لا يزال استخدام الدين في السياسة حاضراً لدى العديد من الشعوب العربية والإسلامية، ولا تزال الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تُسقَط على طريقة التعامل مع الحاكم، لتُصوّر المعارضة على أنها "خروج على الحاكم". ولا يزال بعض الرؤساء وقطاع كبير من الشعب يرون أن الحاكم إنما جاء بارادة الهية، وأن نهاية حكمه ستأتي بقرار إلهي آخر...
ولكن تطبيق هذه المعتقدات على حادثة محددة مثل اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1981 يمكن أن يكشف عن تضارب وتخبط في تأويل "المؤمنين" للإرادة الإلهية. فهل كان الله مع الرئيس المؤمن وأنصاره أم مع رجال الدين الأقباط الذين كان يضطهدهم أم مع الإسلاميين الذين قتله واحد منهم؟
الرئيس المؤمن بعيون أنصاره
في كتابه "صفحات من تجربتي" الصادر قبل شهور من اغتيال السادات، يروي الوزير ورجل الأعمال وصهر الرئيس عثمان أحمد عثمان حكايته مع العهدين الناصري والساداتي، مركّزاً على الفارق بين "الرئيس المؤمن" وبين "النظام السابق".
يتحدث عن صدمته من تأميم نظام الرئيس المصري جمال عبد الناصر شركته للمقاولات (الشركة الهندسية للصناعات والمقاولات العمومية)، ويعتبر أن أول عوامل حسم المعركة لصالحه هو إيمانه المطلق بالله، وهو ما لا يتوافر في النظام السابق على حد قوله.
ينقل عثمان قول عبد الناصر في أحد خطاباته: "محمد رسول الله قال في حديث ‘إن الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار’ محمد قال إيه؟ هما رجال الدين بيقولو إيه؟ بديك رومي تقدر تاخد من أي واحد منهم الفتوى اللي انت عايزها"، ويعلّق بأن ذِكر عبد الناصر للرسول باسمه بدون الصلاة والسلام عليه، وعدم احترامه لرجال الدين، لا يمكن أن يستمر، "ولا يمكن أن يسمح سبحانه وتعالى بأن يجوس في مصر مَن لا يتّقيه".
في المقابل، ظهر السادات في كتابه، حتى قبل أن يكون رئيساً، بمظهر إيماني. يروي أنه عندما زاره في أحد شهور رمضان وجده يجلس في خشوع على سجادة من خوص ممسكاً بيده مصحفاً يتلو منه آيات من القرآن، ثم أخبره بأنه يختم القرآن ثلاث مرات في كل رمضان، فارتبط به عثمان لأن المؤمن لا يعرف الخيانة ولا الغدر.
هذه كانت رؤية عثمان ومحبي السادات للرئيس المصري في عام 1981، قبل شهور قليلة من اغتياله.
انتقام الله لمصاب الكنيسة
مع استعانة السادات بالجماعات الإسلامية لضرب حركات اليسار والحركات الناصرية المعارضة، ارتفع منسوب التطرف الديني والعنف الطائفي إلى مستوى لم تعرفه مصر لسنوات عديدة سابقة، وتصاعد التوتر بين الجماعات الإسلامية ومعها قطاعات من الدولة وبين الأقباط، ووصل إلى ذروته في أيلول/ سبتمبر 1981، عندما عزل السادات البابا شنودة واعتقل 8 أساقفة و24 قسيساً و24 من العلمانيين الأقباط.
في كتاب روبير الفارس، "أيام السجن والصلاة"، يروي عدد من الأساقفة تجربتهم في المعتقلات، ويحكون عن إيمانهم بأن الله كان معهم في تلك الأزمة.
"مع مَن كان الله؟ مع نظام السادات ‘المؤمن’ الساعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية أم مع رجال الدين المسيحيين المعتقلين، أم مع الإسلاميين الجهاديين؟"
يروي القمص بولس باسيلي أن صراخ الأساقفة والقساوسة في السجن "كيرياليسون" (وتعني: يا رب ارحم) جعل مأمور السجن يأتي مستفهماً عن معنى الكلمة، وعندما عرف معناها قال: "طيّب ما هو ربّنا رحمكم أهو"، قاصداً اغتيال السادات بشكل مفاجئ، فأجابوه: "لأ لسه برضه"، فقال مبتسماً: "والنبي أنا خايف على نفسي كمان".
ويحكي باسيلي حكاية عن زوجة مأمور سجن المرج التي حذرتها صديقاتها المسيحيات من أن يسيء زوجها معاملة "شيوخ النصارى" حتى لا يدعوا عليهم "زي ما دعوا على السادات، وأديكي شفتي اللي حصل ليه"، وهو ما جعل المأمور حريصاً على عدم تعرضهم لأي سوء.
ويختتم القمص شهادته بأهم الدروس المستفادة من تلك التجربة وفي مقدمها:
ـ علّمتنا أن الله معنا "وإنْ كان الرب معنا فمَن علينا؟!".
ـ علّمتنا أن الله يقضي بالعدل، فبعد 30 يوماً لا أكثر ولا أقل استطاع القاضي العادل أن يحكم لنا على الذي حكم علينا ظلماً.
بدوره، يروي القمص تادرس يعقوب المالطي أنه لم يشمت عند معرفته بمقتل السادات ولكنه سمع أحد الحراس المسلمين يقول لزميله: "الذي قتل السادات الحقيقي هي الصلوات البريئة لهؤلاء الذين في السجن".
أما القمص عبد المسيح بسيط، فيحكي عن حلم أحد المسجونين الأقباط بالبابا كيرلس، في الليلة السابقة على الاغتيال، قال له فيه: "خلاص خلاص"، كعلامة على انتهاء الأزمة، وإحساسه عند علمه بوفاة السادات بأن هذه نتيجة "مَن يمدّ يده على الكنيسة".
موت "فرعون"
ثالث مَن يرون أن الله كان معهم هم قَتَلة السادات ومؤيدوهم، ويمكن معرفة أفكارهم من خلال حوار لوالدة خالد الإسلامبولي الذي أُعدم بعد قيامه بعملية الاغتيال.
تشرح الولدة دوافع ابنها ومنطقه، وتروي أن فعله جاء بعد فتوى من الشيخ عبد الله السماوي والشيخ عبد الحميد كشك بجواز قتل السادات، لأنه خرج عن الدين والتقاليد وكان يوالي الكفار "الأمريكان واليهود".
"إذا كنت تؤمن بأن الله وضعك على الكرسي وهو فقط مَن يأخذه منك، فهناك مَن يؤمن بأن قتلك والخلاص منك هو تحقيق الإرادة الإلهية"
وتردّ على مَن رأى الرئيس المصري شهيداً بقولها إنه مات مثل فرعون في يوم زينته، وتشير إلى أن ابنها قتل السادات غيرةً على دينه ووطنه ورداً على سبّ السادات للشيخ المحلاوي ووصفه بالكلب.
وبرأيها، فإن السادات قتله هواه الذي جعله شبيهاً بهتلر، أما خالد فقد مات شهيداً، مشيرةً إلى أن الأخير أخبرها قبل العملية بـ15 يوماً بأن الله سيرزقه الحور العين...
ولم يكن هذا رأي أم الإسلامبولي فقط، فقطاع من الإسلاميين يرى أن مقتل السادات هو عقاب له على سجن وسب رجال الدين الإسلاميين.
مع مَن كان الله؟
فمع مَن كان الله؟ مع نظام السادات "المؤمن" الساعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية أم مع رجال الدين المسيحيين المعتقلين، أم مع الإسلاميين الجهاديين؟
وماذا لو نجا السادات من حادثة الاغتيال؟ هل كان مؤيدوه سيرون أن الله أنقذ "الرئيس المؤمن" من سَفَكة الدماء الذين لا يعرفون الدين ولا يحترمون شعائره؟
على الأرجح، لم يكن الله مع أحد من هؤلاء. لا يمكن أن يعتبر أي حاكم أو جماعة سياسية أن الله معه، لأن معنى ذلك أن مَن يعارضونه يعارضون الله، ويصير قمعهم "مهمة مقدسة" يستحلّ فيها القتل والسجن والتعذيب، لأن الأمر لا يُتصوَّر كمجرد خصومة سياسية أو شخصية بل كحرب مع أعداء الله.
ينبغي أن يُخرج الدين من المسألة السياسية بشكل كامل، وأن يُنظَر إلى الخلافات والمعارك وحتى الاغتيالات على أنها أعمال بشرية بالكامل، لا يستخدم فيها أحد الدين كسلاح، لأنه سيُستخدم ضده. فإذا كنت تؤمن بأن الله وضعك على الكرسي وهو فقط مَن يأخذه منك، فهناك مَن يؤمن بأن قتلك والخلاص منك هو تحقيق الإرادة الإلهية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...