ظلت آمال الأمازيغ في المغرب، معلقةً لسنوات على الاستجابة لمطلبهم بالاحتفال رسمياً بـ"إيض ن يناير"، أو "إيخف أوسكواس" (أي رأس السنة الأمازيغية)، وقد تحقّق الأمر أخيراً مع إقرار العاهل المغربي الملك محمد السادس، رأس السنة الأمازيغية عيداً رسمياً وإجازةً مدفوعة الأجر، على غرار الفاتح من محرم من السنة الهجرية، ورأس السنة الميلادية.
بيان الديوان الملكي، الذي زفّ هذه البشرى للأمازيغ في المملكة المغربية، أفاد بأن الملك محمد السادس، "أصدر توجيهاته إلى رئيس الحكومة قصد اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل هذا القرار الملكي، الذي يندرج في إطار التكريس الدستوري للأمازيغية كلغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية".
ويذهب المهتمون بالشأن الأمازيغي في المغرب، إلى أن هذه الخطوة، من أعلى سلطة في البلاد، ستعمل على تعزيز المكتسبات كلها التي تحققت للأمازيغية، كونها مكوناً رئيسياً للهوية المغربية الأصيلة والغنية بتعدد روافدها، ورصيداً مشتركاً لجميع المغاربة من دون استثناء.
انتظار شعبي وإصرار على الاحتفال
لمدة تزيد عن عشر سنوات، وتحديداً منذ ترسيم الأمازيغية في دستور 2011، انتظر المغاربة الأمازيغ الاحتفال رسمياً بـ"إيخف أوسكواس"، أو "إيض ن يناير"، أو "حاكوزة"، الذي يصادف وقوعه في الـ13 من كانون الثاني/ يناير من السنة الميلادية، بالنظر إلى رمزية هذا اليوم لدى جميع المغاربة من الأمازيغ وغيرهم.
لهذا، اضطرت العديد من المنظمات والجمعيات الأمازيغية في المغرب، قبل موعد رأس السنة الأخير (13 كانون الثاني/ يناير الماضي)، إلى توجيه رسالة مباشرة إلى الملك محمد السادس، دون غيره، من أجل إقرار رأس السنة الأمازيغية عيداً وطنياً رسمياً، بعدما يئست هذه الهيئات من طرق أبواب مؤسسة رئاسة الحكومة منذ 2011، ومعها المؤسسة التشريعية، من دون أن تستجيب المؤسستان!
أصدر الملك المغربي تعليماته باعتماد رأس السنة الأمازيغية عطلة وطنية. خطوة في منح اللغة والثقافة الأمازيغيتين مكانة في المجتمع المغربي
لكن الأمر لم يمنع المغاربة من الإصرار على الاحتفال برأس السنة الأمازيغية ، ليس على مستوى الجمعيات الأمازيغية فحسب، بل على نطاق شعبي واسع في مناطق المغرب كلها، من خلال طقوس وعادات احتفالية، وغذائية في الأساس، تعكس مدى تشبث المغاربة بالأرض ومنتوجاتها.
خطوة تنصف الأمازيغية وتعزّز موقعها
ستكون لترسيم السنة الأمازيغية من طرف الملك، كونه رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، أبعاد أخرى في المقبل من الاحتفالات بهذا اليوم المهم لدى أمازيغ البلاد، خصوصاً أنها خطوة "تنصف الأمازيغية بأبعادها كلها كونها قاسماً مشتركاً بين المغاربة كلهم، وستعزز رسمياً موقع الأمازيغية كهوية أساسية لهم كلهم"، يقول رئيس منظمة "إزرفان" (تعني القوانين بالأمازيغية)، حمو الحسناوي.
يضيف الحسناوي، في تصريحه لرصيف22، أن "الإقرار الرسمي برأس السنة الأمازيغية عطلةً مؤدى عنها، يقوّي جذور الهوية المغربية رسمياً بارتكازها على الأصالة الأمازيغية كمنبع لتفرّدها الهوياتي عالمياً، ويجعل المغاربة يفتخرون بانتمائهم إلى هذا الوطن بتاريخه وعاداته العريقة، إذ سيكون هناك إجماع شعبي مغربي، سواء بالنسبة للناطقين بالأمازيغية أو غير الناطقين بها، على تخليد هذه المناسبة في مناطق المملكة كلها، وفي المحيط الإقليمي وحتى في المهجر".
الإقرار الرسمي برأس السنة الأمازيغية عطلةً مؤدى عنها، يقوّي جذور الهوية المغربية رسمياً بارتكازها على الأصالة الأمازيغية كمنبع لتفرّدها الهوياتي
لذلك، "نتطلع إلى أن يكون الاعتراف الرسمي بهذه المناسبة، ضمانةً لترسيخ قيم هذا اليوم في المجتمع ونقله إلى الأجيال القادمة في ظل ما يعرفه العالم من تحولات تفرضها العولمة، وتهدد ما هو محلي ووطني إن لم يحظَ بالحماية القانونية الرسمية"، يضيف الحسناوي.
قرار ملكي إستراتيجي يُنقذ الأمازيغية
في السياق نفسه، يرى الفاعل الحقوقي الأمازيغي، أحمد أرحموش، أن ما جاء في بيان الديوان الملكي بشأن إقرار الملك محمد السادس، رأس السنة الأمازيغية عيداً وطنياً مؤدى عنه، "قرار ملكي إستراتيجي متميز يجب التنويه به، واحتضانه ليكون منطلقاً جديداً لمواصلة مسار استعادة الأمازيغية بمقوماتها كلها لوضعها التاريخي والتاريخي والطبيعي".
يوضح أرحموش، لرصيف22، أن القرار "قد يعيد للرأسمال اللا مادي للأمازيغية حيويته ونشاطه، وقد يحسم أو يساهم في خفض منسوب غياب التوازن الفكري لدى تيارات معادية ومناهضة للأمازيغية في المغرب".
ولفت المتحدث نفسه، إلى أن هذا كله يأتي "في ظرف يشهد فيه ملف الأمازيغية وضعاً مقلقاً، لضعف في المبادرات الحكومية والحزبية ذات الصلة بتفعيل الطابع الرسمي والقانوني والميداني للأمازيغية أحياناً، أو لغيابها أحايين أخرى"، آملا بأن "يكون هذا القرار من أعلى سلطة في البلاد بدايةً جديدةً لتحمّل صاحب القرار الحكومي والحزبي والتشريعي والترابي لمسؤوليته تجاه ما يهدد الأمازيغية".
له ما بعده
خلال مسار الاعتراف الرسمي بالأمازيغية بشكل عام في المغرب، عانت هذه اللغة الرسمية في المملكة من تعثرات عديدة؛ بدءاً بإخراج القوانين التنظيمية لما جاء في دستور 2011، وما أعقب ذلك من تلكؤ حكومي في تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية في مجالات الحياة العامة.
يؤكد رئيس الشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة، يوسف لعرج، أن القرار الملكي "جريء وواضح ويجب أن يكون له ما بعده في ما يخص تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية بشكل جدي ومسؤول من طرف الحكومة ومن طرف الدولة بشكل عام، خصوصاً أن أبعاد القرار مهمة جداً، إذ له دلالات قوية في مسار الاعتراف الرسمي بالأمازيغية في المغرب، وتكريس مكتسبات دستور 2011".
في إفادته لرصيف22، رأى لعرج أنه "تم إهدار زمن مهم في هذا الباب، بعدما لم تستجِب الحكومات المتعاقبة لانتظارات الحركة الأمازيغية، ولم تتفاعل معها إلا بعد مرور مدة معيّنة"، مشدداً على أن "رمزية هذه الخطوة تجعلنا نطرح أكثر من سؤال على الدولة في ما يتعلق بإعطاء تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية طابعاً جدياً وعملياً، من خلال تخصيص المزيد من المبادرات والميزانيات، وأيضاً خطة طريق واضحة المعالم، بدل التي وعدت بها سابقاً الحكومة الحالية".
لم تستجِب الحكومات المتعاقبة لانتظارات الحركة الأمازيغية، ولم تتفاعل معها إلا بعد مرور مدة معيّنة لكن القرار أنصف الأمازيغ
لذلك، "هناك تحديات كثيرة جداً، منها ما هو مرتبط بمدى جدية الحكومة ومدى جدية الدولة بشكل عام في المضي قدماً بملف الأمازيغية، بحكم أنه من أهم الملفات لتحقيق المصالحة في البلاد، وأيضاً من أهم الملفات التي تعزز المكتسبات التي حققها المغرب خلال الثلاثين سنةً الأخيرة على الأقل في الجوانب السياسية والحقوقية والقانونية"، وفق المتحدث نفسه.
طقوس متوارثة واحتفال مدني بامتياز
بدءاً من هذه اللحظة، سيكون الاحتفال برأس السنة الأمازيغية بكثير من الاعتزاز، إذ لم يكن "إيض ن يناير" أو "إيخف أوسكواس" أو "حاكوزة"، على مرّ التاريخ، موعداً عادياً بالنسبة للمغاربة الذين يحيونه بطقوس وعادات توارثوها على مدى قرون طويلة.
وتحرص العائلات المغربية، أمازيغيةً كانت أو خلاف ذلك، على تحضير أطباق عشاء خاصة بليلة رأس السنة الأمازيغية تختلف حسب المناطق؛ مثل طبق عصيدة "تكلا"، أو "الكسكس بسبع خضار"، أو طبق "أوركيمن"، إذ جرت العادة بأن تُدسّ نواة تمر في الطعام المُقدَّم في المناسبة، ومن يعثر عليها سيكون محظوظاً طوال السنة الزراعية.
الاحتفال برأس السنة الأمازيغية مدني بامتياز؛ لأنه يكاد يكون الاحتفال الوحيد الذي يقام خارج فضاءات ذات وظيفة تعبدية
لهذا، فرمزية الحدث تحيل أساساً على الارتباط بالأرض، والاحتفاء بخيراتها، وترتبط به العديد من الأساطير والطقوس والأقوال التي تعزز هذه العلاقة بين المغربي والأرض، مع ما تتضمنه من آمال بدخول سنة جديدة مزدهرة فلاحياً.
يسجل الأنثروبولوجي الأمازيغي، الحسين آيت باحسين، أنه "إذا تجاوزنا مشكلة الجذور التأريخية للتقويم الأمازيغي، باختيار فترة ساهم فيها الأمازيغ في الحضارة المصرية الفرعونية بوصول شيشانق الأول إلى السلطة السياسية سنة 950 قبل الميلاد، فسنلاحظ أن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية مدني بامتياز؛ لأنه يكاد يكون الاحتفال الوحيد الذي يقام خارج فضاءات ذات وظيفة تعبدية".
يخلص آيت باحسين، خلال حديثه لرصيف22، إلى أن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية بشكل عام، يحيلنا أكثر على "التعود على تدبير الندرة أو القلة، والوعي بضرورة خلق الانسجام مع البيئة، والاعتزاز بالخصوصيات الثقافية والهوياتية، وتمرير الذاكرة التاريخية للأجيال المستقبلية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...