العاشق قليل الحيلة
بينما كنت أمشي؛ وقعت.
الجملة السابقة ليست قصة قصيرة جداً، كما أنها ليست شطراً من قصيدة هايكو هجينة؛ بل هي بداية علاقة افتراضية، بين ورقتين من شجرتين مختلفتين. وقوع حقيقي، مثله مثل أغلب الممارسات التي تحولت بقدرة الـ enter؛ إلى افتراضية.
نعم، كنت أمشي كعادتي، غير آبهٍ بتلاقي الأشجار، غير مؤمن بالسقوط في كلمة من حرفين؛ فوقعت.
*****
للوهلة الأولى، قد تراني شخصاً اجتماعياً محاطاً بهالة أصدقاء، لكنك عندما تقترب؛ سوف تكتشف أن الهالة ليست إلا سراباً؛ بل سوف تلمس الخراب المحيط بي.
على سبيل المثال، في هذه البلدة المنسية لا أملك سوى صديقاً واحداً، كلما أحاطت بعنقي أصابع الملل؛ قصدته. وقد صادف ذلك اليوم أن أكون مريضاً بائساً، كما في معظم أيام الشتاء، فحزمت تعبي وخرجت للمشي، ظناً مني أن هذا الفعل سيزيد مقاومتي للمرض. غير عارف أن مرضاً أشد فتكاً بانتظاري. بعد جولة قصيرة، قصدت صديقي في دكانه، وبالهدوء ذاته الذي كنت أعيشه، جلست.
ما هي إلا لحظات حتى رنّ هاتفي، معلناً وصول رسالة من امرأة تجلس في الطرف الآخر من الكوكب، امرأة كنت أراقب بروفايلها من بعيد، وكانت أقصى أمنياتي حينها أن تنتبه لوجودي في قائمة أصدقائها الذين صرت أراهم فيما بعد مجموعة ذئاب متربصة بي وبها، على حد سواء. احتوت الرسالة على همسة: "بس تكون فاضي بدي وشوشك كلمة بأذنك". ومنذ ذلك الحين وأذني تعيش صخباً هائلاً.
في البدء كان اسمها "ربيع" إلا أنها تكره جميع الفصول.
سريعة جداً، صاخبة أكثر من حفل زفاف؛ وتبغض العلاقات التي تنتهي بزفاف، نحيلة، فاتنة، تجيد التحدث بكل ما يُغضب، مستفزّة، قادرة على التملّص من بين فكي جنوني، كما أنها مجنونة، وقياس قدمها ست وثلاثون زهرة.
صار اسمها "فخ،" والشامة على نهدها الأيمن ثقب أسود أهوي فيه كل لحظة.
سريعة جداً، صاخبة أكثر من حفل زفاف؛ وتبغض العلاقات التي تنتهي بزفاف، نحيلة، فاتنة، تجيد التحدث بكل ما يُغضب، مستفزّة، قادرة على التملّص من بين فكي جنوني، كما أنها مجنونة، وقياس قدمها ست وثلاثون زهرة...مجاز
ببساطة هذه هي، وبكل التعقيد سأكون أنا، محلقاً، هابطاً، كارهاً، محباً، قريباً، بعيداً، متربصاً، لا مبالياً، ناسياً، طفلاً، رجلاً، أحصي تفاصيلها على أصابعي العاجزة كتلميذ في حصة رياضيات، وأفشل في كل امتحان.
جمعنا عالم "الصفر واحد"، لأكون صفراً على شمال يومها في بعض الأحيان، وأكون الواحد الأحد في خوارزمية قلبها، أحياناً أخرى.
قالوا: لابد للشاعر أن يستسلم للحب حين يصوب مسدساً نحو صدغه، ولابد أن يتلقى الهزائم والطعنات والرصاص أحياناً، من دون أن تتمزّق أشرعته؛ كي تُستفز قريحته وحسب، وهي كذلك أبدت رأياً مشابهاً؛ حين تحدثنا بشأن رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، أعجبها تسلّط غادة واستسلام غسان أمام آلة الحب الطاحنة، وأعجبتها، بالقدر ذاته، هزيمتي في الجولة الأولى.
لا تفكري فيما كتبت، فقط حاولي أن تحشري قلبكِ الآن في إحدى الزوايا؛ من المؤكد أنه سيعضّكِ وستتألمين
*****
ها هي تعود في كل لحظة؛ مثل خريف مبكر، مثل فصل خامس يحشر نفسه بين ظلمة شتاء مضى وحرقة صيف متخم بالعتاب. ها هي تعود وتختفي في العودة.
وها أنا أعود لمطاردة شبح، بينما هناك أشباحٌ تطاردني، ياللمفارقة! هذه معادلة من الدرجة المرعبة، ووصفة نافعة للموت.
*****
كان صوتها هنا البارحة
يتربع في رأسي مثل مرج أخضر
يلهيني عن فكرة ثقب جسد النهر بقفزة (قد تسمى انتحاراً)
واليوم لا شيء، لا شيء سوى أنني جالس أهشّ ذباب الذكريات عن وجهي.
رسالة أولى وأخيرة
مضت شهور على أول حديث دار بيننا، وللعلم، أذكرها لحظة، لحظة، بكل ما فيها من عبثية واتزان، بكل البهجة التي داهمت روحي المتنصّلة من جوقة الببغاوات الهائمة في الخارج، وبجميع الطعنات التي انتظرنا التفات أحدنا إلى جهة شروق العالم لنغدر به ببضع كلمات.
أذكر جيداً حين قلتِ بصوتكِ الخزفي: تعال، اقترب أريد أن أهمس في أذنك كلمة واحدة. كنتِ ماهرة في الإيقاع بعصفور مبلل ومطرود خارج السرب، أو ربما هذا هو المصير الذي ينتظر كل من يؤمن للحظة بعدالة الحياة في توزيع مقادير الحب.
في البدء كانت الكلمة، تلك الكلمة، أليس كذلك؟
أراقب الصور التي تحاولين الظهور فيها مبتسمةً دائماً، ومن حولكِ أشجار تعدو في مكانها، وفراشات تمارس أدوارها الثانوية على أفضل ما يرام، وزهور تكاد تخرج عن النص من فرط نضارتها... مجاز
ثم تحولت أيامي الرتيبة إلى إعصار أتلف كل شيء، إلا صورة وجهكِ المتجذرة في مخيلتي.
أذكر أول مرة ركضت فيها تحت المطر كممسوس، بينما أستمع إلى تسجيلاتكِ الصوتية، قد تكون هذه صورة نمطية للعاشق، لكنني في تلك اللحظات كنت أفكر بالطريقة التي ستطفئين فيها الشمعة الأخيرة وتغادرين.
أذكر حين احتفلت الأرض بمجيئكِ، بينما كنت أطرق أبواب المدن بحثاً عن أحد يجيد كتابة اسمكِ على قلادة أو على قالب حلوى، اسمكِ الذي يبدأ دائماً بهمزة تفرّ كلما حاولتُ إمساكها.
أذكر طعم الدم في فمي، ولسعات الدمع على جلدي، ولا أذكر طعم قالب الحلوى؛ فقد أهديته لكل طفلٍ سمع عن الحب ولم يتذوقه.
يا امرأة من زئبق
لا يحب؛ من يمتلك الوقت لانتقاء المفردات عندما يحادث نصف قلبه.
لا يحب؛ من لا يتخبط بوحل الرهبة، بمجرد أن يدنو نصف قمر من سمائه.
لا يحب؛ من يستطيع التفريق بين المنطق والوهم. وها أنا الآن حاضر على معركة مشتعلة في داخلي، بين أن أكتب إليكِ أو أن أتوقف عند هذا السطر وأمضي في حال حزني.
أنا الوحيد الذي يلتقط حزنكِ من جميع المشاهد
لا أدري، هل أطلق على تلك الشهور اسم ابتسامة أم سكين؟ قد تكون كلا التسميتين صالحتين، فهكذا هو الحب يستفيق على هيئة قبلة رطبة ويغفو كرصاصة يابسةٍ في منتصف القلب.
لم أكن أرغب بلمسة يدٍ تحيل قلبي طائراً ممسوساً بداء البهجة.
لم أرغب أن تقطعي الكون مشياً على قلبكِ، ولا على قدميكِ الصغيرتين؛ كي تقدمي لهذا المحاصر بين خريفين رائحتكِ على طبقٍ من ربيع.
لم أحلم بحب يتحدث عنه الشعراء في قصائدهم، والمجانين في نوبات صرعهم، والعمال في أوقات استراحتهم، والمشاهدون في لحظات الفاصل الإعلاني. لا،
لم أنتظر رسالة صباحية تطرق قرنيتي الهرمة، ولا فنجان قهوة برفقتكِ (في حته بعيدة).
لا أريد الآن أن تشفقي على يديّ الخاليتين من الحيلة، ولا على أذني الواقفة منذ الأزل خلف جداركِ الافتراضي؛ تنتظر نضوج كلمة "اشتقتلك" وسقوطها عن شجرة الكرز. أعلم أنها لن تنضج، ولن تسقط، لكنني مجبرٌ الآن على البكاء كأي كلب يلعق جراحه.
يا امرأة من زئبق. لا يحب؛ من يمتلك الوقت لانتقاء المفردات عندما يحادث نصف قلبه. لا يحب؛ من لا يتخبط بوحل الرهبة، بمجرد أن يدنو نصف قمر من سمائه... مجاز
أتدرين؟
لم أعد أقوى على نصب الفخاخ للإيقاع بعصافير المسافة، سأدعها تموت ببطء كما في أيامها العادية، بينما سأجلس كعادتي خالياً من كل شيء أقّشر القصائد وألقمها للمارة؛ كلمة، كلمة.
خلف هذا الجدار أنتِ
وأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، أتلاحظين معي؟ حتى أرضنا العظيمة تحتاج شيئاً تلهث حوله؛ لذا لا تشعري بالسخط كلما تتبعتكِ كقطٍ جائع.
لدي الآن متسع لكتابة كثير من هذا الهراء، وللموت مثل شاعر أخرق؛ كأن أتجرع شريط حبوب الاكتئاب المركون أعلى الخزانة دفعةً واحدة، بعد أن أكتب رسالة خرقاء أرثي فيها جثتي وأشتم عبثية الحياة وأتذمر، لكنني لن أفعلها اليوم، فما زال في قلبي مساحة عشبية للعبة الحب.
البارحة أيضاً، حين أرسلت إليكِ جزءاً من هذه الكلمات؛ لم أنتظر منكِ أن تسفحي رقبة السوء الذي وجد متسعاً له بيننا، لأنني علمت أنكِ أتلفتِ قوارب العودة، وأحرقتِ كل ما يمت إليّ بصلة.
بصراحة؛ لم يعد الأمر مهماً، فالأيام كفيلة بترميم أيّ كيان متصدع.
ولن أكابر الآن بالقول إنني عاكف على إصلاح ما خلفه غيابكِ، فقد أسلمت نفسي للحزن بكامل أهليتي وجنوني، وأظن أن هذا الفعل سيضمر هو الآخر مع مرور الأيام، أو ربما سيتبدّد بفعل ضربة مباغتة تغير مجرى حياتي البائسة.
ها أنا أستمر في الكتابة وبمراقبتكِ، أراقب الصور التي تحاولين الظهور فيها مبتسمةً دائماً، ومن حولكِ أشجار تعدو في مكانها، وفراشات تمارس أدوارها الثانوية على أفضل ما يرام، وزهور تكاد تخرج عن النص من فرط نضارتها.
قد يكون المشهد سعيداً في رأي العابرين، أنا الوحيد الذي يلتقط حزنكِ من جميع المشاهد.
هامش
لا تفكري فيما كتبت، فقط حاولي أن تحشري قلبكِ الآن في إحدى الزوايا؛ من المؤكد أنه سيعضكِ وستتألمين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...