يتتبع كل من أحمد بهاء الدين، في مدوّنته "محاوراتي مع السادات"، ومحمد حسنين هيكل، في "خريف الغضب"، أنور السادات وسياساته بعد اعتلائه السلطة. ورغم التشابه الكبير بين ما يطرحه الكاتبان عن الرئيس المصري الأسبق في تلك المرحلة من حياته، إلا أن بهاء الدين يحافظ على مقدرة تفسيرية عالية، بينما لا يحيد هيكل عن خط للإدانة امتد على طول مدونته.
بعد نسختي الشاب المغامر و"الضابط الحر" وعضو مجلس قيادة ثورة يوليو 1952، تأتي النسخة الثالثة من السادات، وهي نسخة "الرئيس"، في مدونة بهاء الدين، وقد تراجعت قدراته وتبددت مزاياه لصالح سمات نفسية غلبت عليه، وظهرت من خلال تغيّر علاقاته بمحيطه وبالسلطة، إلخ.
اقرأوا: بين مدوّنتين... هوية واحدة أم هويات متعددة للسادات؟ (1)
يتحدث بهاء الدين عن ملمح مهم يغفله هيكل في كتابه، وهو أن الناس كانوا مهيئين لما بشّر به الرئيس الراحل خلال فترة حكمه، بل ربما رغبوا فيه بعدما استنزفتهم مغامرات جمال عبد الناصر، متمثلة في حرب اليمن ثم هزيمة 67 واحتلال كامل سيناء، عدا انهيار مشروع الوحدة مع سوريا.
حتى النجاح الأهم للحقبة الناصرية، متمثلاً في بناء قاعدة صناعية كبيرة، لم يحقق للشعب، رغم تحمله الكثير من التضحيات في سبيله، رخاءً كثرت وعوده، بسبب توجيه الجزء الأكبر من عوائد الصناعة إلى المجهود الحربي. وبجانب ذلك، كانت الرغبة في الديمقراطية وإطلاق الحريات تراود المجتمع المصري بعد عهد طويل من الديكتاتورية. باختصار، كان الناس مهيئين لطي تلك الصفحة من تاريخهم.
تغيّر السادات... النسخة الثالثة
تحوّل الرجل الذي يصفه بهاء الدين بأنه أكثر مَن عرفهم ضبطاً لمشاعره وقدرة على إخفاء ما يعتمل في داخله إلى شخص متقلب المزاج، غضوب، يذهب بانفعاله إلى حد مخيف.
ومن الوقائع التي ذكرها الكاتب في هذا الصدد، حديث للسادات أسرّ به إليه عن نيته إصدار قانون ضد المعارضة، إثر انتفاضة 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1977، التي ثار فيها المصريون رفضاً لرفع أسعار السلع الأساسية في ما عُرف بـ"انتفاضة الخبز". يصف بهاء الدين مشروع القانون بأنه "مكارثي" و"فاشيستي"، سيعود بالبلد "رجعة هائلة إلى الوراء". ورغم أن المشروع لم يرَ النور، إلا أن بهاء الدين يستدرك أن بعض مضامينه تسرب في ما بعد إلى "قانون العيب" الذي صدر عام 1980 مجرّماً كل مَن ارتكب أمراً "ينطوي على إنكار الشرائع السماوية" أو يدعو إلى "عدم الولاء للوطن".
يرصد بهاء الدين بعد ذلك تغييراً طال رؤى للسادات وسياساته، ليؤكد بذلك فكرة أنها جاءت في سياق الاستجابة لعصر بدأت معالم التغيير فيه تتضح أكثر فأكثر.
في هذا الخصوص، يذكر بهاء الدين أن السادات، بعد زيارته للقدس، ردد كثيراً في أحاديثه وخطاباته، أنه بذهابه إلى إسرائيل نجح في "كسر الحاجز النفسي"، ويذكر أنه شاكسه خلال أحد نقاشاتهما فذكره بأنه كان سباقاً له بعشر سنوات (1965)، من خلال كتاب أصدره وقتها تحت عنوان "إسرائيليات" جاء فيه أن "الحل لن يكون عسكرياً فقط.. وسوف تمر فترات قتال وفترات سكون لزمن طويل، أطول مما نتصور، قبل حسم الصراع، يسبقها تقدم حضاري لا بد منه في العالم العربي، حتى يكون على مستوى أي مواجهة هي في النهاية مواجهة حضارية.. وإلى ذلك الوقت ليس المهم غزو إسرائيل عسكرياً، ولكن إقامة نوع من ‘الوضع المتجمد’ نحاول خلاله إقامة الحد الأدنى من التوازن الحضاري والاستراتيجي المشار إليه" (بهاء الدين، ص. 153). وكان السادات ممن ناقشوه عندئذ "مناقشة عنيفة رافضين هذا المنطق ومستنكرين له".
إذن، شمل التغير الذي ألمّ بشخصية السادات آراءه بخصوص قضايا مهمة، وتبعاً لذلك يرصد القارئ على امتداد مدونة بهاء الدين تعرجات ومنحنيات تتجاذب الرئيس المصري الراحل.
أما هيكل، فيحافظ، خلال تناوله لشخصية السادات، على خط مستقيم خالٍ من أي تعرجات، يمدّه الكاتب من الطفولة وحتى النهاية، ويحكم بشكل نهائي شخصية السادات وتكوينه، خط لا صلة له برواسب هزيمة المشروع الناصري وبالتحولات الإقليمية والدولية، بل يتصل فقط بشخصية السادات وطبيعته النفسية.
ويستعرض هيكل هذا المعنى في مواضع كثيرة، منها قوله: "كانت قرارات ‘السادات’ دائماً ما تجيء نتيجة حسابات طويلة، وإنْ كانت هذه الحسابات تدور وتجري وتصل إلى نتائجها داخل شخصيته الخاصة والعوامل التي كونتها، ولم يكن هناك مجال تأثر بحسابات ‘السادات’ـ على طريقته الخاصةـ أكثر من مجال السياسة الخارجية والتوجيه الجديد الذي أعطاه لها" (هيكل، ص. 142).
يتحدث أحمد بهاء الدين عن ملمح مهم يغفله محمد حسنين هيكل، وهو أن الناس كانوا مهيئين لما بشّر به الرئيس المصري الراحل أنور السادات خلال فترة حكمه، بل ربما رغبوا فيه بعدما استنزفتهم مغامرات جمال عبد الناصر
وفي موضع آخر، يكتب هيكل: "راح (السادات) يجترّ كل الصور وكل الكلمات التي نُقلت إليه، ومن بينها ما نقله (مستشاره) حسن التهامي عن (وزير الدفاع الإسرائيلي موشي) ديان الذي قال له حينما التقيا في المغرب أن العامل النفسي هو وحده العقبة الحقيقية التي تعترض سبيل الاتفاق... وإذا كانت المسألة مسألة الحاجز النفسي واجتيازه، فتلك هي لعبته (السادات) المفضلة... كانت الفكرة (رحلة القدس) ملائمة للسادات من كل الوجوه، وكانت قدرتها على الاستجابة لكل النزعات المكبوتة في خياله حافلة بالاحتمالات. العالم كله سوف يصعق من المفاجأة، الدنيا كلها سوف تركز أنظارها عليه، الصحف والإذاعات والتلفزيون لن يكون لها موضوع غيره، وعندما يفيق الكل من الصدمةـ بمَن فيهم العرب ـ يكون هو قد اجتاز الحاجز النفسي وحقق النتائج المرجوة، وعاد بها وفي يده حجة حاسمة تصفع فجأة كل ناقديه الذين سوف يجدون أنفسهم في العراء تماماً، بينما هو قد تمكن بضربة جسورة واحدة من أن يحقق الحل الذي عجز العرب ـ بالسلاح والسياسةـ عن تحقيقه لعشرات السنين" (هيكل، ص. 142).
غواية الكاميرات ولكن...
إذن يقتصر هيكل على الجانب النفسي أو الداخلي في تفسيره لما قام به السادات، بينما يشرف بهاء الدين على الجانب الخارجي متمثلاً في مظاهر ضعف الرئيس المصري الأسبق أمام إغواء كاميرات الصحافة والإعلام العالميين وتعلقه البالغ بأمنيات نثرها الأمريكيون حول عملية السلام، لكنّه، بخلاف هيكل، لا يقف عند عامل السمات النفسية، بل يشد أواصر هذا العامل بعوامل أخرى رأى أنها ساهمت في تحريض السادات على مغامرة القدس.
من هذه العوامل رسائل أرسلها الإسرائيليون إلى جمال عبد الناصر مفادها أن الروس لن يمنحوه سلاحاً يتفوق به على السلاح الأمريكي، وأن أمريكا لم تعد قادرة على الضغط على إسرائيل مثلما يظن، وأن لا أحد من القوتين العظميين له مصلحة في إقرار السلام، وأن كلا القوتين تحاول استعمال مصر وإسرائيل لخدمة مصالحهما، ولذلك على عبد الناصر أن يجرب التفاهم المباشر مع إسرائيل دون وسيط، فشكوكه في نوايا روسيا لا تقل عن شكوك إسرائيل تجاه أمريكا. ويفترض بهاء الدين أن تلك الرسائل لا شك وصل مثلها إلى السادات.
كذلك نوه الصحافي الكبير، نقلاً عن السادات، إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن عمد إلى تجميد الوضع عقب فك الاشتباك الثاني بين القوات المصرية والإسرائيلية، بعيد عبور قناة السويس، ولم تنجح الضغوط الأمريكية في حلحلة الموقف، ولا الاتصالات السرية التي أجراها السادات بشخصيات دولية وسيطة مثل: الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، والمستشار النمساوي برونو كرايسكي، والرئيس الروماني نيكولاي شاوشيسكو. لهذا فكر السادات في نقل الضغط بشكل مباشر على بيغن: "يوضح ذلك ما كتبه ورواه (السادات) وتحقق رسمياً من أنه اقترح قبل ذلك عقد قمة رؤساء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن في القدس، ولكن أمريكا لم توافق على الاقتراح" (بهاء الدين، ص. 149).
في حين نظر الكاتب أحمد بهاء الدين إلى مظاهر الحكم الفردي في عهد أنور السادات بوصفها أمراً موروثاً عن عهد عبد الناصر، يتعامل محمد حسنين هيكل معها وكأنها مستحدثة في عهد السادات
وفق كل ذلك، يخلص بهاء الدين إلى أن السادات كان "يتمنى بلا شك أن يحصل لمصر والعرب على أقصى ما يستطيع، ولكنه على ضوء توالي الأحداث ورؤيته للأمور، واختياره الأمريكي النهائي الاستراتيجي، كان مستعداً لأن يحصل على الحد الأدنى وهو استرداد سيناء، فقد علّمته مظاهرات الخبز (انتفاضة 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1977) أنه بغير ذلك لا يستطيع أن يستمر في حكم مصر وكان مستعداً لأن يحصل إذا اقتضى الأمر على سيناء من خلال حل منفرد مهما كان الثمن غالياً، معتمداً على قدرته بعد ذلك في استغلال الظروف المجهولة المتغيرة" (بهاء الدين، ص. 172).
السلطوية... مستحدثة أم موروثة؟
أفسح بهاء الدين مساحة تجاهلها هيكل. ففي مفارقة غريبة، يكاد السادات يغيب تماماً عن مدونة "خريف الغضب"، رغم أنها أُفردت بكاملها للحديث عنه: فلا نراه يبدي رأياً أو يسجل ملاحظة أو يستعرض مبرراً لأمر أقره، فقط يتيح لنا هيكل أن نتعرف على الصورة الذهنية التي رسمها للرئيس الراحل، متفرغاً لإدانته، بل وكثيراً ما يخالف منطق الأمور في سبيل تحقيق ذلك.
يظهر هذا بصورة أكثر وضوحاً في تعامل كل من بهاء الدين وهيكل مع مظاهر الحكم الفردي، حيث ينظر إليها الأول بوصفها انعاكساً لنظام مستقر ورثه السادات عن عبد الناصر، ومن هنا يتوجه بنقده إلى سياسات السادات وقراراته من حيث مطابقتها للمصلحة الوطنية من عدمه، ويكتفي برصد التناقض بين ما دعا إليه الرئيس المصري الأسبق من مظاهر للديمقراطية وبين ما كان يُقدِم عليه أحياناً ويتعارض معها.
أما هيكل، فقد تعامل مع مظاهر الحكم السلطوي التي أسس لها عبد الناصر (وكان هيكل شريكه) وحكم بواسطتها قرابة العقدين، وكأنها مستحدثة في عهد السادات.
ويمكن للقارئ أن يرصد ذلك في مواضع كثيرة على امتداد "خريف الغضب"، حيث يسجل هيكل مثلاً أن السادات كان "من أنصار القول المأثور عن لويس الرابع عشر: أنا الدولة.. فأي نقد يوجَّه إليه كان تهجماً يوجه إلى مصر، وكان ذلك ينطبق على المصريين وعلى غيرهم" (هيكل، ص. 314).
يعرض الكاتب أحمد بهاء الدين منطقاً للرئيس المصري الراحل أنور السادات في ما خص مفاوضات السلام مفاده أن التفاوض لم يكن له أن يجري مثلما قاده الرئيس السوري السابق حافظ الأسد الذي ساوم كـ"بقّال يبيع أو يشتري قطعة جبن"
وفي موضع آخر، يكتب: "كان أمراً عادياً أن تصدر الصحف في ذلك الوقت وقد خصصت أكثر من نصف صفحاتها للرئيس: نشاطه وخطبه ومذكراته وسيل لا يتوقف من صوره في كل وضع. وكان ذلك هو أيضاً حال الإذاعة والتلفزيون. كلا الجهازين أصبح ميداناً مقفولاً على الرئيس" (هيكل، ص. 316).
وفي موضع ثالث نقرأ: "ربما كان من أغرب النماذج للمنطق الذي ضاعت به الحدود بين الرئيس والدولة، فأصبح الرئيس هو الدولة والدولة هي الرئيس، هو الطريقة التي تصرف بها (السادات) في كنوز الآثار المصرية القديمة وبأوامر مباشرة منه..." (هيكل، ص. 318) ليعدد هيكل إهداءات السادات من الآثار المصرية إلى رؤساء الدول وأحياناً زوجاتهم والشخصيات الدولية، وينبه إلى أن ذلك جاء بمثابة خرق للتقليد المتبع في عهد عبد الناصر باقتصار الإهداءات على الهيئات الرسمية، ومن ذلك ـ بحسب هيكل ـ إهداء عبد الناصر الرئيس الأمريكي جون كينيدي آنية أثرية تقديراً لمساهمة الولايات المتحدة في مشروع إنقاذ النوبة. ويصمت الصحافي الكبير عن أي إشارة إلى الإهداء الأكبر في تاريخ مصر الحديث، متمثلاً في إهداء أربعة معابد كاملة وبوابة معبد خامس إلى عدد من الدول الغربية الكبرى التي ساهمت ضمن خمسين دولة في ذات المشروع، وذلك بقرار من عبد الناصر.
وفي موضع رابع، يكتب هيكل: "ابتدع السادات هيئة أخرى أسماها المجلس الأعلى للصحافة... وكان تعيين رؤساء التحرير يجري بواسطة هذا المجلس، وبهذه الطريقة أصبحت الصحافة كلها في واقع الأمر ملكية كاملة للحكومة، ولقد تم إخضاع الصحافة كلها على هذا النحو بالكامل للسلطة" (هيكل، ص. 362) وكأن الصحافة أيام عبد الناصر لم "تخضع بالكامل للسلطة".
وقف هيكل كذلك، استكمالاً لتحقيق مبتغاه، على العديد من الوقائع التي تدين الرئيس الأسبق حتى على المستوى الشخصي. فبحسب هيكل، تورط السادات وأسرته بشكل واضح في الفساد الذي استشرى أثناء فترة حكمه. كما ندد الكاتب الكبير أيضاً بفوضى هيمنت على التوجهات الاقتصادية لهذا العهد، وهو نقد اتفق معه بهاء الدين، فكان صاحب التوصيف الأشهر الذي أدان تلك التوجهات، وهو "انفتاح السداح مداح".
ملف التفاوض مع إسرائيل
إلى جانب سياسات السادات الداخلية وما مال إليه من "إجراءات عنيفة" حيال المعارضة، أدان هيكل أيضاً- عبر شواهد عدة- أسلوب السادات التفاوضي مع الإسرائيليين والأمريكيين بعد حرب 73. وهنا أيضاً، يوافقه بهاء الدين في كثير مما ذهب إليه، مع التزام كل منهما بما ألزم نفسه به، فجاء سرد بهاء بغرض الفهم بينما وقف هيكل ذات الوقفة، عند عتبة الإدانة.
على سبيل المثال، في ما يخص تنازلات الرئيس الراحل أثناء مفاوضات فك الاشتباك، يعرض بهاء الدين منطقاً للسادات يقارع به منطق خصومه، مفاده أن التفاوض لم يكن له أن يجري مثلما قاده الرئيس السوري السابق حافظ الأسد الذي ساوم كـ"بقّال يبيع أو يشتري قطعة جبن" فأضاع شهوراً مهمة في المساومة "على متر من هنا وشبر من هناك"، إذ كانت وجهة نظر السادات أن "الأهم من المتر والشبر هو سرعة التقدم في المفاوضات حول الموضوع الأصلي والحديد لا يزال ساخناً بعد حرب 1973" (بهاء الدين، ص. 155) مبرراً بذلك تساهلاً أثناء المفاوضات سجّله عليه كثيرون ومنهم هيكل بالطبع.
وفي مسألة ثغرة الدفرسوار، وهي الاسم الذي أُطلَق على تطويق الإسرائيليين للجيش الثالث الميداني خلال حرب 73، يروي بهاء الدين الإفادة التالية للسادات: "جاءني هنري كيسنجر وقال لي بصراحة مباشرة: يا سيادة الرئيس نحن نعرف من التصوير الجوي أن القوات التي حشدتها حول الإسرائليين غرب القناة كافية لدفنهم جميعاً حيث هم.. أنت قادر على ذلك عسكرياً، ولكنني أبلغك أن أمريكا لن تقبل ذلك. البنتاغون يرى أنه لا يمكن السماح للسلاح السوفياتي بالانتصار على إسرائيل مرتين، مرة في عبور القناة، ومرة ثانية في القضاء على الثغرة.. لو أقدمت على الهجوم على الثغرة فسوف تحاربك أمريكا مباشرة... وأؤكد لك أنك لست المقصود من ذلك، ولكنه الاتحاد السوفياتي... لقد تلقيت إذن إنذاراً أمريكياً عسكرياً صريحاً، ولكن كيسنجر أعقبه على الفور بحديث آخر إذ قال لي: ثم إنك ماذا تريد في النهاية؟ ألا تريد أن تنسحب إسرائيل غرب القناة، وأن تبقى قواتك حيث هي شرق القناة كما كانت يوم وقف إطلاق النار.. وفك الحصار عن الجيش الثالث؟ سنحقق لك كل ذلك بالمفاوضات، وهذا تعهد أمريكي رسمي، وقد مررت بموسكو قبل حضوري وهم موافقون.. هذا ما حدث وهذا ما يلومني عليه دعاة الحرب بالميكروفونات والأحاديث" (بهاء الدين، ص. 158).
يصور بهاء الدين بعدها، وكذلك هيكل، ما بلغه السادات من إحباط وغضب نتيجة أن كثيرين لم يرغبوا في مسايرة أحلامه، لتتعالى الأصوات بالرفض، ما حدا بالسادات إلى أن يجابهها بطاقة من الغضب تفرقت في كل اتجاه.
ومع أن بهاء الدين لم يتسلح في مواجهة هذه النسخة من السادات بغير إملاءات الذاكرة، إلا أنه لم يجاوز الغاية، فكانت رؤيته رغم بساطتها أكثر تفسيرية: رجل ساقته تطلعاته إلى خلاف ما كان يتطلع إليه، وورطته حساباته في ما لم يحسب له حساباً. أما هيكل، فجاوز الغاية، إذ نسب للسادات قدرة أراد نفيها عنه، فـ"الشخصية الباهتة المجهولة" و"الممثل" الذي لم يكن "مجرباً ولا كان مفكراً" و"لم تُتَح له فرصة كافية ليتعلم أو يعلّم نفسه بطريقة جادة ومنظمة" هذا الرجل استطاع أن يغير مجرى التاريخ، على اعتبار أن عهده كان "خطأ تاريخياً"، بتعبير هيكل، إذ تخطى هذا "الخطأ" عهد السادات وتمدد ليتسلط على عصرنا.
لم يرد هيكل إذن الاعتراف بأن سياسات السادات جاءت استجابة لمتغيرات العصر، بينما تطرفه في التحول إلى الجانب الآخر جاء رد فعل على هزيمة المشروع الناصري. كذلك تجاهل الكاتب الكبير أن الفوضى والفساد اللذين طفيا إلى السطح في عهد السادات كانا كامنين في بنية نظام سلطوي أسسه عبد الناصر، ليتقدم صاحب "خريف الغضب" مزوداً بأكوام هائلة من الوقائع ومسلحاً بقدرة كبيرة على التنظير، وكل ذلك لا ليحاصر السادات فحسب بل عصره كذلك.
يكشف هيكل عن هذا القصد في أكثر من موضع، مثل قوله: "وعندما اختفى وجهه (السادات) عن الظهور على شاشات التلفزيون بدا وكأن أحد عشر عاماً من حكمه تلاشت بلمسة على زر" (هيكل، ص. 30). حكم لا سند له غير ما بذله هيكل من جهد كبير في مدونته لنفي هذه الحقبة أو لضمها إلى واحد من تلك "الأزمنة الضائعة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...