بعض المشاعر لا نعرف سببها إلا بعد سنوات، كتلك الألفة التي كانت تنتابني وأنا أشاهد بطل فيلم يسكن في شقة وحده، أثاثها جيد ويستطيع أن يدعو أصدقاءه أو صديقاته لزيارته، أما حبيبته، فتجيء إليه لتلومه أحياناً على عدم فتح الشبابيك أو تذكّره بموعد ما، لذلك أحببت خالد أبو النجا وهاني سلامة كثيراً، هما أبرز من رأيتهما في أدوار كهذه.
تلك الألفة غير المبرّرة وقتها، عرفت سببها حين تخطّيت الثلاثين، وأدركت أنني، كهؤلاء، أريد بيتاً أسكنه وحدي وأدعو إليه أصدقائي وتزورني فيه حبيبتي التي لن تلومني على غلق الشبابيك لأني أحب الشمس، لكني حين انتقلت للعيش وحدي مؤخراً، ورغم أني رجل، أي ليس هناك من يراقبني أو يخاف على "سُمعتي" كما يحدث مع النساء، لكني فوجئت بمقاومة من الأهل سرعان ما تحوّلت إلى امتعاض على اتخاذي هذا القرار، وهو أمر لم يخبرني به خالد أبو النجا أو هاني سلامة، وأدركت أن ظهورهما في معظم الأدوار بدون أهل ربما كان إشارة إلى أن الأمور ليست بتلك السهولة المتخيلة.
جزء كبير من الربط بين البيت والشريك يعود في الأساس إلى الثقافة الدينية التي لعبت الدور الأبرز في تلك الرؤية
لماذا رفضت أمي انتقالي للعيش في بيت وحدي؟ لأني غير متزوج... هكذا ردّت ببساطة، لو كنت لا أعرفها لقلت أنها تخشى عليّ من "الإفساد" الذي قد يحدث حين أصبح حُرّاً تماماً، لكنها مقتنعة تماماً بمبرّرها الذي وجدته عند كثيرين ممن مسموح لهم الحديث معي في أمور كهذه، بل وعند آخرين، كان اعتراضهم أنني عازب، وبالتالي لا يحق لي السكن وحدي. "البيت معمول لعروستك"، هكذا لخّص جميع من تجاهلت آراءهم موقفهم.
لماذا رفضت أمي انتقالي للعيش في بيت وحدي؟ لأني غير متزوج... هكذا ردّت ببساطة
الفكرة ذاتها وجدتها أثناء بحثي عن شقة، فبعض أصحاب الشقق يشترطون سكن الأزواج لا العزّاب، وإن كان مبرّر هؤلاء معروفاً، وهو أن العازب بالتأكيد سيحوّل بيته إلى "ملهى ليلي"، ورغم أن البحث لم يكن طويلاً، لاختياري مكان غالٍ نسبياً، إلا أن أدركت معاناة النساء التي تفوقنا كثيراً في رحلة كتلك، بل وأشفقت عليهم، المهم أن الجميع باختلاف أسبابهم اتفق على أن البيت وسيلة لتأسيس أسرة في إطارها "الشرعي" لا غاية، لذلك لم يفهم أحد قصدي حين أقول أريد بيتاً لذاته لا أكثر.
بالتأكيد، جزء كبير من الربط بين البيت والشريك يعود في الأساس إلى الثقافة الدينية التي لعبت الدور الأبرز في تلك الرؤية، من خلال بعض التفاسير، مثل تفسير الطبري، الذي أوضح ان السكن المقصود به في الآية الكريمة "وخلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها"، هو المنزل الذي تجد فيه الهدوء مع زوجتك أو زوجك.
إضافة للثقافة الدينية التي تخصّ المسلمين جميعاً، في مصر كانت هناك خصوصية، لأنه حتى 10 سنوات مضت، كان متوسّط أعمار الزواج هو منتصف العشرينيات تقريباً، وكانت تكلفة الزواج مقدوراً عليها، وبالتالي لم يكن هناك غضاضة في أن يتحمّل الشاب أو الشابة سنيناً قليلة ينتقلون فيها إلى بيت، وتلك كلها عوامل لم تجعلهم يتوقفّون كثيراً أمام سؤال: هل البيت وسيلة أم غاية، وفي ظل غياب السؤال ترسّخت النظرية أكثر.
يا نادية، لا أريد زوجة، أريد بيتاً يشبهني، أنتمي إليه وأصنعه على عيني، فيه الكثير من الكتب والموسيقى، وسرير كبير أتقلّب عليه دون حساب المساحات، وجدران عليها صورة من أحب
لكن الآن، ومع ارتفاع متوسط سن الزواج الذي سجّل 30 عام للذكر والأنثى بحسب إحصاءات 2021، ناهيك عن تكاليفه التي بات لا يقدر عليها كثيرون، وارتفاع معدّل الطلاق بنسبة 14% في عام 2021 عما سبقه، ورغبة البعض في عدم اتخاذ الخطوة أصلاً لأسباب مختلفة، أقول إن تلك العوامل كلها فصلت إجبارياً بين البيت والشريك، وأفسحت الطريق للأول ليظهر كغاية في ذاته، خاصة أن احتياجتنا بعد ذلك تتطوّر بحسب شخصياتنا، ونحتاج إلى مساحة أكبر نشعر فيها أننا أحرار بالكامل، بعيداً عن بيوت أهالينا التي مهما مُنحنا فيها الحرية يظل الأمر محكوماً، ففي النهاية لن نستطيع أن نكون وفق ما نريد تماماً.
ما أقوله هو ما عشت فيه، فلا أنكر أنني حتى سنوات قليلة مضت كنت أيضاً لا أنظر إلى البيت إلا كوسيلة للعيش، وكنت أصدّق التفاسير الدينية، وكان توقي للاستقلال يتلخّص في الزواج بعد سنين التعليم بفترة قليلة، ومن يستقلّ بدون زواج كنت أنظر إليه نفس النظرة التي يُنظر إليّ بها الآن، لكن حين تغيّرت أفكاري ووصلت إلى سن الثلاثين، وبت على إدراك إنه ليس من الضرورة أن يتزوج الجميع، شعرت في الوقت ذاته أن الإنسان بحاجة إلى بيت لأسباب كثيرة بعيدة عن وجود امرأة أو رجل سوياً.
لذلك أقول لأمي التي اعتدت على منادتها باسمها: يا نادية، لا أريد زوجة، أريد بيتاً يشبهني، أنتمي إليه وأصنعه على عيني، فيه الكثير من الكتب والموسيقى، وسرير كبير أتقلّب عليه دون حساب المساحات، وجدران عليها صورة من أحب، أريد ألّا أغلق باب الحمام أثناء الاستحمام، والنوم عارياً في الصيف بلا خجل، أريد تعلّم الطهي ودعوة أصدقائي إلى بيتي، وأريد أن أشعر أني حرّ تماماً في فعل ما أريد، وليس لدي حسابات يفرضها على وجود آخرين لهم حقوقهم أيضاً، واعتقد أنه ليس من الإنصاف أن أُعاقب على هذا الحق لأني فقط... لا أريد الزواج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون