شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عمال الترام… فجر الحركة النقابية الذي أشعل سنوات النضال الوطني في مصر

عمال الترام… فجر الحركة النقابية الذي أشعل سنوات النضال الوطني في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 2 مايو 202312:33 م

شهدت شوارع القاهرة بداية القرن العشرين، وفقاً لكتاب "الخروج من الأسوار" للباحثة غادة فاروق، ولأول مرة في تاريخها، تمدد شبكة واسعة من خطوط السكك الحديدية تحمل عربات الترام، تتمركز جميعها حول ميدان العتبة الذي أصبح أهم نقطة مرورية في القاهرة بفعل عدة عوامل جغرافية وخدمية، تقدمتها محطة الترام الرئيسية، بحسب ما جاء في كتاب سلام ترام "أرشفة المسارات المفقودة لترام القاهرة"، ذلك الترام الذي ربط جغرافياً واجتماعياً "القاهرة الحديثة" التي بُدىء إنشاؤها في زمن الخديوي إسماعيل مع شقيقتها الكبرى "القاهرة التاريخية"، فيسّرت حركة تنقل الأهالي بسرعة غير معهودة بين القاهرتيْن، من الأحياء القديمة (القلعة، الدراسة، الحسين، وغيرها) إلى الأحياء المستحدثة (الإسماعيلية، شبرا، هليوبوليس)، وفقا لكتاب عباس الطرابيلى، شوارع لها تاريخ.


خريطة القاهرة مطلع الثلاثينيات، نقلاً عن أندريه ريمون

وبالنظر إلى كتاب سلام ترام، فإن "الترومواي" الذي شكَّل وسيلة نقل جماعية تستخدم للمرة الأولى، ساهم في خلق مساحة اجتماعية تسمح باختلاط الطبقات والتداخل بين الفئات على تنوعها، ما تولّد عنه ارتباط تلك الفئات فيما بينها اجتماعياً وسياسياً بمجموعة من المفاهيم والمصالح المشتركة، وتشكل لدى سكان القاهرة نتيجة لذلك؛ أولا وعياً عمرانياً "خيالاً جغرافياً"، تبلور نتيجة التباين الشديد في أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية بين القاهرة التاريخية ونظيرتها الخديوية، وثانياً: وعياً طبقياً، تشكل نتيجة الفروق الطبقية الصارخة والتمايز الشديد بين الأجانب والمصريين، وتحديداً الموظفين والعمال في شركة الترامواي سواء كانوا موظفي تيسير العربات (سائقون _ كمسارية) أو عمال صيانة (كراجات "جراجات" _ تحويلات). 

الوعي العمراني والطبقي الذي تشكل بوجود الترام في المدينة، تحول إلى حالة من الاحتدام السياسي والحراك الاجتماعي، ومهد الطريق أمام اشتعال ثورة 1919 التى بدأت شرارتها الأولى فعلياً بإشعال النيران في عربات الترام

وهو ما يظهر جلياً في التعاونيات التى شكلها عمال الترام باعتبارهم وحدة مجتمعية تحاول تحقيق مصالح اقتصادية ومكتسبات اجتماعية مشتركة، كما تكثّل في قدرتهم على تنظيم سلسلة من الإضرابات ضد الشركة البلجيكية، إضافة إلى تعاون العمال بوجه عام مع "الأفندية" من الحقوقيين والسياسيين، ما أسفر عن أول "نقابة عمالية" مصرية خالصة (خالية من الأجانب) تسعى للمطالبة بحقوق عمال الترام بشكل قانوني وتعرض أعضاؤها للمحاكمة والسجن في سبيل النضال من أجل حقوقهم كما جرى في العام 1908، وفقا لـكتاب رؤوف عباس، الحركة العمالية في مصر 1899 - 1952.

الوعي العمراني والطبقي الذي تشكل بوجود الترام في المدينة، ما لبث أن تحول إلى حالة من الاحتدام السياسي والحراك الاجتماعي، ومهد الطريق أمام اشتعال ثورة 1919 التى بدأت شرارتها الأولى فعلياً بإشعال النيران في عربات الترام، وفقا لكتاب، تاريخ الطبقة العاملة المصرية 1919-1929، من الثورة الوطنية إلى الأزمة الاقتصادية.

الإضرابات من القاهرة إلى الأقاليم

وبحلول العام 1907 فإن القاهرة كانت قد تحولت إلى مدينة غير متجانسة، تتكون من أجزاء متجاورة ولكنها متنافرة في طبيعتها، متباينة في وظيفتها العمرانية، كما نعرف من كتاب جان لوك أرنو "القاهرة… إقامة مدينة حديثة 1867-1907"، ولم يكن هذا الواقع العمراني الجديد الذي عرفته العاصمة، المنقسمة إلى قاهرتين، إلا جزءاً من حالة مغايرة عرفتها مصر مطلع القرن العشرين على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية، تمثلت في ممارسات تاريخية عدة، كان أبرزها انتشار موجة واسعة من الاعتصامات الفئوية والإضرابات العمالية المنظمة.

كانت شركة الترامواي البلجيكية تستخدم أكثر من 2000 من العمال المصريين من السائقين والكمسارية أحوالهم في غاية السوء، يعملون 14 ساعة في اليوم مقابل جنيهين شهرياً، من دون إجازات أو تأمينات صحية واجتماعية، كل هذا تحت وطأة سوء معاملة المفتشين الأجانب

وبالرجوع إلى كتاب رؤوف عباس، الحركة العمالية في مصر 1899 - 1952، فقد شملت تلك الموجة جميع أقاليم مصر في نهاية القرن التاسع عشر، ومختلف قطاعات الأعمال التي كانت في أغلبها شركات أجنبية تتمتع بامتيازات اقتصادية على الأراضي المصرية، من عمال الشحن والتفريغ في ميناء الإسكندرية إلى عمال خزان أسوان، ثم عمال نقل القمح في بورسعيد، ولما كان عمال الترام قد شكلوا أكبر قطاع عمالي وطني يعمل لدى شركة امتياز أجنبي، كما نعرف من كتاب أمين عز الدين، تاريخ الطبقة العاملة المصرية 1919-1929، من الثورة الوطنية إلى الأزمة الاقتصادية، فقد كان من الطبيعي أن نجدهم في مقدمة هذه الموجة العمالية، يطالبون بتحسين الأجور وتخفيض ساعات العمل.

إضراب 1908

بالنظر إلى أوضاع شركة الترامواي البلجيكية، كانت الشركة تستخدم أكثر من 2000  العمال المصريين من السائقين والكمسارية أحوالهم في غاية السوء، يعملون 14 ساعة في اليوم مقابل جنيهين شهرياً، من دون إجازات أو تأمينات صحية واجتماعية، كل هذا تحت وطأة سوء معاملة المفتشين الأجانب وما يفرضون عليهم من جزاءات وخصومات من مرتباتهم من دون أسباب واضحة، كما تورد دراسة محمد مبروك قطب، "إضراب عمال ترام القاهرة والإسكندرية 1911، قراءة في الصحافة المصرية"، التي ينقل لنا فيها ما سجلته جريدة الأهرام التي انتقدت سياسة شركة الترامواي تجاه العمال المصريين، وتقاعس الحكومة عن حمايتهم. 

"إن شركة مثل هذه تسرق أرواح العمال، وكثيراً ما قدموا شكاواهم ولا حياة لمن تنادي، فلا الشركة تجيب ولا الحكومة تصغي، ولو كان لهؤلاء العمال وأمثالهم بمصر جمعيات أو أحزاب لما كانت الشركة تعاملهم هذه المعاملة السيئة" - جريدة الأهرام.  

بعد أيام من بدء الإضراب، قدم عمال الترام مطالبهم إلى إدارة الشركة البلجيكية فيما عرف "بعريضة سواقي الترام والقومسيرية"، واشتملت على خفض ساعات العمل إلى 8 ساعات، وزيادة الأجور بنسبة 40%، وتنظيم الغرامات والإجازات، وصرف الأفرولات مجاناً، والتأكيد على منع الموظفين من ضرب العمال

وإن بدا أن أزمة العمال بالشركة البلجيكية قد انحصرت في تدني منظومة الرواتب وغياب الحماية القانونية، فإن تلك الأزمة لا يمكن قراءتها إلا في سياق حالة وطنية قد تبلورت مطلع القرن العشرين، وهو ما انعكس في شعور العمال بالاستياء بشأن مكانتهم المتدنية في مقر العمل، ذلك أنه فضلاً عن التفاوت الكبيرة في الأجور بين العمال المصريين والعمال الأجانب، فقد استحوذ الاجانب على الأعمال الإشرافية حتى وإن كانوا متساوين مع المصريين في الخبرة وساعات العمل.

وعليه فقد كان السائقون والكُمسارية دائماً من المصريين، وكان المفتشون الذين يراقبون أداءهم من الأجانب (يونانيون- إيطاليون)، يتمتعون بسلطة كبيرة، وهو ما وضع العامل المصري تحت وطأة المعاملة السيئة والعقوبات التعسفية، من دون سبيل للرد أو التظلم.

ومن ثمّ، كان حتماً أن تندفع الأحداث نحو الإضراب العمالي 1908، خاصة في ظل اشتعال الرأي العام بفعل الصحافة الوطنية، كما نعرف من دراسة محمد مبروك قطب، "إضراب عمال ترام القاهرة والإسكندرية 1911، قراءة في الصحافة المصرية"، التي خصصت صفحات كاملة لانتقاد ما يتعرض له عمال شركة الترامواي من سوء معاملة، منددة بغياب قوانين تحمي العمال.

"إن تيسر مركبات الترام في مصر بواسطة شركة أجنبية هو عنوان عار وعلامة خزي تلحق أغنياء هذه البلد وتذكرهم بسوء تدبيرهم وشدة تقصيرهم" - جريدة الشرق

في 13 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1908 بدأ تحرك عمال الترام بتقديم مطالبهم إلى إدارة الشركة البلجيكية فيما عرف "بعريضة سواقي الترام والقومسيرية"، وقد اشتملت على خفض ساعات العمل إلى 8 ساعات، وزيادة الأجور بنسبة 40% لمواجهة تكاليف المعيشة المرتفعة، وتنظيم الغرامات والإجازات (سنوية-مرضية)، وصرف الأفرولات (ملابس المخصصة للعمل)، وفقاً لـكتاب رؤوف عباس، الحركة العمالية في مصر 1899 - 1952، إلى جانب فتح باب الترقي للعمال المصريين إلى وظائف المفتشين، مع التأكيد على منع الموظفين من ضرب العمال، إضافة إلى مطالبة الشركة بالاعتراف بلجنة تتشكل من 4 مندوبين من بينهم محامي لتقديم شكاوى العمال في المستقبل.

خلقت تجربة الترام لدى العمال وعياً نضالياً تراكمياً، بمساعدة طبقة الأفندية من محامي الحزب الوطني. ذلك الوعي النضالي الذي أفضى عن تشكيل جمعية عمالية "نقابة عمال الترام" في مارس/ آذار 1909، عرفت باسم "جمعية عمال ترام القاهرة" "The Cairo Tram Worker's Association"

إلا أن إدارة الشركة رفضت الاستجابة لمطالب العمال، فما كان منهم إلا أن بدأوا إضرابهم فجر يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول بعد السيطرة على كراجات الترام بشبرا وبولاق والعباسية، والتجمهر حول شريط السكة الحديدية لمنع تيسير عربات الترام، واستعانت الشركة بشرطة العاصمة، لكن "البوليس عجز عن زحزحة العمال عن الخطوط" رغم اللجوء إلى العنف، بعد أن بات العمال ليلاً على حالهم معتصمين في أماكنهم، وفي اليوم التالي حاول بعضهم تصعيد الإضراب فذهبوا إلى "وابور الشركة في بولاق وكسروا بعض الأسلاك"، واستطاعت الشرطة القبض على أربعة منهم.

ونجح العمال في منع تيسير الترام لمدة ثلاثة أيام، لكن في صباح 21 أكتوبر/ تشرين الأول، تمكنت الشرطة من وضع نهاية لهذا الإضراب باستخدام عربات الإطفاء، بعد أن انهالوا على العمال بالضرب بالعصي والكرابيج حتى تشتتوا عن أماكنهم، وفقا، لكتاب سيد كيلاني "ترام القاهرة"، وتم القبض على ما يقرب من 200 عامل، من بينهم قادة الإضراب، وقدموا للمحاكمة بتهمة الاعتداء على رجال البوليس وتعطيل الشركة وتخريب ممتلكاتها، بعد أن تعرضوا للرفت من وظائفهم، والإهانة والجر بالأحبال على يد أفراد الشرطة.

وأعلن الحزب الوطني تأييد العمال في مطالبهم، ونشرت جريدة اللواء: "إن المتأمل في مطالب عمال الترام يعرف مبلغ عدلها، فإنهم لم يطلبوا من الشركة المستحيل، وإنما طالبوا بالتناسب بين الحقوق والواجبات، هذه الروح التي سرت في أولئك العمال أشعرتهم أن لهم حقوقاً ضائعة وجمعت صفوفهم لطلبها بطريقة عادلة، روح تبشر بدخول طوائف العمال عندنا في عهد جديد من الحياة والتضامن الاجتماعي".

هنا، وتحت ضغط الرأي العام، اضطرت الشركة البلجيكية أن تقبل ببعض من مطالب العمال،  بأن تخفض وقت العمل إلى 10 ساعات، وتدفع نصف تكاليف الأفرولات، كما تعهدت إدارة الشركة رفع رواتب العمال تدريجياً خلال سنوات العمل، ودفع مرتب ثلاثة شهور في حالة إصابات العمل، مع استرجاع العمال المفصولين نتيجة اشتراكهم في الإضراب، وفقاً لـمحمد مبروك قطب، في دراسته "إضراب عمال ترام القاهرة والإسكندرية 1911 ، قراءة في الصحافة المصرية".

وبالنظر إلى تجربة إضراب 1908 التي خاضها عمال الترام وهم عزل من خبرات العمل الجماعي، التى عرضتهم إلى شتى أنواع التنكيل والمهانة، فإن تلك التجربة قد خلقت لديهم وعياً نضالياً تراكمياً، بمساعدة طبقة الأفندية من محامي الحزب الوطني. ذلك الوعي النضالي الذي أفضى عن تشكيل جمعية عمالية "نقابة عمال الترام" في مارس/ آذار 1909، عرفت باسم "جمعية عمال ترام القاهرة" "The Cairo Tram Worker's Association، وفقاً لكتاب سلام ترام "أرشفة المسارات المفقودة لترام القاهرة".

ساندت الصحافة نضال العمال، وعلى رأسها جريدة المحروسة التي ذكرت إدارة الشركة بالخسائر التي حلت بها نتيجة إضراب عام 1908م، وإن إدارة الشركة تدرك، "أن العامل المصري لا يتقاضى أكثر من 4 فرنكات كأجر يومي، بينما أقل أجر للعامل الأجنبي لا يقل عن 5 فرنكات، ثم إن العامل الأوروبي لا يخصم منه إلا بعد التحقيق الدقيق"

إضراب 1911

بعدها، تدافعت الأحداث التاريخية سريعاً نحو تراجع عمراني محلي في ظل بدايات موجة ركود اقتصادي عالمية، وفقاً لـكتاب جان لوك أرنو، القاهرة، إقامة مدينة حديثة "1867-1907"، في حين تصاعد العمل النقابي بشكل عام في مصر، وانتقل من العاصمة نحو الأقاليم بفضل جهود طبقة الأفندية من رجال الحزب الوطني، وتمكنت الطبقة العاملة من تحقيق وجودها كطبقة اجتماعية، والاستفادة من تراكم العمل الجماعي، خاصة مع الاختلاط بالعمال الأجانب وما لديهم من خبرات نضالية سابقة نحو حقوق العمال، كما نعرف من كتاب الحركة العمالية في مصر 1899 - 1952.

في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1910، وفي ظل هذا الغليان الاقتصادي والاجتماعي، طالب عمال ورش صيانة الترام من إدارة الشركة تخفيض ساعات العمل ورفع الأجور، ثم أضربوا عن العمل، لكنهم ما لبثوا أن تراجعوا عن الإضراب بعد تعهد مدير الشركة في النظر في مطالبهم، لكن ذلك لم يكن سوى مزيد من المماطلة، إذ لم تتحقق تلك الوعود أو سابقتها عام 1908، وهو ما دفع أعضاء "جمعية عمال ترام القاهرة" إلى مطالبة الشركة بتنفيذ وعودها القديمة، من خلال التقدم بمذكرة في 18 يوليو/ تموز 1911، تضمنت 10 مطالب من بينها زيادة الرواتب 20%، وإجازة مدفوعة الأجر عن كل 10 أيام عمل، وأن تكون مدة العمل تسع ساعات، مع صرف أفرولات مجانية، بالإضافة إلى التوقف عن فصل أي عامل من دون سبب واضح، مع تخصيص مكافأة مالية لكل عامل تستغني الشركة عن خدمته.

وإن كانت تلك المطالب لم تضف جديد عن جوهر مطالب 1908، إلا أنها تعكس الحالة التنظيمية التي أصبح عليها حال العمال كطبقة اجتماعية تسعى إلى تحصيل حقوقها الاقتصادية، كما أن مطالب هذه المذكرة قد شملت، وعلى عكس عريضة 1908، جميع عمال الشركة، سواء كانوا من عمال الحركة (سائقين -كمسارية - إشارجية)، أو من عمال الإصلاح (مفتاحجية - ميكانيجية - ومخزنجية)، كما نعرف من دراسة محمد مبروك قطب، "إضراب عمال ترام القاهرة والإسكندرية 1911، قراءة في الصحافة المصرية".

بدأ إضراب 1911 من كراجات شبرا، حين امتنع العمال عن استلام قطارات الترام صباح 30 يوليو، وقد نجحت تلك الطريقة في الإضراب أن تشل حركة المدينة، وأن تُكبد الشركة خسائر يومية تصل إلى 1500 جنيه، في حين خلقت حالة ارتباك عند البوليس الذي وقف رجاله مكتوفي الأيدي أمام العمال الذين جلسوا في مجموعات متفرقة على خطوط الترام ملتزمين الهدوء كأنهم في احتفال

وبدأت الصحافة من جديد تساند نضال العمال، وعلى رأسها جريدة المحروسة التي وجهت نداء إلى إدارة الشركة تدعوها إلى "حسن التدبير وتلبية المطالب العمالية تجنباً لما قد يحدث إذا ما أصرت على الاستخفاف بمطالبهم"، وتذكرها بالخسائر التي حلت بها نتيجة إضراب عام 1908م، وإن إدارة الشركة تدرك، "أن العامل المصري من عمال الشركة لا يتقاضى أكثر من 4 فرنكات كأجر يومي، بينما أقل أجر للعامل الأجنبي لا يقل عن 5 فرنكات، ثم إن العامل الأوروبي لا يخصم منه إلا بعد التحقيق الدقيق".

إلا أن الشركة اختارت المماطلة وبدأ العمال يهددون بالإضراب، فاضطرت الشركة تحت الضغط والخوف من تكرار الخسائر أن تصدر بياناً عرف بـ "إعلان 25 يوليو"، تستجيب فيه إلى بعض مطالب العمال، لكن بعد تعديلها واقتصار تحسين ظروف العمل والاجازات على المفتشين ورؤساء الخطوط، والاكتفاء بزيادة مرتبات عمال القطارات قرش واحد، وعمال الورش والجراجات نص قرش، فما كان من العمال إلا أن رفضوا البيان وطالبوا الشركة أن تشمل التحسينات كل فئات العمال، وخاصة مكافأة نهاية الخدمة، ثم أعلنوا الإضراب عن العمل في هدوء ومن دون أي تجمهر أو اشتباك مع البوليس الذي بدأ رجاله في تأمين مخازن الشركة في بولاق والعباسية والجيزة.

وتكشف لنا جريدة المقطم كما تنقل عنها دراسة "إضراب عمال ترام القاهرة والإسكندرية 1911، قراءة في الصحافة المصرية"، أن إضراب 1911 بدأ من كراجات شبرا، ثم شمل العباسية وبولاق والجيزة، حين امتنع العمال عن استلام قطارات الترام صباح 30 يوليو/ تموز، وقد نجحت تلك الطريقة في الإضراب أن تشل حركة المدينة وتعطل أحوال أهلها خاصة سكان الأحياء الجديدة، وأن تُكبد الشركة خسائر يومية تصل إلى 1500 جنيه، في حين خلقت حالة ارتباك عند البوليس الذي وقف رجاله مكتوفي الأيدي أمام العمال الذين جلسوا في مجموعات متفرقة على خطوط الترام ملتزمين الهدوء كأنهم في احتفال.

فما كان من الشركة البلجيكية إلا أن أعلنت في نهاية اليوم عن رفضها لمطالب العمال ولو استمر إضرابهم أربعة شهور مع التهديد بالرفت لكل من يمتنع عن العمل صباح اليوم التالي 31 يوليو/ تموز، وهنا بدأ العمال بنصب خيام كبيرة أمام مخارج الكراجات لمنع أي محاولة تهدف إلى تشغيل الترام، بعدما علموا بنية الشركة في تعيين عمال جدد لتيسير الترام، وبدأت المفاوضات بين وكيل الشركة وممثلي العمال، وانتهت إلى تعهد كتابي من الشركة بألا يتعرض المشاركين في الإضراب إلى الرفت إذا ما تراجعوا عن الإضراب، وهو ما رفضه العمال قبل استجابة الشركة إلى جميع مطالبهم.

وفي 2 أغسطس/ آب، ومع وصول خسائر الشركة إلى نحو 60 ألف جنيه، بدأت الشركة تفكر في تيسير الترام بالقوة، وهو ما تم بمساعدة البوليس الذي بدأ في فض اعتصام العمال، باستخدام رجال من المطافئ يحملون البلط والهراوات يهدمون الخيام والمقاعد، وعساكر السواري يحملون العصيان والأحبال يفرقون العمال بالقوة، والعمال يردون عليهم بالحجارة والطوب، وبدأت عربات الترام تتحرك وعلى كل عربة مجموعة من العساكر لحمايتها، فهجم عليهم العمال ورشقوا العربات بالحجارة، واشتد زحام الأهالي، فانسدت الطرق وتعذر المرور، وأقبلت عربات المطافي تكاد تدهس الأهالي تسلط مياهها عليهم لتفرقتهم، وسادت الفوضى في جهة بولاق وباب الحديد وقصر النيل، وتركت عربات الترام في الشوارع طول الليل، كما نعرف من كتاب ترام القاهرة.

وإن كان رؤوف عباس في كتابه، الحركة العمالية في مصر 1899 - 1952،  يشير إلى تلك الإضرابات التي نجمت عن تعاون سياسيي الحزب الوطني مع عمال الترام، باعتبارها جزءاً من سياسة عريضة وضعها الحزب، ترمي إلى تنظيم الطبقة الدنيا من أبناء مصر (عمال- فلاحين) داخل "نقابات تعاونية" تكون ركيزة للنضال الوطني، إلا أن ذلك التعاون بين طبقة الأفندية (مستخدمي الترام) وطبقة العمال (مشغلي الترام)، يظل يعكس لنا كيف ساهم وجود الترام في تشكيل وعي طبقي وعمراني جديد، نتيجة ما يسره من الاتصال العمراني وما أتاحه من الاختلاط الطبقي، كما يكشف لنا ذاك التعاون علاوة على ذلك، مدى تغلغل الترام في وجدان المصريين حتى بات جزءاً من نضالهم الوطني بداية القرن العشرين، جعل منه أولى ضحايا ثورة 1919.

القاهرة 1972 - أرشيف "خالد عبد الرحمن

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image