قالوا السياسة مهلكة بشكل عـــــــــــام
وبحورها يا بني خشنة مش ريش نعام
غوص فيها تلقي الغرقانين كلهــــــــــم
شايلين غنايم .. و الخفيف اللي عـــــام
صلاح جاهين
لم يمنع إدراك جاهين لطبيعة السياسة تورطه فيها وغرقه أحياناً، الشاعر الفذ ورسام الكاريكاتير الفريد، الذي فاضت مواهبه فكتب أيضاً السيناريو ومارس الصحافة والتمثيل واكتشف النجوم. جاهين المصاب بالاكتئاب الثنائي القطب الذي أسماه بالمرح الانقباضي، لأنه يضع المريض في أعلى درجات النشوة والمرح، ثم يهبط به لأدنى درجات الاكتئاب واليأس، كما يمكن أن نلاحظ في رباعياته.
نسلّط الضوء على رسوم كاريكاتورية من سبعينيات القرن الماضي للشاعر الفذ ورسام الكاريكاتير الفريد "صلاح جاهين" عن السياسة والفن والمجتمع وقضايا الناس
صدق جاهين نظام يوليو الناصري وكتب له أجمل أغانيه، وكانت هزيمة يونيو 1967 صدمة عمره، ابتعد بعدها عن كتابة أغاني تمجيد النظام، واكتفى بكتابة أغان عن أحداث مثل مذبحة مدرسة بحر البقر وحرب أكتوبر، وصلت لنا عبر الزمن انتقادات رفاق جاهين لفيلميه "خللي بالك من زوزو" 1972، "أميرة حبي أنا" 1974، بمبي يا صلاح. ولكن غاب عنا ما قاله جاهين في رسومه اليومية في "الأهرام" خلال سنوات السبعينيات، عن السياسة والفن والمجتمع والحياة اليومية. كيف تغيرت مواقفه السياسية ورؤيته الفكرية من عصر القومية العربية للانفتاح الأمريكي؟
من سعاد حسني لنادية الجندي
تأثرت السينما بشكل مباشر بظروف الهزيمة ثم بانفتاح ما بعد حرب أكتوبر، كونها تعتمد على إيرادات شباك التذاكر، ومع التحولات الاقتصادية والاجتماعية، توارت الأفلام الجادة خلف أفلام الإغراء والكوميديا الساذجة والميلودراما المفتعلة، وهو ما أثر بدوره على جوائز ومهرجانات السينما، فيدخل جاهين معركة مع لجنة جوائز السينما عام 1974 متضامناً مع فنانته الأقرب لقلبه سعاد حسني، التي رفضت جائزة التمثيل الثانية، بينما حصلت نجلاء فتحي على الجائزة الأولى، ليصف جاهين ما حدث بالكوسة.
سخر صلاح جاهين من النجمات المعتمدات على مفاتنهن الجسدية بلا مواهب تمثيلية، ليصل في ذروة هجومه على نادية الجندي نجمة السبعينيات الصاعدة، ويعتبر أن ما تقدمه من أفلام هو "مهرجان اللحمة" وأن نجاحها مرتبط باظهار الملابس الداخلية
واستمر جاهين ساخراً من أحوال السينما التي تعبر عنها أسماء أفلام من نوعية "بص شوف سكر بتعمل إيه"، وفي نفس الوقت ساخراً من موظفي الرقابة وتوجهاتها في حذف القبلات وتتبع المشاهد الحميمية أو الألفاظ "الخارجة"، أو منع مشاهد بحجة "الإساءة لسمعة مصر"، وكذلك السخرية من النجمات المعتمدات على مفاتنهن الجسدية بلا مواهب تمثيلية، ليصل في ذروة هجومه لنادية الجندي نجمة السبعينيات الصاعدة، ويعتبر أن ما تقدمه من أفلام هو "مهرجان اللحمة" وأن نجاحها مرتبط باظهار الملابس الداخلية.
تليفونات بلا حرارة وتعليم بلا علم
رغم وعود السادات بانتهاء الحروب والتخلص من الأجواء السوفياتية، إلا أن الزيادة السكانية والتراخي الحكومي والتركيز على التجارة والاستهلاك أدت لتدهور الخدمات العامة من مياه ومواصلات وتليفونات وشوارع، وهو ما رصده جاهين باعتباره هامشاً متاحاً للنقد لا يصطدم بالنظام السياسي بشكل مباشر، ليقدم رسوماً عديدة تنتقد ما حدث للتعليم من شيوع ظاهرة الدروس الخصوصية وتراجع قيمة التعليم أمام المال المتاح بطرق متعددة لا تحتاج للعلم، وتحول الثانوية العامة لوحش مخيف يلتهم الطلبة ويتركهم راسبين أو ناجحين بمجموع ضئيل، وفشل الدولة في محو أمية الملايين من أفراد الشعب رغم تعدد المشروعات والمحاولات، وظهور المدارس الأجنبية والخاصة.
أما سوء خدمة التليفون فقد حوله جاهين لعشرات من رسوم الكاريكاتير المتفجرة بالضحك، من تداخل الخطوط الذي كان يؤدي لسماع مكالمات الآخرين، لتواصل الجيران عبر الشرفات بدلاً من التليفون، أو التهنئة بالمناسبات عن طريق الزيارة الشخصية بدلاً من استخدام التليفون الذي لا ينطق، ويعبر جاهين بشكل بليغ عن علاقة المواطن المفعول به بالحكومة عندما تقوم مصلحة التليفونات بتغيير رقم هاتفه دون علمه، ليسأل عن اسمه الجديد الذي اختاروه له.
