تصوير: محمود الخوّاص
"لنا كل شيء نتمناه هناك في الخيال... لنا كل شيء حلمنا به وكل شيء نطمح لوصوله". وحدها كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش تستطيع التعبير عما يدور داخل هذا المكان.
بين جدران جمعية "النور والأمل" لرعاية الفتيات الكفيفات ووسط بناتها وسيداتها الجميلات تتمكن بسهولة من معرفة الفارق بين البصر والبصيرة، وتكتشف أن الصورة السوداء التي يتخيلها المبصرون عن حياة المكفوفين مجرد وهم لا وجود له، بين مجموعة لا حصر لها من الخطوط والأشكال والألوان المرسومة بأحاسيس تستشعر الضوء ولو لم تره.
الجمع بين العلم والعمل هو كلمة السر في نجاح كيان ورحلة النور والأمل، فمحو أمية كفيف يرفض الاستسلام ويحلم بالاستمرار هدف يستحق العناء، كما أن اكتشاف نقاط القوة في نفس كل شخص وتوظيفها بالصورة التي تساعده على تجاوز مخاوفه يؤتي بثمارٍ مذهلة.
من داخل قسم البامبو أو "القش" كما الاسم المتداول بينهن، بدأنا الحديث مع إلهام العريان محمود التي انتمت لبنات النور والأمل منذ أربع سنوات أملاً في الحصول على فرصة للتعلم. عامان في محو الأمية تكفلا بفتح أبواب العلم أمام إلهام التي بلغت الآن أولى سنوات المرحلة الإعدادية.
بين جدران جمعية "النور والأمل" لرعاية الفتيات الكفيفات ووسط بناتها وسيداتها الجميلات تتمكن بسهولة من معرفة الفارق بين البصر والبصيرة، وتكتشف أن الصورة السوداء التي يتخيلها المبصرون عن حياة المكفوفين مجرد وهم لا وجود له، بين مجموعة لا حصر لها من الخطوط والأشكال والألوان المرسومة بأحاسيس تستشعر الضوء ولو لم تره
أما عن تعلم البامبو فلم يستغرق الأمر طويلاً بعد أن أتمت فترة تدريبها بأقسام السجاد والتريكو والبامبو الذي اختارته أخيراً.
شعور بالراحة والتأقلم، هكذا وصفت إلهام إحساسها بالعمل في ورشة البامبو لدرجة أخذت تصف معها الكثير من تفاصيل طريقة تنفيذ منتجات القش صنيعة يديها من صناديق وفوانيس وأغراض منزلية ومكتبية.
شيماء جمال تبلغ من العمر 35 عاماً قضت منها 12 داخل جمعية رعاية الكفيفات، من ناحية أجادت برايل التي طوَّعتها لخدمة عملها بالبامبو إذ باتت أكثر دقة وشعوراً بملمس كل قطعة تصنعها، ومن ناحية أخرى عاشت أحلى الأوقات مع صديقات تتشارك معهن يومياً كل تفاصيل الحياة
لا تخفي إلهام سعادتها التي يضحك لها جسدها كله كلما أنجزت قطعة جديدة تتجاوز معها أي إحساس بالعناء أو المشقة، تلك السعادة التي تتضاعف عند مشاركة بعض منتجاتها في المعرض الخيري للجمعية وإبداء الزوار إعجابهم بها، مشيرة إلى أن استكمال دراستها وتحقيق طموحها هو الهدف الأهم في حياتها الآن حتى تكون مصدر فخر لوالديها.
أما شيماء جمال فقد بدأت رحلتها مع السجاد قبل أن تجد نفسها وتحب صُحبتها في البامبو، تبلغ من العمر 35 عاماً قضت منها 12 داخل جمعية رعاية الكفيفات، من ناحية أجادت برايل التي طوَّعتها لخدمة عملها بالبامبو إذ باتت أكثر دقة وشعوراً بملمس كل قطعة تصنعها، ومن ناحية أخرى عاشت أحلى الأوقات مع صديقات تتشارك معهن يومياً كل تفاصيل الحياة.
وبحكم الخبرة تقدم شيماء المساعدة لكل فتاة أو سيدة جديدة داخل القسم لتتعلم مهما كلفها الأمر من وقت أو جهد، مشيرة إلى احتياجهن لبث الطمأنينة لمواجهة الخوف من الوجود في مكان جديد بين أناس لا يعرفونهن.
أوضحت أنهن يقمن بتنفيذ الكثير من الأشكال التي تتناسب مع بعض المناسبات مثل فوانيس رمضان التي تم التركيز عليها في الفترة التي سبقت حلول شهر الصيام، وكذلك تنفيذ قطع لعلب شوكولاته وأشكال قلوب من قش احتفالاً بعيد الأم.
رصدت شيماء بعض الأجواء الدافئة التي تستمتع بها بين صديقاتها سواء أثناء ساعات العمل في الورش أو في أوقات الراحة التي تنقسم بين تناول الطعام والمناقشات الجادة والأحاديث المُضحكة، وحتى الغناء الذي تتولى مهمته لعذوبة صوتها بناءً على رأي صاحباتها
وقالت لرصيف22 إنها تشعر بالفخر كلما بيعت قطعة جديدة من منتجاتهن، مؤكدة أن مصدر فخرها وسعادتها ليس فقط بيع ما صنعته أيديهن ولكن للتعليق المتكرر الذي يتردد على ألسنة الزائرين الذين يتساءلون عن كيفية عمل المكفوفات لهذه القطع الفريدة شديدة التميز والدقة بنبرة يملؤها الذهول والانبهار.
ورصدت شيماء بعض الأجواء الدافئة التي تستمتع بها بين صديقاتها سواء أثناء ساعات العمل في الورش أو في أوقات الراحة التي تنقسم بين تناول الطعام والمناقشات الجادة والأحاديث المُضحكة، وحتى الغناء الذي تتولى مهمته لعذوبة صوتها بناءً على رأي صاحباتها، علاوة على مشاركتهن معاً في الأنشطة الثقافية داخل المكتبة وحفظ القرآن.
روح مرحة ووجه بشوش أطلت بهما سيدة أحمد التي بدأت حديثها بابتسامة عريضة كشفت عن حب كبير لما تعمل، البامبو كان اختيارها الأخير بعد تجارب ناجحة في أقسام السجاد والتريكو والخياطة.
تنظر سيدة إلى قسم البامبو باعتباره "قسم الفن والإبداع" الذي وجدت نفسها فيه، أشكال عديدة ومختلفة تمنحها روح التحدي وتختبر إصرارها على إنجاز كل قطعة مهما بلغت صعوبتها.
17 عاماً هي المدة التي قضتها سيدة داخل الجمعية، سنوات طويلة تفعل ما يجعلها سعيدة، مؤكدة أن صناعة شيء باليد تمنح صاحبه شعوراً بالفخر بما استطاع عمله، وفي المقابل يسلب منه أي شعور بالإعاقة أو عدم القدرة على تنفيذه، خاصة أنه عمل يستلزم تركيزاً عالياً، مؤكدة أن ورش عمل النور والأمل تمنحهن جميعاً شعوراً يجعل المستحيل ممكناً.
بيتي الثاني هذا هو إحساس سيدة بالمكان الذي تقضي فيه خمسة أيام متواصلة أسبوعياً، مشيرة إلى أن ما تشعر به تجاههن هو شعور الأهل الذين يتشاركون معاً كل شيء، بالإضافة إلى أنها تقوم بعمل الكثير من الأنشطة المحببة إلى قلبها بين جدرانه، فتجد نفسها بين سطور الكتب التاريخية في المكتبة، فيما تتابع بشغف الأخبار في شتى المجالات بمساعدة البرنامج الناطق على هاتفها المحمول الذي يضمن لها استمرار التواصل مع العالم الخارجي.
واستكمالاً لحالة التحدي والمثابرة التي تتمسك بها سيدة أوضحت أنها تمكنت من القيام ببعض التفاصيل الدقيقة التي كانت تتم بمعرفة المدربين من قبل نظراً لاحتياجها لشخص مُبصر، ولكن كان إصرارها أكبر من أي خطأ أو إخفاق واجهها فحالفها النجاح في نهاية الأمر.
تقوم المدربة برسم شكل السجاد والفتيات المتدربات يقمن بإتباع التعليمات بعد معرفة عدد العقد الموجودة فيها والحدود التي وضعها لمعرفة الفواصل بين لون وآخر في حالة وجود أكثر من لون في السجادة الواحدة أو العمل عليها كاملة دون مساعدة إذا كانت لون واحد
ومن البامبو إلى الحياكة، مع فاطمة أحمد التي قضت 22 عاماً داخل القسم الذي انتقلت إليه لظروف مرضية وبين جدران الجمعية التي توصل فيها الليل بالنهار، تلك الأقدار التي ساقتها إلى عمل بات محبباً إلى قلبها: قالت: "أشعر بسعادة لا مثيل لها أثناء العمل، أعمل بشكل احترافي يشبه المصانع الجاهزة".
تقوم فاطمة بتغليف الملابس بعد إزالة الأقمشة الزائدة باستخدام المقص. تكمن سعادتها في ذهول من حولها بالصورة النهائية لكل ما يخرج من بين يديها.
أما فاطمة طه فقد قضت خمس سنوات داخل قسم السجاد الذي بدأت فيه واستمرت دون اختبار قدراتها في قسم آخر، فقد كانت ميولها نحو تعلم السجاد، الأمر الذي ظهرت آثاره في سرعة تعلمها حتى أصعب التفاصيل في السجاد.
أوضحت أن المدربة تقوم برسم شكل السجاد والفتيات المتدربات يقمن بإتباع التعليمات بعد معرفة عدد العقد الموجودة فيها والحدود التي وضعها لمعرفة الفواصل بين لون وآخر في حالة وجود أكثر من لون في السجادة الواحدة أو العمل عليها كاملة دون مساعدة إذا كانت لون واحد.
مجهود كبير لا تشعر به فاطمة طالما أنجزت مهمتها كما يجب، بالإضافة إلى وجودها بين صاحباتها التي تزيل رفقتهن عنها أي تعب.
داخل قسم التريكو لا تمل العاملات من أصوات الماكينات في الورشة، بل تزداد فرحتهن كلما ارتفع مستوى الصوت الذي يدل على مؤشر حجم العمل وسرعة دوران عجلة الإنتاج
وتشاركها العمل بالقسم نفسه نبيهة إبراهيم التي كان حظها من اسمها كبيراً، فتميزت في أكثر الأقسام صعوبة وقضت فيه 13 عاماً، حكت عن سعادتها بما تصنعه يديها، مؤكدة أن العمل اليدوي يضفي متعة خاصة على صاحبه حين يشعر بحجم إنجازه ويتعرف على آراء المحيطين به فيما قدمه، بل أن السعادة تتضاعف حين تلقى المنتجات إعجاب زوار معرض الجمعية ويقومون بشرائها.
أشارت نبيهة إلى تعلمها عمل العقدة في عقدة وهي الطريقة الأصعب في صناعة السجاد اليدوي، تلك الخطوة التي زادت ثقتها في قدراتها، ومن قبلها خطوة أخرى جعلتها أكثر جرأة وقدرة على التحدي حين تحولت من داخلي إلى خارجي في الجمعية أثناء فترة كورونا وأصبح لزاماً عليها الذهاب والعودة يومياً للجمعية. قالت: "كنت أخشى هذه الخطوة، أتردد وأخاف طلب المساعدة من أي شخص، ولكن فوجئت بقوة نفسي وقدرتي على مواجهة مخاوفي".
داخل قسم التريكو كانت المحطة الأخيرة، وسط أصوات الماكينات التي لا تملها عاملات الورشة، بل تزداد فرحتهن كلما ارتفع مستوى الصوت الذي يدل على مؤشر حجم العمل وسرعة دوران عجلة الإنتاج. تحدثت شويكار طاهر الأكثر خبرة بينهن داخل القسم حيث بدأت العمل منذ عام 1989.
شويكار انتمت للجمعية التي سمعت عنها عبر أثير الإذاعة في برنامج ربات البيوت عندما استمعت إلى فقرة عن بنات النور والأمل، وزاد حجم إنتاجها بمرور السنين ومعها الخبرة التي لم تبخل بها على أي فتاة جديدة تأتي للقسم أملاً في تلقين الأجيال الجديدة كل ما تعلمته.
ولنا في الخيال حياة أخرى، هذا هو ملخص الحالة التي جمعت بين كل هؤلاء، فكلمات الصبر، والتحدي، والمثابرة وغيرها من تعبيرات تصف الإرادة القوية لا تكفي لرواية حكايات بنات النور والأمل، فقد نجح خيال كل واحدة منهن في رسم تفاصيل حياة كاملة لا تحتاج نور العيون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون