في إحدى صيدليات مدينة ديرب نجم في محافظة الشرقية جلست الصيدلانية الشابة نيرة عفيفي تتابع المنشورات المشاركة في حملة "ضرورية مش رفاهية" للتوعية حول فقر الدورة الشهرية، التي شارك في تدشينها مؤسسات"سند للدعم القانوني للنساء، وتدوين لدراسات النوع الاجتماعي، وبراح آمن".
الحملة التي أُطلقت في فبراير/ شباط الماضي، تزامناً مع مرور عام على بداية الزيادات المتسارعة في معدلات التضخم في مصر، أعادت طرح تساؤلات شغلت ذهن الصيدلانية الشابة خلال أشهر عملها القصيرة في سبع صيدليات، تطاردها كلما سألتها فتاة عن ثمن"علبة الفوط" قبل أن تخرج من دون شرائها، فتقف بين زملائها قائلة"ليه العلبة ما تتفرطش؟" فيسخرون منها ويتهمونها بـ”النسوية”.
لم تتوقع نيرة موافقة رئيسها في العمل، فكونه لم يمر بالتجربة جعلها تثق أنه لن يشعر بما تمر به الفتيات والسيدات في هذا الموقف، فهو وزملاؤها ينظرون لاحتياج النساء إلى أدوات العناية الشخصية، خاصة تلك المرتبطة بالدورة الشهرية، باعتبارها "رفاهية". وفور رفضه - المتوقع- لبيع الفوط الصحية بالقطعة أعادت طرح الفكرة بطريقة مختلفة فأبلغته بشراء عبوة من الصيدلية على نفقتها الخاصة، وعرضتها للبيع على طريقتها "فرط"، وبدأت في استقبال سيدات وفتيات الحي وإبلاغهن بإمكانية الحصول على الفوط الصحية بالقطعة مُقابل جينهين أو مجاناً لمن لا تملك ثمنها.
فور الرفض - المتوقع- من مديرها لبيع الفوط الصحية بالقطعة، سارعت الصيدلانية الشابة نيرة عفيفي إلى إبلاغه بتنفيذ مبادرتها على طريقتها الخاصة، إذ أودعت - على نفقتها- ثمن عبوة في خزانة الصيدلية، وعرضتها للبيع لسيدات وفتيات الحي مُقابل جينهين للقطعة أو مجاناً لمن لا تملك ثمنها
ليست رفاهية
خلال الأسابيع الأخيرة، وصل سعر العبوة المتوسطة (18 قطعة) من إحدى أشهر ماركات الفوط الصحية في مصر إلى 40 جنيهاً للعبوة، وتحتاج النساء إلى استخدام متوسط أربع قطع يومياً على الأقل للحفاظ على الحد الادني من العناية وضمان عدم الإصابة بالالتهابات والتسمم، ما يجعل هذه العبوة غير كافية في حال امتداد فترة الدورة الشهرية إلى المتوسط العالمي المقدر بأربعة أيام على الأقل.
تُدرج الفوط الصحية في مواقع الصيدليات والتسوق الإلكتروني المصرية تحت فئة "العناية الشخصية"، فيما يذكر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في تقريره عن معدل التضخم في فبراير/ شباط 2023 ارتفاع أسعار مجموعة العناية الشخصية بنسبة 4.1%، وفي تقريره لشهر مارس/ آذار من العام ذاته، ارتفع معدل التضخم لمجموعة العناية الشخصية بنسبة 3.5% عن فبراير السابق عليه.
كونها سلعة خاصة لفئة محددة ولا تستخدم بشكل يومي ولم تكن تُستخدم قديماً، هي واحد من الأسباب التي ساقها الدكتور عمرو مدكور مستشار وزير التموين والتجارة الداخلية لتعليل عدم استجابة المطالب الذاهبة إلى إدراج الفوط الصحية في منافذ التموين (السلع المدعمة والمباعة بسعر يقترب من سعر التكلفة)، زاعماً في تقرير صحافي نشرته جريدة المصري اليوم، أن الفوط الصحية لا تندرج ضمن السلع المدعومة من قبل أغلب الحكومات، وأن نسبة الضرائب عليها فاقت 60% في بعض البلدان.
خلال الأسابيع الأخيرة، وصل سعر العبوة المتوسطة (18 قطعة) من إحدى الماركات الأكثر رواجاً للفوط الصحية في مصر إلى 40 جنيهاً للعبوة، وتحتاج النساء إلى استخدام متوسط أربع قطع يومياً على الأقل للحفاظ على الحد الادني من العناية وضمان عدم الإصابة بالالتهابات والتسمم
لماذا لا تُعامل كالفياغرا؟
في 2022 ارتفعت أسعار الفياجرا -أقراص لعلاج الاعتلالات في الدورة الدموية باتت تستخدم لعلاج الضعف الجنسي لدى الرجال- بنسبة 15%، حسب الدكتور علي عوف رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية، وبينما تسمح الصيدليات ببيع تلك الأقراص بسعر خمسة جنيهات للقرص الواحد، ترفض رفضاً تاماً بيع الفوط الصحية بالقطعة.
تقول نيرة عفيفي لرصيف22 إن معظم الصيدليات التي عملت بها ويعمل بها زملاؤها تقبل بيع المضادات الحيوية بالقرص (ما يتنافي مع القواعد الطبية والصحية التي تقضي بتناول برنامج علاجي متكامل) كما تقبل بيع حفاضات الأطفال بالقطعة، حتى أنهم يبيعون الحقن بالأمبول، فالبيع بالتجزئة مسموح به في كل المنتجات، عدا الفوط الصحية.
أعلنت عفيفي عن مبادرتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك داعية زملاءها إلى تكرار التجربة لمساعدة السيدات والفتيات على تخطي معاناتهن مع أزمة الفوط الصحية، توضح لرصيف22 أنها وغيرها من زميلات العمل والسيدات يتعرضن لمواقف مُحرجة في حالة قدوم الدورة الشهرية بشكل مفاجئ، متسائلة عن ضرورة شراء علبة كاملة وهي في حاجة لقطعة واحدة لإنقاذ الموقف.
في 2022 ارتفعت أسعار الفياجرا -أقراص لعلاج الاعتلالات في الدورة الدموية باتت تستخدم لعلاج الضعف الجنسي لدى الرجال- بنسبة 15%، وبينما تسمح الصيدليات ببيع تلك الأقراص بسعر خمسة جنيهات للقرص الواحد ويمنحها بعض الصيادلة مجاناً لغير القادرين، ترفض تلك الصيدليات رفضاً تاماً بيع الفوط الصحية بالقطعة
وتروي أنها تحملت العمل مكان زميلتها حين فوجئت الأخيرة بقدوم الدورة الشهرية بشكل مفاجئ، ولم تتمكن من شراء علبة كاملة لصغر حجم حقيبتها، موضحة أنهما كونهما تعيشان في منطقة ريفية، يجعل من الصعب عليهما حمل العبوة في كيس بلاستيك ينم عما بداخله، ما قد يعرضها لمضايقات، مضيفة: "ليه اسمع ألفاظ بذيئة تخليني ألفها في هدومي علشان أخبيها؟".
الإجازة الناتجة عن أزمة الدورة الشهرية وتعذر الحصول على قطعة من الفوط الصحية؛ تُعرض نيرة وزميلاتها لخصم أيام يتحملن تكلفتها بمفردهن، فحين تترك أي منهن العمل في وقت مُبكر يخصم منها أجر اليوم كاملاً.
تكرر تساؤلها: "لماذا لا يُتاح بيع الفوط الصحية كالفياغرا، التي قد يعطيها الصيدلاني لمن لا يملك ثمنها من دون مقابل رغم كونها رفاهية مقارنة بالفوط الصحية؟". موضحة أن سعر القطعة في العلبة يبلغ 180 قرشاً وفي حالة بيعها بالتجزئة سيكون سعرها جنيين، فالأمر لن يؤثر مادياً على الصيدلية.
تخوفت عفيفي في البداية من ردة فعل الأسرة على مبادرتها لكونها تعيش في بيئة ريفية تتجنب الحديث عن الدورة الشهرية إلا بالهمس، وهو ما تلاحظه حين تدخل سيدة لشراء علبة فوط صحية فتخفض من صوتها حتى لا يسمعها أي من الرجال في الصيدلية، لكنها قررت أن تشارك في حملة "ضرورية مش رفاهية" وتؤدي دورها تجاه نساء بلدتها، فتروي تفاصيل حصول فتاة على قطعتين من الفوط الصحية للمرة الأولى في حياتها مشبهة سعادتها بفرحة طفل يحصل على لعبته الأولى.
شعرت عفيفي في البداية بأنها "أخدت خطوة أكبر مني"، إلا أن رد فعل السيدات والتشجيع الذي لاقته شجعها على حث زملائها على تبني التجربة، متمنية أن تشتري عبوة على نفقتها الخاصة لكل صيدلية وأن تُباع تحت "بانر" لحملة ضرورية مش رفاهية، موضحة أنها تعتبر العبء المادي صدقة يظهر أثرها على المدى الطويل، وأن العبء الثقافي "في حاجة لمواجهة… لا بد من الحديث عن احتياجاتنا بشكل واضح".
الإعفاء من الضرائب وتوزيعها في المدارس
المحامية الحقوقية نسمة الخطيب إحدى مؤسسات حملة ضرورية مش رفاهية والمشاركة في تأسيس كل من"مركز سند للدعم القانوني للنساء، مركز تدوين، مؤسسة براح آمن" تقول لرصيف22 إن الهدف من الحملة كان التوعية بفقر الدورة الشهرية وتغيير سياسيات الدولة تجاه الفوط الصحية. وتوضيح أنها ليست منتجات عناية بالبشرة لكنها سلع أساسية يجب توفيرها.
تطرقت الحملة لأزمة فتاة امتنعت عن الدراسة لعدم قدرتها على شراء الفوط الصحية، فضلاً عن رصد تغير نظرة النساء للفوط الصحية نتيجة الظروف الاقتصادية، فبعضهن يرفضن شراءها لتوجيه نفقتها لميزانية الطعام _حسب الخطيب_ موضحة أن الحملة خرجت بعدة مطالب أهمها إعفاء الفوط الصحية من الضرائب وألا تُترك تحت تصرف الشركات التجارية ويتم توزيعها في المدارس ومكاتب الصحة.
أحرزت الحملة نتائج جيدة فتواصل عدد من الأطباء النفسيين مع مؤسسة سند يرغبون في تقديم الدعم والمساندة للنساء، فضلاً عن عرض البعض لتوفير الفوط الصحية بالمجان، وصولاً لمبادرة نيرة عفيفي التي تصفها الخطيب بأنها عظيمة وفي حاجة لتعميمها، مرحبةً باستثمار اسم الحملة في مبادرتها وتتمنى أن تنتشر بانرات ضرورية مش رفاهية في جميع الصيدليات.
التجزئة حل اقتصادي
في حديثه لرصيف22 يوضح الدكتور علي عوف رئيس شعبة الأدوية بالغرف التجارية أن الظروف الاقتصادية التي يعاني منها الناس قد تضطرنا للقبول بأشياء وإن لم يكن ذلك بشكل رسمي، فالمناطق الشعبية الأكثر تضرراً تلجأ لتجزئة العبوة، مضيفاً أنه لا يستطيع أن يقول إن ذلك يحافظ على عنصر الجودة لكنه يقدم حلاً اقتصادياً.
يرى عوف أن العبوة المغلقة أفضل وأكثر حماية من الامتصاص للرطوبة والأتربة والميكروبات، وأن المهم في حالة البيع بالقطعة إغلاق العبوة مرة أخرى بإحكام بعد إخراج قطعة مُغلفة بواسطة "كيس" آمن، موضحاً أن المُستخدم يحصل على قطعة واحدة للاستخدام الفوري وأن العامل الأكبر في الحفاظ عليها بصورة جيدة تقع على عاتق البائع.
وعن أسباب الارتفاع المتواصل في أسعار الفوط الصحية، يقول إنه يتم استيراد المواد الخام المُستخدمة في صناعتها من الخارج، وهي غير مُسعرة بتسعيرة جبرية فتُترك للمنافسة في السوق من خلال العرض والطلب، موضحاً أن الدولة ليس لها دخل في ذلك، فأسعارها تأخذ الشكل الطبيعي الناتج عن ارتفاع أسعار المواد الخام، مضيفاً أنه لا يملك أرقام مُحددة حول تكلفة إنتاجيتها سنويا.
بيئة خصبة للتلوث؟
"البيع بالتجزئة حل سحري في كثير من المنتجات ويشترط في تطبيقه الحفاظ على جودة المنتج وسد الأبواب أمام محاولات تقليده بجودة أقل"، كما يقول الدكتور محمد الشيخ نقيب صيادلة القاهرة لرصيف22، مبيناً تحفظه على دعوات الحملة، مؤكداً أن فكرة البيع بالقطعة جيدة من الناحية الاقتصادية "إلا أنها بيئة خصبة للتلوث الذي يسبب أمراضاً كثيرة للنساء بداية من الحساسية والالتهابات وصولاً للعقم".
وأضاف الشيخ أن "نية صاحبة المبادرة جيدة، لكن قد يستغلها البعض في تقليد المنتج، وهو ما يفتح الطريق للشركات غير المرخصة لإنتاج فوط صحية باستخدام ورق غير مُعقّم، مما يؤثر على الصحة الإنجابية للنساء وصحتهم العامة، فليس هناك ضوابط للتحكم في الأمر، وإذا التزم أحد الصيادلة بشراء مُنتج بمواصفات جيدة، فقد يلجأ آخر لشراء المُنتج من مصنع بير سلم".
يذكر أن في مصر واحدة من أقدم منظومات الرقابة على المنتجات والسلع الدوائية في الشرق الأوسط ممثلة في هيئة الرقابة على الدواء التي انتزعت دور وزارة الصحة في التفتيش الصيدلي، وباتت الرقابة على الصيدليات تفتقر إلى الدعم الكافي بالكوادر الطبية المؤهلة لضمان منظومة الرقابة على الصيدليات والمنتجات الصحية والدوائية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 14 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت