حياكة الكلام
في أوقات، محددة، قصيرة ومختزلة، تمتد فيها هدنة إطلاق الرصاص، يكون عليك كمراهق رافض حمل السلاح أن تربي الخيال داخلك قدر المستطاع؛ لتبتكر ما يعينك على قضاء الوقت وقتله؛ فالحرب، أي حرب، لا تتيح الفرصة عند اندلاعها لأن تخرج سيراً بين الحقول، ملتذذاً بهدوء كائنات رخوة تصدر تنغيماتها المتتالية، المنتظمة، الرنانة، أو بعيدان القمح، الذرة والفول تحيط الامتداد الشاسع حولك، أو أن تداعب الجواميس المنطلقة في الأحراش، أو أن تبحث ضمن سعيك لبناء وقت مفعم ببعض النشوة عن فتاة خلاسية، توهمها بإعجابك، لتنال معها مداعبة سريعة، غير مكتملة حفظاً لحياتكما، حياة يمكن أن يهددها قطف وردتها.
في الحرب يمكنك متابعة الأخبار، أو ألا تأبه مطلقاً لما يدور، تبقى تراقب نمو شعر العانة والإبطين، يوماً وراء يوم، أو ممارسة العادة السرية حد العنة الكاذبة بمتابعة أفلام البورنو على المحطات الفرنسية المتخصصة، أو أن تلتذ بالحل الأمثل؛ النوم هرباً.
تقرأ إن كنت من أولئك النهمين على المطالعة، حينما تهدأ فرقعات الصواريخ، وأحياناً يكون التدوين عن الحرب، كذلك، مناسباً؛ تختصر النشاطات الإنسانية فيما يمكن القيام به جلوساً، وهو ما استطعت معه الحياة أثناء الحرب على شط العرب.
*****
استقبلت، على ما أذكر، خبر وقف إطلاق النار من عاهرة اتفقتُ معها على المبيت ليومين في بيت العرائس، كانت الخيمة قد اشتهرت ككرخانة،؛ بيت العرائس الذي لم يكن أكثر من خرقات بالية، انتصبت على عيدان خشبية، فُرَش أرضية منزلية، أغطية حمير، أعشاب حقل وقطع من بوص سميك ينبت على مجرى الفرات قبل أن يتخذ طريقه صعوداً. لم يزرها أي من الأهل؛ إذ يرونها خيمة ممسوسة من الجن، جمعت فيها ألعاب الطفولة، الدحل، عرائس من القطن علقتها عند الباب. تظهر، مساء، كعفاريت يقلبها الهواء. لم أقو يومها على المضاجعة، إذ خرجت إلى الشارع نصف عار، أهذي، فرحاً بانتهاء حرب، اختطفت ما يقرب العقد من تاريخي.
في الفترة التي تلت وقف إطلاق النار، عاد الناس لممارسة مللهم الدؤوب وعادتهم القديمة: سرقة، عراك، ذم واغتيال، وكان خطُّ شيبٍ قد رُسم في الجانب الأيمن لرأسي، إلا أنه لم يوقف أبداً هواي في معاشرة الصغيرات، الأبكار، النافرات من رواد متاجر الدعارة، ولم يحل دون استكمال مشروعي الثوري: شهد العام الذي سقط فيه الاتحاد السوفيتي نَشْر أول كتاب يحمل توقيع خضير زيتون، يحوي سبعاً وثلاثين قصيدة متحللة من ضوابط الشعر القديم ومن شكل القصيدة المعهود.
لم تتوطد صداقة مع أبناء جيل عشته. تراكمت الوحدة لتؤكد شعور العزلة، وحدة تتأصل كعزلة. لا أنكر ولعي بالمومسات، النساء الصعيبات، الحزينات حد الإثارة، تعدّدت واتسعت دائرة اهتمامي بهن، حتى إن علاقة مع إحداهن كادت تتطور لزواج لم يكتمل. تراجعت، جبنت؛ جرحها ذلك -أعرف- حتى أنها لم تعد تداوم على عملها؛ إدمان استبدال النساء والتذوق من حسنهن منعني البقاء لها، هكذا علّلتُ للتعافي من أثر الذنب.
فيما بعد، كان لزهوان، دور هي الأخرى، في اعتياد حياة المدينة (تعارفنا أمام فاترينة سعيد الكرار، كانت تختار قطعة معدنية مزيفة من نحاس معتم لعملة قديمة تعود للدولة السومرية، أبهرتها دقة نقوشها، لكن لاختلافهم على الثمن؛ دفعته كاملاً قبل مغادرتها، أهديتها القطعة كتذكار، صرنا صديقين وامتدت العلاقة فيما بعد لوله صاحبه مشاركة الفراش مرات) إذ لم يكن من السهل العيش دون العبث بفُتحة إحداهن، تحولت العلاقة معها إلى عَقْدٍ مُعلَنٍ بنوده، إذ تصحبني لمنزل ورثته عن أبيها مؤخراً.
في الحرب يمكنك متابعة الأخبار، أو ألا تأبه مطلقاً لما يدور، تبقى تراقب نمو شعر العانة والإبطين، يوماً وراء يوم، أو ممارسة العادة السرية حد العنة الكاذبة بمتابعة أفلام البورنو، أو أن تلتذ بالحل الأمثل؛ النوم هرباً... مجاز
وقتها، كان قراري (أو لتحري الدقة والصدق) أو لنقل ما فُرِضَ كجزء من العلاج المقترح؛ التوقف عن استبدال النساء كل ليلة، فقد أُنهكتُ من التودّد للساقطات، لم تكن زهوان منهن رغم علمي التام كونها لا تخصّني وحدي، وأني معها بالمشاركة مع رجلين أخريين في زمن ومكانين آخرين.
لا أعرف على وجه الدقة كيف ومتى تبدلت تصرفاتي! وتغيرت بعض الثوابت؛ قال المعالج الشاب في "الشماعية" إنه يعمل لعلاج شوائب تزاوج بين العزلة والرهاب، أدت لاستبدال القناعات الراسخة في الذهن المنقضي بترك عزلة إلى أخرى، كي أصير نهاية كائناً يحب عزلته.
*****
شكلت حجرتي (37b) بالطابق السادس من المصحّ (أول ما شكلت) على هيئة قريبة من بيت العرائس؛ كيلا تزداد أعراض الغربة في التداعي، ساعدني ذلك في اعتياد العيش دون قلق أو ارتباك (بادئ الأمر)؛ فقط، الفراش على أرضية الغرفة، كتب قليلة منتقاة، على بعض حبال متشابكة تتداخل فيما بينها عرائس قطنية أعدت حياكتها يدوياً، بالكاد ليشبه الواقع الجديد، خيمة الخوص.
"باعوا العراق، أولاد القحبة باعونا وقبضوا الثمن، يلعن دين سماهم، يلعن هادول القحاب، باعوا العرض بالبخس وهربوا"
"باعوا العراق، أولاد القحبة باعونا وقبضوا الثمن، يلعن دين سماهم، يلعن هادول القحاب، باعوا العرض بالبخس وهربوا"، ظلت تتردد الجملة، دون توقف، في كل خطوة، وبآخر صوتي المتحشرج، المبحوح، المتلاشي وسط هنات الجموع، في وسط العاصمة المضببة من أثر الانفجارات. انفجارات تستمر كلما تباعدنا عن محيط وسط المدينة، فيما نشهد النهاية؛ إذ أُعلن في عصر التاسع من نيسان سقوط العاصمة بغداد، واختفاء قيادات البعث من القصور والوزارات، بالتزامن مع اختفاء الحرس الجمهوري بعدما كان يُقال عن معارك طاحنة حول المطار.
تومي فرانكس أعلن الحقيقة، في الرابع عشر من نيسان على شاشة CNN: اكتشفت دفاعات بغداد الوهمية، قرّرت الهجوم دون انتظار. حارب الأمريكان الوهم ليلتين، وفي الثالثة اكتشفوا الدمى والمجسمات، ابتلعوا خدعة الدفاعات الوهمية، في الأثناء كان رجال البعث يختفون ويحصّنون أنفسهم؛ أبلغت المخابرات الروسية حلفاءها نهار الثامن من نيسان أن بغداد بلا دفاعات، لم يستغرق الوقت أكثر من ساعات.
*****
قد يتوقف الزمن فجأة عن السيلان، يمكن للبعض، لحظتها، اختزال المستقبل وتكثيفه كنقطة مظلمة؛ فيما تقودهم أقدامهم إلى ما لا هدف ولا رؤية أو طريق. تائهون خرجوا في الشوارع ليشهدوا النهاية الفجائية المباغتة. خرجت، أيضاً، مثلهم، كعادتي في الأيام الأولى للعمليات، من المصحّ قاصداً السير بطول شارع الرشيد، لكن هذه المرة لأرى جنود الاحتلال في كل الشوارع الموازية والمتعامدة.
يسبهم "سعيد الكرار"، لمحته واقفا أمام "فاترينته"؛ ويستقبل الجنود صيحاته باعتبارها رسائل ترحيب، يأخذ مخرجو التقارير الإخبارية كادرات، ومن ضمنها صورة للكرار، تُصوّر إلى العالم الساذج، ما يلاقيه جنود المارينز (المخلصون الأحرار) في شوارع عاصمة المنصور من حفاوة. على النقيض من ذلك، تبدو الحقيقة: أمريكا في عملية استعمارية حقيقية، مكتملة الأركان في أرض الشرق، بكامل عتادها.
أسير مفرّغاً من أي حس، أنظر الحطام المنتشر في كل الأرجاء، أملأ عيني بمشاهده، لا ألعن دين البعث، لا أسب جنود مرتزقة يتجولون في الأنحاء، لا تتسارع يدي بتقديم ورود لجنرالات الخلاص. أسير وسط جموع من خرجوا لاختزان صور اللحظة الحية... مجاز
*****
أسير بموازاة الخراب، متقاطعة صوره داخلي مع مشاعر العزلة، كأن روحي قاعدة لعمود هندسي ساقط من المنتصف على قاعدة هرمية لمنشور، مكوناً تصوراً جديداً لعالم السذج تحت الاحتلال. أسير مفرّغاً من أي حس، أنظر الحطام المنتشر في كل الأرجاء، أملأ عيني بمشاهده، لا ألعن دين البعث، لا أسب جنود مرتزقة يتجولون في الأنحاء، لا تتسارع يدي بتقديم ورود لجنرالات الخلاص. أسير وسط جموع من خرجوا لاختزان صور اللحظة الحية، فيما تصور الكاميرات كل الكادرات الممكنة، وربما صورة بائسة منهم قد أكون بطلها، تُعرَض الآن على الشاشات مذيلة بعبارة "الشعب الحر يلوح لمحرريه رافعاً علامات النصر".
كان الرب الأعظم قد أرسلهم فيما بين النهرين ليقيموا مملكته من حمأ مسنون، بنوا له عرشاً وأسموه إيتانا. كانوا يدبرون له الأمر باسم الرب الأعظم، آلهة الرب الصغار السبعة حاربوا الشر بالوكالة عن إيتانا، لينتصر.
أعلن العدل صفة الحكم. وضع قانوناً يزن أعمال الناس فيحاسبهم عما اقترفوا. كان الآلهة السبعة الصغار يحمون المدينة، يقفون على أبوابها؛ يمنعون من يمنعوه ويسمحون للرعايا بالخروج، ليغزوا الأرض ويرفعوا اسم الرب عالياً بأمر الملك العادل فوق الهضاب وبين الوديان، ظلوا رعياناً ناكرين للتطور والحضارة التي تتراكم كل يوم، فقط، يبحثون عن النهاية التي وعدهم بها إيتانا ولم ينتهوا عن الصلاة باسمه.
تحمل أحافير الدولة السومرية قصصاً ناقصة عن إيتانا، كنت قد تحصّلت عليها في صورة مزيفة من سعيد الكرار كهدية؛ تأكد الشرطي من كونها مقلدة للنسخة المحفوظة في متحف التاريخ القديم، قبل أن يوقع على أوراق دخول المطار وهو يدقق في اسم خضير عبد الرب حسن زيتون، المذيل به أوراق الهوية ويعيد النظر في الصورة الضوئية لجواز السفر.
*****
أحمق من يفكر أن العالم الرحب سيختاره ابناً له دون أن يدفع ثمناً جديداً من أجل أن يعترف به إنساناً بين ثنياته، تغرك الحياة بامتدادها وتصدق أن ثمة وطن جديد يمكنه أن يصير وطنك. خرافة ذلك الوطن الثاني، إذ إنه لا وطن للإنسان أبعد من محيط جسده، وكلما قل لحم كتفك كلما ضاق وطنك. تظل تجاهد في توسيعه فيما يمر عليك من الزمن؛ الزمن معضلة أركان مثلث الحياة الذي قاعدته الروح والجسد؛ فلن تجدي معه توسلاتك بأن يتحمل نفاذ عقلك لفهمه، وتبقى جهولاً لا تقدر عليه، فتطوعه ولو أجهزت عليه ينداح.
كيف يمكن لمدينة صغيرة أن تصير ملجأ لابن النخلة وحفيد التلهف؟ هل ستتسع لحلمه؟ أكتب رسالة ستصل زهوان بالتأكيد، عن ملل يصاحب وجودي على هذا النحو الصامت والخجول في بلاد لا يمكن إقامة علاقة واضحة معها، ولربما يكون من الأفضل العودة داخل خيمة بعيدة في الجنوب.
مع جنوح الطقس للبرودة، إظلام السماء بغيمة تغطي مساحة الرؤية المتاحة، يشي الجو للناظر بسقوط مطر كثيف؛ إنارة المصابيح في الشارع أسفل الشرفة تتالت، أكتب: "كنا في السابق نعتقد أننا نعيش ضمن منظومة مسيرة في درب ليس لنا خيار في تغييره، بعد ذلك اكتشفنا أننا في وهم، وأن تلك المنظومة ما هي غير محض حياة تخيلية نعيشها كتشبيه مجمل، ينتج صورة كلية لتسارع العالم في نموه نحو النهاية المقترحة التي تلعب فيها البشرية قدراً من بؤس العيش.
فراغ قاتل يسكنني، يحاول أن يستدرجني إلى الأنا، لم أعد كما كنت سابقاً، لم يعد يربطني بهذا العالم، لا الذكريات، الرسائل، الصور، ولا الأصوات، اسمع صمته بداخلي وكأنه يُراد أن يُثبَت لي وهم وجودي كله. فيما كنت أمارس حقي في العيش كما يحلو لي؛ أبحث عن أحدهم ليشاركني نشاطاتي اليومية المملة؛ نمضي معاً، نتحدث، نكمل اليوم بسخافات ثم نعود أدراجنا.
تباً، لم أعد أعرف ما يرضيني، ألفظ ما تجرعته من تفاصيل اليوم وأتيه. تباً لهذا الهدوء اللعين بداخلي؛ إذ أشعر أن كل العابرين لا يعنون لي شيئاً، أجساد باهتة، وضحكات مصطنعة ملوثة بدخان عوادم الماكينات، يحاولون المداراة خلف أقنعة في النهار، لكنه ويأتي المساء فيكشف لي عن سوءتهم، ألقي نظرة من نافذة العالم على السجن الذي يحوينا، فلا أرى سوى انخراط البشر المساكين في الحياة كورطة لا مفرّ منها. تمر لحظات، أكاد أجن فيها من الصمت المقيم، أحاول أن أصنع صداقة معه، وأتمنى أن تبصقني الأرض بعد أن تصاب بغثيان الدوران حول نفسها، أو أن أعود مثلاً، إلى القرون الأولى لأخبرهم عن عالم بلا لون وأشخاص لا يشبهونني، تركوني وسطهم ورحلوا بزمانهم دون تنبيه بأن ثمة حياة خانقة سأعيشها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...