منذ انفصال جنوب السودان في العام 2011 وخسارة ثُلثيِّ إنتاجه النفطي؛ دخل الاقتصاد السوداني في أزمات حادة جراء ضعف الموارد، واستئثار القطاع العسكري بمعظم مصروفات الموازنة العامة.
وتزداد هذه الصورة قتامة حالياً جراء تداعي الاقتصاد، وارتفاع نسب الفقر والتضخم، بعد فرض الدول الغربية ومؤسسات التمويل العالمية عزلة على السودان، احتجاجاً على استيلاء العسكر على مقاليد الحكم في انقلاب عسكري جرى في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي.
على أحسن التقديرات، تنتشر حالياً خمسة جيوش في كافة أنحاء البلاد، بما في ذلك العاصمة السودانية الخرطوم. في ظل هذا الواقع العسكري، يبرز تساؤل رئيس: من أين تمول كل هذه القوات نفسها؟
خارطة الجيوش
على أحسن التقديرات، تنتشر حالياً خمسة جيوش في كافة أنحاء البلاد، بما في ذلك العاصمة السودانية الخرطوم.
أبرز هذه القوات بالطبع هو الجيش السوداني "الجيش الوطني"، وقوات الدعم السريع بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو "حميدتي" التي يفترض أن تكون جزءاً من الجيش طبقاً لقانون تأسيسها، ولكنها في الواقع تعمل بمعزل عن الجيش الرسمي.
وبعد التوقيع على اتفاقية جوبا للسلام بين الخرطوم والحركات المتمردة، حلت قوات جديدة في المشهد السوداني، أهمها قوات حركة العدل والمساواة بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم، وقوات حركة جيش تحرير السودان بقيادة حاكم دارفور مني أركو مناوي، وقوات جيش تحرير السودان (المجلس الانتقالي) بقيادة الهادي إدريس.
وفي المقابل، توجد جيوب عسكرية صغيرة، قادتها موقعون على اتفاق السلام، كقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة مالك عقار، وعناصر قوات حركة تمازج.
وفي ظل هذا الواقع العسكري، يبرز تساؤل رئيس: من أين تمول كل هذه القوات نفسها؟
حقبة البشير
طوال حقبة الرئيس المعزول عمر البشير (يونيو/ حزيران 1989 – أبريل/ نيسان 2019) كان بند الصرف على الأمن والدفاع يتصدر الموازنة العامة بنسب تتخطى الـ60%، بدعوى قمع التمردات والحفاظ على عقد الأمن من الانفراط، فيما لا تحظى بنود الصحة والتعليم مجتمعة نحو 10% من المداخيل العامة.
وفي 2013 على سبيل المثال، تم تحويل الموازنة برمتها إلى موازنة طوارئ لمقابلة اجتياح قوات جنوب السودان لحقل هجليج النفطي، وتبع ذلك لاحقاً خفض الدعم على سلع أساسية تشمل القمح والوقود.
وخلال تلك العقود الثلاثة من الحكم، ظهر ما يسمى "الاستثمارات الأمنية"، بدخول الجيش والأمن والشرطة في المجال الاقتصادي بشركات غير خاضعة للمراجعة، وباتت تسيطر على مفاصل الاقتصاد المحلي.
خلال 30 عاماً ظل فيها السودان تحت حكم البشير، ظهر ما يسمى "الاستثمارات الأمنية"، بدخول الجيش والأمن والشرطة في المجال الاقتصادي بشركات غير خاضعة للمراجعة، وباتت تسيطر على مفاصل الاقتصاد المحلي
الصورة بعد البشير
عقب وصول الحكومة الانتقالية للسلطة (سبتمبر/ أيلول 2019 – أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لم يتغير الحال كثيراً، نشبت خلافات بين المدنيين والعسكريين بشأن شركات القطاع الأمني.
وشكى رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك، من سيطرة الشركات الأمنية على الاقتصاد، وسعى إلى إنهاء هذا الوضع وهو ما يعتبره منظروف سبباص رئيساً وراء إطاحته وحكومته على يد العسكر.
وفي مناسبة عامة، قال حمدوك إن 80% من شركات القوات المسلحة خارج ولاية وزارة المالية على المال العام، وهو أمر رفضه رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، بقوله في خطابٍ جماهيري، بوجود "جهات عديمة الرؤية، تحاول تعليق إخفاقاتها الاقتصادية على مشجب الجيش"، وشدد البرهان في رده على أن القوات المسلحة "بسطت يدها على مجموعة مقدرة من تلك الشركات للاستفادة منها في تخفيف الضائقة المعيشية".
الإنفاق على القوات النظامية
عقب استيلاء الجيش على السلطة في أكنروبر/ تشرين الثاني الماضي، أعلن وزير المالية، جبريل إبراهيم عن اعتماد الموازنة بالكلية على الموارد الذاتية، ولم يفصح عن تفاصيل الصرف، مكتفياً بمؤشرات عامة تستهدف زيادة الإنتاج وخفض نسب التضخم.
وفي ظل تدهور الحال الاقتصادي، وانخفاض نسبة العملة المحلية إلى 580 جنيهاً مقابل الدولار الأمريكي، تبرز تساؤلات عن كيف تمول الجيوش السودانية أنشطتها وعناصرها.
جدير بالذكر، أن الجيش السوداني وبقية القوات الأمنية، تشارك منذ فترة طويلة في قمع الاحتجاجات المطالبة بالحكم المدني، وهو أمر يستلزم صرف أموال طائلة يأتي في مقدمتها الأموال التي تذهب لمقابلة (حالة الاستعداد) في صفوف القوات العسكرية، ضف على ذلك الحاجة المستمرة إلى كميات الغاز المسيل للدمع، والمدرعات، والأزياء الواقية.
وحاولنا طرح سؤال مصادر تمويل القوات النظامية على المتحدث باسم الجيش، نبيل عبد الله، ولكنه لم يستجب لاتصالاتنا المتكررة.
وبإحالة ذات السؤال إلى المحلل الأمني، المقدم متقاعد رضا محمود، نلقاه يشدد على أن الصرف على القوات النظامية عملية تتم في شفافية تامة، ووفقاً لقانون الموازنة.
وقال محمود إن السودان شأنه شأن كل الدول، يخصص جزءاً من الموازنة للصرف على القطاع الأمني، وإن أقر بارتفاع هذه النسبة حالياً من جراء الاضطرابات السياسية وتنامي ظاهرة الصراعات القبلية في أنحاء متفرقة من البلاد.
وزاد: "هناك أيضاً بروتكولات التعاون المشترك التي يبرمها الجيش مع نظرائه الإقليميين والدوليين، وتعود بالفائدة على المقدرات العسكرية وأفراد الجيش بطبيعة الحال".
وقدّر محمود الصرف على القطاع الأمني بأنه لا يتخطى في أحسن التقديرات 25% من حجم إيرادات الموازنة العامة.
ولكن المحلل الأمني، العقيد متقاعد نور الدين جبارة، فيقول إن الجيش يمول كافة انشطته حالياً بطريقة ذاتية من خلال شركاته التي تسيطر على كبرى العمليات التجارية بالبلاد.
وضرب جبارة المثل بشركات المنظومة الدفاعية التي تنشط في صناعة الأسلحة الخفيفة وبيعها إلى دول الجوار، علاوة على توسعها الكبير في أعمال التجارة والزراعة والمحاصيل والتعدين.
ورأى أن إصرار المدنيين على وضع قبضتهم على الشركات الأمنية، وتهديد مصالح قادة الجيش المتنفذين، هو ما قاد في نهاية المطاف إلى تحرك البرهان للاستيلاء على السلطة.
الدعم السريع
لكونها جزء من الجيش السوداني، تضع قوات الدعم السريع، بقيادة حميدتي يدها على جزء من مصروفات الموازنة العامة.
ولكن هناك شبه اتفاق على أن مداخيل الدعم السريع، أكبر بكثير، وربما أكبر من الموازنة العامة نفسها.
يقول نور الدين جبارة، إن تقرير سابق للغارديان كشف عن سيطرة حميدتي وأسرته على مناجم الذهب في دارفور وبيع عائداته للإمارات، تلى ذلك تقرير شبكة CNN كشف عن ضلوع الدعم السريع في تهريب الذهب السوداني إلى روسيا بما يعادل 13 مليار دولار.
وأضاف: "هذا بخلاف كميات الذهب الكبيرة المهربة إلى دولة الإمارات حيث أحبطت سلطات الجمارك عدة عمليات تهريب للذهب قبل خروجها إلى الإمارات من داخل مطار الخرطوم الدولي".
وتتلقى قوات الدعم السريع، أموالاً ضخمة من جراء مشاركة عناصرها في التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن، وفي الصدد تبرز حالة التدافع الكبيرة لدى أفراد هذه القوة للالتحاق بحرب اليمن للحصول على عائدات تقدر بـ 6 آلاف ريال سعودي شهرياً للفرد.
بعد رحيل نظام البشير الذي أشعل الحروب الأهلية وفصل جنوب السودان، تطلع الأهالي إلى تحسين معاشهم، لكن القوى العسكرية حالت دون ذلك، مرة برفضها الخروج من السوق الاقتصادي، وثانية باستيلائها على السلطة، وأخيرة بمص ضروع الاقتصاد اليابس
الحركات المسلحة
علّ أبرز تساؤل في سياق تمويل الجيوش، هو المتعلق بالصرف على الحركات الموقعة على السلام، في ظل تعثر جمع التمويل اللازم للاتفاق.
ويحتاج تنفيذ اتفاق جوبا للسلام إلى 7.5 مليار دولار كان من المقرر أن تدفع بمعدل 750 مليون دولار سنوياً.
وتثور كثير من الاتهامات للحركات المسلحة –شأنها شأن الجيش- بأنها تمول أنشطتها من الخزينة العامة، لا سيما وأن حقيبة وزارة المالية قد ذهبت إلى حركة العدل والمساواة.
يقول نور الدين جبارة، إن استيلاء الجيش على السلطة، وانحياز الحركات الموقعة على اتفاق جوبا إلى جانب البرهان، جعلهم مشمولين بحالة العزلة الدولية التي تستهدف الانقلاب وقادته، حد تعبيره.
وأضاف: "هذه الأوضاع، تطلبت إيجاد موارد أخرى للدعم، بدعوى الحفاظ على السلام أو الذهاب إلى سيناريو الحرب، ويأتي على رأس هذه الموارد الخزينة العامة، والإعفاءات الضريبية والجمركية الواسعة النطاق، ضف على ذلك تخصص بعض من جنود هذه الحركات في عمليات النهب والسطو المسلح بحق المدنيين، خاصة في الخرطوم، حد مطالبة الجيش –سابقاً- بمغادرة هذه القوات للعاصمة في غضون أسبوع".
اعفاء جمركي للسيد "أواب خليل ابراهيم" ابن أخ وزير مالية الإنقلاب جبريل إبراهيم . #مليونية31اغسطس pic.twitter.com/1seVCJqEuq
— aljoker@king;; (@Aljoker17830706) August 31, 2022
وأنكرت حركة العدل والمساواة، في وقت سابق، صحة الأحاديث المنسوبة إلى رئيسها بأن الحركات الموقعة على السلام، تصرف على جنودها من الخزينة العامة، فيما يصرف الجيش والدعم السريع على أنشطتهم من خلال أرباح الشركات العسكرية.
ورداً على التساؤل حول مصادر تمويل الحركات الموقعة على السلام، قال القيادي بحركة العدل والمساواة، أبكر سليمان، لرصيف22 إن الحركة ونظيراتها تمول أنشطتها من بنود الصرف المخصصة باتفاق جوبا، زد على ذلك النسب المخصصة -بموجب الاتفاقية- في الموازنة العامة، وتعادل 40% من الإيرادات المحصلة محلياً.
وشكا سليمان من عدم وفاء المانحين بالتزاماتهم تجاه بند الترتيبات الأمنية الخاص بإدماج عناصر الحركات في الجيش الوطني.
ولفت إلى مبادرات يقودها قادة الحركات، وآخرها الرحلة التي قام بها حاكم دارفور، إلى الدوحة لعقد مؤتمر للمانحين لتأمين الدعم اللازم لإنفاذ اتفاق السلام.
فاتورة الحرب والسلام
بعد رحيل نظام البشير الذي أشعل الحروب الأهلية وفصل جنوب السودان، تطلع الأهالي إلى تحسين معاشهم من خلال تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي، ولكن القوى العسكرية حالت دون ذلك، مرة برفضها الخروج من السوق الاقتصادي، وثانية باستيلائها على السلطة، وأخيرة بمص ضروع الاقتصاد اليابس لتدعيم بقائها ودفع فواتير السلام. ببساطة بات السودانيون يسددون فاتورتيّ الحرب والسلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 17 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...