من الوحدة العربية لهجاء القذافي
تبدو المفارقة في مواقف صلاح جاهين السياسية أكثر وضوحاً إذ يبدأ مع السادات معتقداً أنه مستمر على خطى عبد الناصر الاشتراكية العروبية، فيرسم ناصر كملاك يبارك الوحدة بين مصر وليبيا بقيادة القذافي في عام 1972.
ثم في عام 1975 مع تغير الموقف الرسمي المصري باعتبار 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا، والاعتماد عليها للضغط على إسرائيل في مقابل التخلي عن الاتحاد السوفيتي والقومية العربية، يرسم جاهين رابين رئيس وزراء اسرائيل مستعيناً بالمظاهرات الرافضة لزيارة كيسنجر للتهرب من "الضغط" الأمريكي الذي يسعى نحو السلام وحل مشكلة الشرق الاوسط.
وفي عام 1979 مع توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، كانت المقاطعة العربية والمعارك الكلامية بين جبهة الرفض بقيادة ليبيا والعراق وسوريا وبين نظام السادات على أشدها، ويساند جاهين نظام السادات في هجومه العنيف على القذافي، الذي يصل لرسم والدة القذافي كامرأة قبيحة تدخن الشيشة\ النرجيلة وتسخر من ابنها
ويظهر القذافي كمجنون يريد تفجير العالم وإشعال حرب عالمية ثالثة.
ويؤيد جاهين عملية السلام لدرجة كتابته لاستعراض السلام الذي يلحنه سيد مكاوي وتقدمه الراقصة نجوى فؤاد والمغني فايد محمد فايد في ملهى ليلي بأحد فنادق القاهرة، ويتحول السادات في رسمه لعملاق يواجه أطفال جبهة الرفض أصحاب المهاترات، ويرسم السلام ملاكاً يخرج من صندوق الديموقراطية حاملاً معه الرخاء.
نعم للسادات لا للتخريب والغوغائية
ربما تكون انتفاضة 18 و19 يناير/ كانون الثاني، انتفاضة خبز بالنسبة للمعارضين، حرامية في نظر السادات، أكثر ما يعبر عن تحول رؤية جاهين للعلاقة بين النظام والشعب، فهو من كتب الأغاني للفلاح والعامل ولفقراء الشعب، وأيد جمال عبد الناصر بسبب انحيازه للأغلبية الشعبية المسحوقة، ولكنه هنا يتبنى موقف النظام بشكل كامل.
ويدعو الشعب للتصويت بنعم في استفتاء فبراير 1977، الذي يشدد فيه السادات العقوبات على الإضراب أو المظاهرات لتصبح الأشغال الشاقة المؤبدة، ويعتبر أن الموافقة على مواد الاستفتاء هي ركلة لمؤخرة الغوغائية، وأن المظاهرات قام بها مخربون، دون النظر للسبب الرئيس وهو رفع أسعار أغلب السلع بشكل صادم، ويطالب المواطن بزيادة الانتاج حتى لا تضطر الحكومة لرفع الأسعار فيحمله مسؤولية الأزمة.
في مقدمة كتاب "سداسية صلاح جاهين الكاريكاتورية" يرى الكاتب محمد بغدادي أن موقف صلاح جاهين من التردي الحاصل في السبعينيات يظهر في رسومه عن التعليم والفن، ورغم أن الفن موقف إلا أن علينا أن نأخذ في الاعتبار أن جاهين كان يرسم الكاريكاتير في أكثر الصحف الحكومية تحفظا وتعبيرا عن نظام الحكم، وأنها قد تحولت لما يشبه الوظيفة الرسمية لجاهين الذي صرح في عام 1982 أنه لا يحب الكاريكاتير ولكنه مصدر رزقه.
وقد يفسر ذلك التصريح قبول جاهين في الكاريكاتير ما لم يقبله في الشعر والأغاني، فعندما تغيرت قناعاته اختار أن يكتب أغاني المرح مثل "زوزو" و"الربيع"و"بمبي"، أو حتى أغنية يرثي فيها الحلم الضائع "في مفترق الطرق"، ولكنه لم يكتب أغاني في مديح "السادات"، الذي مدحه في رسومه.
لا يمكننا إطلاق أحكام مطلقة بشأن تغير مواقف جاهين، فهناك العوامل النفسية وصدمة نكسة 67 التي ظلت مؤثرة عليه حتى نهاية حياته، وارتباطه بمصر الذي لم يكن ليسمح له بالعيش في دولة عربية أو أجنبية كمعارض سياسي كما فعل الكثير من كتاب وفناني السبعينيات. وفي حواره مع الكاتب عمرو عبد السميع يعلن جاهين تقبله للنقد اليساري الذي وجه له بسبب مواقفه، لأنه لا يتحول لعنف كما يحدث مع الجماعات الدينية، ويتفهم أن حالات التطرف اليساري سيتحول أصحابها لأشخاص يمكن النقاش معهم بعد 15 عاماً، أما نقد الشباب العنيف فهو طبيعي طبقاً لمنطق "أوديكي فين يا عافية"، وهو التفهم الذي يمكننا الاستعانة به ونحن نلون حياة الشخصيات التاريخية بألوان متعددة، لا مجرد أبيض وأسود.
*الرسوم من أرشيف مكتبة الإسكندرية وكتاب سداسية صلاح جاهين الكاريكاتورية
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...