيرين، قلت له إنّني أريد العودة إلى البيت، وهو على بعد خمسين متراً من الحاجز، فوقف وقال لي: انزل، فطلبت منه أن يبلغ جنوده، فنادى جندياً وقال له: فليمر…

حين وصلت الى الحاجز الحديدي، لم يفتحه أحد أمامي، بل جاء مستوطنون نحوي وطلبوا مني العودة والابتعاد، فلم أرد بشيء؛ هؤلاء المستوطنون الذين أراهم لأول مرة هم "جيراني" في المستوطنة المبنية حديثاً على بعد ثلاثين متراً من بيتي. لن أتحدث مع جيران مارقين يحملون الأسلحة ويقطعون طريقي.

توجه لي مستوطنان، أحدهما تكلم معي بالعبرية ليقول لي إنني لن أمر، والأفضل أن ابتعد، قلت له بالعبرية: انت شرطي؟ انت مش شرطي لتحكي معي، فانسحب، وبعد دقيقة جاء مستوطن آخر يتكلم بالعربية يسألني عن الحال، وقال إن الطريق مغلقة من تحت ومن فوق، تجاهلته وصرخت لمناداة الشرطي، فأحضر المستوطنون المسلحون المزيد من الحواجز الحديدية وقربوها من بوز السيارة؛ كان هناك سيارة شرطة تريد المغادرة، ففتح الجنود الحاجز الحديدي بمقدار ما يسمح للسيارة بالمرور، وعادوا وأغلقوا الطريق، وحين أخبرت الجنود والشرطة أن الضابط سمح لي بالمرور والعودة الى البيت، قال لي الجنود والشرطة إن عليَّ أن آخذ الإذن بالمرور من المستوطنين الذين وقفوا أمام سيارتي والحواجز الحديدية أمامها.

هنا أدركتُ انني وزوجتي وطفلاي شبه النائمين تحت رحمة المستوطنين وكأننا ساتر بشري لهم، وأنه لا يوجد حل لا مع الشرطة ولا مع المستوطنين؛ كان عليَّ أن أبعد عائلتي بأسرع وقت عن شارع حارتي التي أصبحت تحت سيطرة عصابة جيراننا من المستوطنين، بمباركة الجيش والشرطة؛ خفت لو ابتعدت بالسيارة عن المكان، أن يهاجمني المستوطنون أو يتهموني بالقيام بفعل عنيف ويهاجموني؛ وهكذا، اتخذت قراري بترك السيارة وإغلاقها في المكان الذي تتنازل فيه الشرطة عن صلاحياتها لميليشيا وعصابات ضدي وضد عائلتي.

هنا أدركتُ انني وزوجتي وطفلاي شبه النائمين تحت رحمة المستوطنين وكأننا ساتر بشري لهم، وأنه لا يوجد حل لا مع الشرطة ولا مع المستوطنين؛ كان عليَّ أن أبعد عائلتي بأسرع وقت عن شارع حارتي التي أصبحت تحت سيطرة عصابة جيراننا من المستوطنين

أطفأت محرّك سيارتي وأخرجت الكرسي المتحرك، وكان ولداي قد استيقظا قلقين مما يجري. سأترك السيارة في منتصف الشارع، حيث منعني المستوطنون من المرور بشارع بيتي، وحيث امتنعت الشرطة عن القيام بواجبها واستنكفت حتى عن مساعدة شخص لأنه ليس يهودياً… وحين أخرجت الكرسي المتحرك من السيارة، اكتشفت أن الكرسي لن يخرج لأني قرب سيارة شرطة، فعدتُ لأعدِّل صفَّة السيارة لأتمكَّن من تنزيل الكرسي المتحرك، ولا أعرف ما الذي جرى في هاتين الدقيقتين اللتين أطفأت فيها سيارتي وحاولت أن أخرج منها، فقد لاحظت أن المستوطنين ابتعدوا عن سيارتي، وجاء شرطي ليفتح لي الحاجز الحديدي لكي أمر… شو صار؟ بلعبوا معي؟ لماذا غيروا رأيهم… لا يهم، المهم أننا سنبقى في هذا الوطن، فنحن ملحه وهواؤه ووجهه… لم يكن الطريق مغلقاً كما قالت الشرطة والمستوطنون… وصلنا البيت، وبقيت قنابل الصوت التي يطلقها الجنود حتى الساعة الثانية والنصف…

حدود الوطن وحدود البيت وحدود الحارة يقررها مسلح يهودي "غير مجنون" يأخذ صلاحياته من شرطي يمثل دولة وقانوناً فصَّلهما خياط من جماعة سايكس بيكو؛ هذا المسلح الإسرائيلي يريد أن يحكم الشارع ويريد أن يحادثني ويسامرني ويقنعني بأن الطريق مغلقة لأن الدولة دولته، والوطن ليس بوطنه، فهو قادم جديد ولدية هوية مواطن، أما أنا، فالوطن وطني والدولة ليست دولتي، سلالة عائلتي تعود ذاكرتها في هذا البلد الأمين إلى ألف عام بينما عيناه لا تراني…

ثمة عجوز طاعنة في السن قابلتها في الداخلية قبل سنوات، تفاجأت بأنها تطلب الجنسية الاسرائيلية. بهذا العمر؟ تذكرت آنذاك صديقاً قديماً من فترة التسعينيات، حين كان شاباً في أول عشريناته، وهمه الوحيد السفر إلى أميركا؛ ورغم تقدمه بالفيزا للسفر لزيارة أقاربه، فإن طلبه قوبل بالرفض. ذات يوم صارحني وقال لي إنه تقدم للجنسية الإسرائيلية، صدمني وأزعجني لكنني تفهمته: يريد أن يسافر ويرى أحباءه؛ كان شاباً مندفعاً وأخذ الجنسية الاسرائيلية ليسافر، وفعلاً، سافر إلى أميركا، ولم تعجبه الحياة هناك، فعاد وما يزال هنا. لكن هذه العجوز الطاعنة، لماذا تريد الجنسية؟ أقول لها: يا حجة، أنت ما بتعرفي أنك انتِ وما تملكين يصبح للدولة؟ قالت لزوجتي: لغاية في نفس يعقوب! ثم أوضحت العجوز: يمَّا، عندي بيت في الضفة وبدي أسكن فيه بحرية! وقت ما بدي بكون في القدس، ووقت ما بدي بروح البيت!

الحجة تريد الجنسية، كرت غوار على حدود الـ 48 وحدود الـ 67، تريد فقط أن تنام حيث تشاء في ظل وثيقة للدولة تضمن لها ذلك. ماذا تختلف الحجة عن صديقي الآخر؟ ماذا تختلف عن كل فلسطيني آخر يجد حله الشخصي والفردي؟ هذا ما فعلته بنا اتفاقية أوسلو. نريد أن نعيش تماماً مثلما يعيش البشر. فينا جينات التغرب وفينا جينات البداوة، وفينا جينات الحضر والقمح والميرمية، وفينا جينات التغلب على الصعاب وجينات البقاء: نحن فرادى وزرافات ما نزال هنا وهناك، نضج بالحياة والصخب، شعب لا يخشى من الحياة ولا من الموت، لا من العبد ولا من الله، لماذا أخشى من الله وهو يحبني، وهو يجعلني أقاوم وأعيش وأكتب وأربي أولادي؟ فلسطين هي التي تعطيني معنى وجودي، أكانت بحدود أم بغيرها، بحدود مفتوحة في عهد الدولة العثمانية أم بحدود معدنية مصطنعة، بحقول ألغام أم بحقول زيتون، بهوية مواطن أم بهوية مقيم أم بهوية بدون! والحجة تريد الجنسية، من أنا لأحكم على قرار مصيري لأي فلسطيني آخر؟ كيف جعلت زوجتي تناقشها في أمر يخص الحجة نفسها؟ هل أصبح كل شخص فينا دولة بذاته! لقد أوصلنا المشروع الوطني إلى هذا التخبط وهذا الفشل وهذا الضياع…

كفلسطيني يعيش في القدس تحت الاحتلال، ربما أحلم بالسفر وحرية الحركة في فلسطين التاريخية ذاتها والعالم، لكن ربما من المستهجن أن أقول إن حلماً يراودني بالهجرة من فلسطين، كم أردتُ أن أعيش خارجها سنتين ثلاثاً، ربما على الأقل لتحصيل درجة علمية، وعيش حياة عصرية كما أحلم، في مدينة مفتوحة أمامي وأمام الكرسيّ المتحرك، مدينة لا تلفظني بناياتها ومؤسساتها وتنغلق بوجهي حتى أرصفتها ودكاكينها، وتخلو من حمامات عامة ومواصلات مفتوحة تستقبلني مثل غيري. وطبعاً، مدن مثل رام الله ونابلس والخليل أقسى بما لا يقاس من القدس للمعوقين، فهي موصدة عنهم وعن مطالبات ذوي الاحتياجات الخاصة منذ عقدين.

لكني ما أزال أحلم بالسفر والعيش في بلاد بعيدة لفترة ما، أحلم بحريتي أن أترك وطني ويكون لي الحق أن أعود إليه متى شئت وأينما شئت. آه، لو كانت فلسطين قطعة قماش، فلن أسمح للخياطين بالعيش فيها، ولن أسمح بدخول الخيطان والمقصات إليها إطلاقاً.

هاكم حجارة، فخطوا بها حروف سناسلكم ألف بيت وبيت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image