شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ليتمكن الصمّ من الانخراط بمساواة في الحياة"... لماذا على الجميع أن يتعلّم لغة الإشارة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 16 يونيو 202002:30 م

داخل السيارة، كانت أفنان خالد تنتظر عودة والدتها من المخبز الذي توقفت عنده لبرهة، لأخذ "ربطة" خبز سريعاً، كانت لحظة حدثت صدفة، ما جعلت أفنان تزيح وجهها عن هاتفها وتحول نظرها إلى المخبز، صدفة حركت فيها غاية لم تكن تدرك أنها في داخلها، لكنها اليوم، وبعد أكثر من عامين، بررتها بالوسيلة الصحيحة.

تلك الصدفة التي واجهتها جعلتها اليوم، وبحسب ما ترويه لرصيف22، هدفاً تسعى إلى تحقيقه، لا لذاتها فقط، بل لأكبر عدد ممكن من الأشخاص الصم الذين "يتوجب علينا"، كما تقول، بأن نتعلم لغة الإشارة لأجلهم/ن، ليس شفقة عليهم/ن، بل التزام أخلاقي لكل مؤمن بحق الأفراد في العيش بكرامة، وأن نتواصل باللغة التي يتواصل بها الصم حتى يفهمونا ونفهمهم، هو شكل من أشكال الحفاظ على كرامتهم/ن، حسب تعبيرها.

تروي أفنان خالد، وهي ناشطة وتعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في الأردن، من خلال إحدى المنظمات، تجربتها التي جعلتها تتعلم لغة الإشارة، وتعود إلى مشهد المخبز حيث كانت أمها، حين انتبهت لوجود امرأة خمسينية تقف أمام موظف الكاش، تبدو عليها علامات بذل الجهد، من جراء محاولاتها عن طريق حديثها بلغتها الإشارة أن توصل الفكرة التي تريدها للموظف، والذي بدوره بدت عليه أيضاً علامات صعوبة الفهم، لينتهي الأمر بالسيدة إلى الخروج من المخبز ومعالم الخيبة واضحة عليها، ذلك أنها لم تفهم ولم يفهمها ذلك الموظف.

"أكثر ما آلمني في تلك اللحظة أنني عجزت عن النزول من السيارة والذهاب إلى تلك السيدة لمساعدتها، كيف أنزل وأنا أعلم أنني لن أستطيع ذلك، وهو على عكس شخصيتي التي تحرص على مساعدة كل شخص يحتاج المساعدة، لكن كيف أنزل وأنا أمية بلغة الإشارة؟"، تسأل أفنان، والتي تبين أن شعور عجزها عن مساعدة شخص ما هو ما جعلها تقرر أن تتعلم لغة الإشارة، وتضيف: "ولأنني ناشطة في العمل الحقوقي، لدي إيمان بالدفاع عن الحقوق المنتزعة، وموقف المخبز ذكرني بضرورة إعادة الحقوق لأصحابها".

داود صالح، وهو طالب في الجامعة الأردنية، يقول لرصيف22 إنه لم يواجه أي معوقات في الجامعة كونه أصماً، لكن كل ذلك فقط داخل قاعات المحاضرات، ويضيف: "ليست لدي مشاكل مع الأشخاص، ولم أواجه أي إساءة في حياتي، لكن ما الفائدة من احترامهم/ن لي وأنا غير قادر على فهمهم/ن والعكس صحيح؟"

لم يكن مشهد المخبز مجرد صدفة عابرة حفّزت أفنان على تعلم لغة الإشارة حتى "تعيد الحقوق لأصحابها" كما ذكرت، حيث تلتها بفترة قصيرة صدفة شبيهة بسابقتها، عندما تعرفت على صفحة على موقع فيسبوك اسمها "علمني بعلمك"، وتقوم فكرتها على أن كل شخص لديه موهبة أو معرفة ما يعلمها للآخر مقابل أن يتعلم شيئاً منه، وهنا كتبت أفنان على الصفحة أنها على استعداد لتعليم اللغة الفرنسية وتعليم كتابة تقديم المشاريع مقابل أن يعلمها أحد لغة الإشارة، ثم تلقت في ذات اليوم رسالة من صاحب الصفحة، ويدعى سند أبو عساف، يخبرها بها أن هناك مترجمة ستعلمها اللغة.

وبالفعل كما تروي أفنان، دأبت هي وسند، الذي تشجع لفكرة تعلم لغة الإشارة أيضاً، للقاء المترجمة لفترة لا بأس منها، تلاها ظهور فيروس كورونا وتداعياته التي أدت لفرض حظر تجول في الأردن، ما أدى أيضاً إلى توقف لقاءات التعلم، وهنا تقول: "ما صعب علي الاستمرار بتعلم لغة الإشارة وحدي، أن المحتوى الموجود على الإنترنت جامد جداً، بمعنى أن ليس فيه روح ولا يشجع أي شخص على تعلم اللغة".

وحرصاً منها على عدم نسيان ما تعلمته من تلك المترجمة، قامت أفنان بترجمة ما حفظته من لغة الإشارة، بتصوير فيديو لترنيمة "ليت سلامي يأسرني"، بمناسبة عيد الفصح المجيد، بلغة الإشارة، نشرتها على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد فترة وجيزة نشرت فيديو تهنئة بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك أيضاً بلغة الإشارة، لتأتي بعدها الصدفة الثالثة، عندما نشر صديقها سند أيضاً فيديو له بلغة الإشارة وتهنئة لرمضان، دون أن يخططا لذلك مسبقاً، لكن ذلك ما جعلهما يخططان لإنشاء مبادرة اسمها "صبورة"، لتشجيع تعلم الناطقين لغة الإشارة.


ومن خلال "صبورة" التي تحرص أفنان على ذكر أسماء فريق العمل فيها، وهم، إضافة لها: سند أبو عساف، يوسف المغايرة ودانة المغايرة، استطاع الفريق تشجيع ناطقين على تعلم لغة الإشارة، من خلال نشر فيديوهات لهم/ن تترجم مقاطع مسرحية، وكلمات أغان "من الزمن الجميل"، كما تقول أفنان، وتقول: "تفاجأنا بحجم التفاعل مع صبورة، ولمسنا حالة تقبل ورغبة من قبل ناطقين، ممن ليس لديهم أحد من أفراد عائلتهم من الصم، فقط تعليقان على الصفحة قاموا بذمنا".

سألتها ما هما التعليقان؟ ضحكت أفنان وبررت قبل أن تقول ما هما، أن السبب يعود إلى مشكلة في الوعي لفهم ما تسعى إليه "صبورة"، وكان أحد التعليقات: "ابتعدتوا عن لغة القرآن الكريم واتجهتوا إلى الأشياء الواهية"، والثاني: "تركتوا اللغة العربية الفصحى وذهبتوا إلى اللغات الدارجة"، وتختم: "واضح أنهما لا يدركان أننا نهدف لبثّ شعور الفرح لناطقي لغة الإشارة، الذين تبين من تجربتي في التواصل مع بعضهم/ن أنهم/ن لا يعرفون هذا الشعور كثيراً".


وعبر مكالمة بالفيديو، جمعت رصيف22 بواسطة أفنان خالد مع دانة المغايرة، وهي مترجمة لغة إشارة، ومع داوود صالح وهو شاب أصم، تحدث كل منهما عن تجربته مع لغة الإشارة ولماذا يشجعون الناطقين على تعلمها.

دانة، 22 عاماً، هي ابنه لأب أصم وأم صماء، وهو السبب الواضح الذي جعلها تتعلم لغة الإشارة، تشجع الناطقين الذين ليس لديهم فرد من أسرتهم من الصم بتعلم لغة الإشارة، نظراً لمواقف عديدة شهدتها وهي بصحبة والديها اللذين يكادان لا يستطيعان التواصل مع الخارج دون وجودها، أو وجود أخيها يوسف معهما، أو على الأقل مهاتفتهما بالفيديو لشرح ما يريدان.

"أبسط الأمور في أبسط المواقف تؤكد أهمية جعل لغة الإشارة واجبة التعلم من الجميع عبر المناهج الدراسية، من المدارس للجامعات لسوق العمل، لأن ببساطة، هذا حق لمن هو أصم ومن هي صماء، وواجب على الدولة وكل فرد"، تقول دانة، مستشهدة ببعض المواقف التي تؤكد أهمية تعلم لغة الإشارة للجميع، منها: "حتى نشرة الأخبار تخصص ساعة واحدة فقط لترجمة ما هو طارئ وأكثر ضرورة وله علاقة بالشأن المحلي فقط، وكأن الصم ممنوع عليهم/ن معرفة كافة الأخبار وفي جميع دول العالم، حتى في المعاملات في الدوائر الحكومية من المستحيل أن يكون هناك من هو أصم لغايات إجراء معاملة تخصه دون وجود مترجم معه، ناهيك عن المطاعم وقوائم الأطعمة والعاملين فيها، وغيرها الكثير الكثير من المواقف".

ما أصعب موقف واجهته مع والديك، شعرت حينها أنه من حق الصم أن يتعلم الجميع لغة الإشارة؟ سألت دانة، أجابت: "عندما نشاهد التلفاز ويمر مشهد مضحك، أضحك أنا وأخي ووالداي يحرمان من ذلك، أعلم أنهم محرومون حتى من الضحك في بعض المواقف، عندما ينظرون إلينا محاولين أن يحزروا ما الذي حصل في ذلك المشهد ورسم الضحكة على وجهينا أنا وأخي".

وتقول دانة للناس حتى تشجعهم/ن على تعلم لغة الإشارة: "يجب ألا يعتبروا أن هذا شيئاً ثانوياً كونه يخص فئة قليلة و(خلص)، والأهم ألا يتعلموا اللغة بداعي الشفقة، فلا يقبل من هو أصم وهي صماء أن يُنظر إليهم/ن بعين الشفقة، هو إنسان وهي إنسانة وواجب كل شخص أن يتعلم لغتهم، فليتخيل كل شخص أنه مكانهم/ن ماذا تشعرون عندما لا يفهمكم/ن أحد؟"، تختم دانة.

"أبسط الأمور في أبسط المواقف تؤكد أهمية جعل لغة الإشارة واجبة التعلم من الجميع عبر المناهج الدراسية، من المدارس للجامعات لسوق العمل، لأن ببساطة، هذا حق لمن هو أصم ومن هي صماء، وواجب على الدولة وكل فرد"

وعن داود صالح، 32 عاماً، وهو طالب في الجامعة الأردنية يدرس إدارة أعمال، يقول لرصيف22 إنه لم يواجه أي معوقات في الجامعة كونه أصماً، بالعكس هناك دعم ومساعدة له في كافة المجالات، لكن كل ذلك فقط داخل قاعات المحاضرات، ويقول: "ليست لدي مشاكل مع الأشخاص، ولم أواجه أي إساءة في حياتي، لكن ما الفائدة من احترامهم/ن لي وأنا غير قادر على فهمهم/ن والعكس صحيح؟".

ويطالب دواد مثل ما طالبت به المترجمة دانة، أن يكون تعلم لغة الإشارة إلزامياً في المدارس والجامعات، حتى يتمكن الصم من الانخراط بشكل طبيعي في الحياة، وأبدى امتنانه الكبير لما تقدمه مبادرة "صبورة"، فمن خلالها فقط وأول مرة في حياته عرف ماذا تعني كلمة أغنية، فهو، وبحسب قوله، لم يسبق له أن رأى ترجمة بلغة الإشارة لأغان.

وعن أصعب المواقف التي واجهته، قال داود، عندما أعجب بفتاة غير صماء بادلته ذات الشعور، وانهزم كل منهما، فالعجز في التواصل أدى إلى انتهاء حلمهما بالزواج، هنا وبعد أن تبين أن ملامح وجهه بدا عليها شيء من الحزن، قاطعته مازحة: "لكن لغة القلوب أجمل من الكلام"، ضحك وقال: "صحيح، لكن لا غنى عن الكلام أيضاً".

وعندما سألته لماذا تشجع الناس على تعلم لغة الإشارة، ختم بلغته بحركة، طلب منا من كنا معه في اتصال الفيديو أن نقوم بها، وتعني: "المساواة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image