شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن الحب الذي يتجمّع كبركة صغيرة (1)

عن الحب الذي يتجمّع كبركة صغيرة (1)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 15 أبريل 202312:33 م

نوستالجيا خفيفة


 "الرواية هي قصة غالباً ما تكون عن الحب"، لا أذكر أين قرأتُ هذه الجُملة للمرة الأولى، لكنها التصقت في رأسي من وقتها. سقط اسم الذي قالها من دفاتري، وكذلك المكان الذي قرأتها فيه، وبقيت هي نابضة في الذاكرة؛ يختلف هذا التعبير قليلاً مع التعبير الذي حفظناه في المرحلة الثانوية، ففيها أخبرونا أن الرواية هي شكل من أشكال القصة ولكن بخصائص فنية مميزة. لا يمكنني مهاجمة التعريف الثاني، لكنه وبكل تأكيد ليس ساحراً ولا مدهشاً كالتعبير الأول، أليست هذه النقطة بالتحديد هي التي تُحدّد الفن؟ أليس هو الشيء الذي نتوقف أمامه فجأةً لأنه مُدهش ويستغرق وقتاً حتى نستوعبه؟

على كل حال لا أحب مناهج الوزارة خصوصاً تلك التي تخص اللغة العربية، بل أتذكر أني كنتُ أُشاكس اللغة بطريقة غير التي يفعلها معلم العربية، والتي يُلقنها لزملائي بعد ذلك، وبسبب هذا بالذات، ترددتُ في المرحلة الثانوية على تسعة معلمين، وذلك قبل أن أُقرّر أني سأترك هذه المسـألة بالكامل، وسأذاكر مع نفسي بما أفهمه أنا.

أتذكر في أحد المرات ذهبتُ لمُدرسٍ جديد وكان في هذه الحصة يشرح النص الشعري الرقيق الذي كتبه أحمد شوقي:

اختلافُ النَّهارِ واللَّيْلِ يُنْـسِي/ اِذْكُرَا لي الصِّبَا وأَيَّامَ أُنْسـِي

وَصِفا لِي مُلاوَةً مِنْ شَـبابٍ/ صُوِّرَتْ مِنْ تَصَوُّراتٍ وَمَـسِّ

عَصَفَتْ كالصَّبَا اللَّعُوبِ ومَرَّتْ/ سِنـــَةً حُلْوَةً ولَذَّةَ خـلْسِ

كنتُ متحمساً كثيراً لهذا النص، لكن ليتني لم أكن، فقد تفاجأت بأن المُدرس بدأ بتنغيم الكلمات، وقولها على طريقة المهرجانات المصرية الشعبية، وبعد لحظات بدأ يصفق هو والتلاميذ، بل ويرقص في بعض الأحيان. قرّرتُ وقتها أني لن أعود إلى هذا المكان ثانيةً، لا أريد أن أحفظ النص بطريقة بهلوانية، أريد أن أحترمه. ذهبتُ بعده إلى مُعلمٍ آخر، وكان يشرح وقتها نص "من أنتِ يا نفسي" للشاعر ميخائيل نعيمة، في نهاية هذا النص بدأ المُعلم بإلقاء مواعظ دينية علينا، وذلك لأن الشاعر في نهاية النص قد وصل يقيناً لحقيقة نفسه في الكون، أما أنا فقد رأيتُ أن الكاتب قد أنهى قصيدته بعلامةِ تعجُب لأنه تائه في نهاية النص مثل بدايته، لكن المُعلم لم يفهم ما أقوله.

المُهم أني تركت الوزارة وعقلها، وقررتُ أن أُلقي نفسي في أيدي عالم أكثر رحابة. قرّرت أن أعرف للمعرفة، وأن أتوقف عن الحفظ البليد حتى يكتب لي أحدهم رقماً كبيراً على ورقة الامتحان.

أغرق في شباك هذه الجملة "الرواية هي قصة غالباً ما تكون عن الحب". كانت تسحبني ببطء إلى الأسفل، كشمس تشرق،  كلما تقدم الوقت زاد نورها واتضح وأصبح إنكاره غباء... مجاز

مرت الأيام، وأنا أغرق في شباك هذه الجملة "الرواية هي قصة غالباً ما تكون عن الحب". كانت تسحبني ببطء إلى الأسفل، كشمسٍ تشرق كلما تقدم الوقت زاد نورها واتضح وأصبح إنكاره غباءً، الحب هو المحرك لكل شيء، وسواء كان هذا التحرّك يحدث بسبب أن الحب روح ملائكية مفارقة ألقتها الآلهة على عالمنا، أم أن الأمر يحدث لأن البيولوجية تريد زيادة النسل، ومن هنا وضعت الحب قناعاً، كطريقة خبيثة توقع بها بين البشر، لكنها ستضمن أن الحمض النووي ينتقل ويتكاثر.

سواء كان الحب هذا أو ذاك، أو شيء ثالث عقلنا لا يستوعبه بعد، ويستحيل قراءته مهما ظهر واتضح وكشفت صفحاته عن نفسها؛ الحكاية التي سأحكيها سأتتبع فيها الحب في حياتي من بداياتها محاولاً أن تكون أغلب الرواية عن الحب، بالطبع يصعب أن أتذكر تفاصيل حياتي بالدقة التي أريدُها، لكن بعض الذكريات، كالجملة الافتتاحية لهذه الرواية، تظل عالقة، ومهمة مرت عليها الرياح والأتربة تكون رياح النسج التي مرت على أطلال امرؤ القيس، رياح تهب من الشمال لتطمس ذكرى معينة فتهب رياح أخرى جنوبية لتذهب برمال الرياح الشمالية وفعالها، وتبقى في النهاية الذكرى كما هي، نعم يتكالب عليها الدهر لكنها تكالبت متضادة وفي اتجاهات مختلفة وبعد مرور سنوات نجد أن هناك ذكريات نجت من كل الاختبارات، والذكرى الأقوى والأكثر مرونة دائماً تبقى، ومن قوتها نستشف بعض التفاصيل حولها وهذا كل ما نحتاجه لتذكر قصة معينة والتحدث عنها من بدايتها حتى نهايتها.

من السهل أن أتحدث عن الحب في حياتي الآن أو كما أعرفه الآن لكن محاولة تتبع خيوط الحب في الماضي السحيق والقفز فوق الخيوط المبتورة والجسور المُهشمة حتى نصل إلى لُب ما نريد وجوهر ما نشاء، هذا ما أعتبره تحدياً بحق.

*****

أول ما أتذكره من الحب في حياتي عجيب، في الحقيقة قبل الشروع في كتابة هذه التجارب كنت أتعامل مع هذه القصة على أنها سرّ لا أحكيه إلا إلى أقرب المقربين، لكني نويتُ أن أكتب على كل حال، والعالم بأكمله يكون للكاتب من أقرب المقربين لحظة الكتابة؛ رغم مرور أكثر من سبعة عشر عاماً إلا أني ما زلت أذكر المكان بدقة، فقصة حبي الأولى كانت في الروضة، ولا أتذكر المكان بدقة لأنه عالق في الذاكرة أيضاً بل لأني ما زلت أسكن قريباً منه، كانت الحضانة التي تعلمتُ فيها تُسمى حضانة "الشروق"، وهي عبارة عن أربع غرف وطرقة في منتصفها مرحاض. كانت ميرفت صاحبة الحضانة، وميرفت هو الاسم الدراج لأي مسؤولة في ذلك الوقت، على الأغلبِ أن اسم ميرفت في بداية الألفينات كان من شروط الوظيفة؛ المهم كانت الحضانة بها عدة معلمات واثنتان من المساعدات في إدارة شؤون الحضانة أو كما كنا نطلق عليهم "دادة".

في هذا الوقت المبكر كنت بدأت بالانجذاب لزميلة لي لا أتذكر اسمها مهما جاهدت نفسي وشحذت ذكريات الطفولة عسى أن تقع من محيط أحد الذكريات، أو تظهر كجرم صغير في فلك ضخم، والحقيقة أني ما كنت لأستعمل الاسم الحقيقي حتى في حالة ظهوره، فكل أسماء الفتيات في هذه الرواية ستكون مزيفة، عدا ميرفت بالطبع.

في هذا الوقت شعرت للمرة الأولى أني أرغب في أن أقترب من فتاة، أن أشارك أحدهم وأراه، أن ألمسه وأرى هل يشبهني أم أن كل إنسان فريد مميز لا يشبهه أحد، وكنت بالفعل أقترب من هذه الفتاة لكن بالشكل الخاطئ.

كانت مشكلتي تبدأ مع حبيبتي التي لم تتم الخمس أو الست سنوات بعد خروجنا من باب الحضانة، في ذلك الوقت كان لي صديق يسمى علاء الدين، كان معي أيضاً في الفصل نفسه.

محاولة تتبع خيوط الحب في الماضي السحيق والقفز فوق الخيوط المبتورة والجسور المُهشمة حتى نصل إلى لُب ما نريد وجوهر ما نشاء، هذا ما أعتبره تحدياً بحق... مجاز

أحياناً كان يخرج معي من الحضانة ونسير إلى المنزل، وأحياناً أخرى كنت أفترق عنه، في أوقات الافتراق هذه كنت أذهب خلف الفتاة؛ كان بيتها يبعد عن الحضانة بثلاثة شوارع تقريباً، كنت أسير خلفها حتى أصل إلى بيتها وبسرعة أقوم بضربها، لا أتحدث عن ضرب مُبرّح. كان الأمر أقل حدة من خيال تارانتينو.

المشكلة في هذه الضربات أنها كانت تشعرني أن الفتاة أصبحت أقرب لي، بمعنى أخرى كنت أودّ لو تكون الفتاة قريبة لي وأكون أنا قريباً منها لم أكن قادراً وقتها على تحليل هذه المشاعر وفهمها، كان الأمر مجرد كتلة مختلطة غير مفهومة من المشاعر، كانت الفوضى تختلج صدري، ولا أتحدث هنا مجازياً، لذلك كانت لحظات الضرب هذه هي أكثر اللحظات التي أشعر فيها أني قريب منها. أنا ولد وهي فتاة ولا يفصل بيننا سوى بضع سنتيمترات. إنه الحلم، ولا يهم كم الغباء الذي كان يحدث في هذه السنتيمترات، لكن أعتقد أن ما يبرر لي أمر مثل هذا أن عمري حينها كان خمس سنوات.

الآن وبعد أن مرت سنوات كثيرة واقتربت على إنهاء ربع قرن في هذه الحياة الرمادية اكتشفت أن معظم الرجال في وطننا العربي هم هذا الطفل الذي لم يتجاوز الخمس سنوات، يذهبون للمساجد وللدروس الدينية، يحرمون المرأة والحب، ثم يقعون في شباكهم بالقوة، يرغبون في أن يكونوا قريبين من المرأة لا يفصلهم إلا بضع سنتيمترات، ولا يهمهم بعد ذلك ما يحدث في هذه المسافة، هل يتبادلون الحب والكلام كمحادثة يصوغها جبران خليل جبران، أم يتبادلون الجسد كمشهد يخرجه جاسبار نوي، أم يضربون ويفتعلون المشاكل كطفل لم يتجاوز الخامسة؟

في معظم الحالات يسود الاختيار الأخير، ولو حدث تبادل للحب لا يقدم بشكلٍ جيد. يمكن اعتبار أنه اسوأ فيلم أخرجه السبكي؛ والمثير للسخرية أن هذه القصة الوحيدة التي يمكنني فيها عقد مقارنة سليمة مع عقل الرجل الشرقي الحالي، فبعد هذه القصة سأقفز حوالي سبع سنوات، أما عقلنا الجماعي فتوقف عند الخامسة لفتى أحمق.

*****

هكذا أتذكر تفاصيل قصة الحب الأولى، والتي كانت لتستمر لولا أن والدة الفتاة ظهرت في أحد الأيام، بعد أن رأتني من النافذة وأنا أتسبّب في بكاء ابنتها، وعلى هذا جاءت الأم في اليوم التالي إلى ميرفت وأخبرتها ما رأت، أما أنا فقد فهمتُ ما يحدث من بعيد، وتمنيت لو تبتلعني الأرض، أو أتبدّد بين ذرات الرياح، لكني لم أتبدّد ولم أختف، بل سمعت ميرفت تنادي عليَّ. وعلمتُ أنها ساعة العقاب، أخرجتني ميرفت من الفصل، وقامت بشد أذني بقسوة، قامت بمضغها بين أصابعها، وفرقعتها، كأنها مفاصل العظام محملة بالهواء، وحذرتني من الاقتراب من الفتاة مرةً أخرى.

كانت لميرفت شخصية قوية، ويد ضخمة تهرس بها الأذن وتقضي عليها، ولهذا كان من الصعب أن أردّ لها كلمة، أو أن أخاطر لأجرب حظي معها. ومع هذا لم أضيع الكثير من الوقت لأنسى حبيبتي التي فصلت ميرفت بيننا، ففي هذا الوقت كان العالم يفتح لي باباً جديداً للمغامرة، وكان صاحب مُفتاح هذا الباب، ومُرشدي الأول خلال هذه المُغامرة هو صديقي علاء الدين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image