شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
النسوية الليبية... تاريخ منسيّ

النسوية الليبية... تاريخ منسيّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الاثنين 8 مايو 202310:57 ص

"هادي وحدة نسوية"... هكذا أضيفت كلمة نسوية لمعجم الشتائم الليبي لتدلّ على الانحلال وترتبط عند البعض بتهديد "القيم الأخلاقية" التي تحمي المجتمع، بيد أن النسوية مسؤولة بشكل أساسي عن وجود هذه القيم... في الواقع لا يمكننا مراجعة تاريخ ليبيا دون أن نجد شخصيات نسوية أو "نشاطاً نسوياً" ساهم في تشكيل هوية البلد السياسية والاجتماعية.

يتكرّر الهجوم على النسوية في ليبيا بدعوى أنها "مؤامرة دخيلة على مجتمعنا"، رغم أن كلمة "نسوية" ذاتها متداولة في المجتمع منذ سنة 1946، حين أوردتها المناضلة صالحة المدني، لأول مرة في مقالة لها عن أوضاع النساء في ليبيا، فالكلمة إذن ليست جديدة على المجتمع.

جذور تاريخية

الحق أن النسوية، مفهوماً ونشاطاً، في ليبيا، يسبق ورود المصطلح بمئات السنين، حيث تطوّر النشاط النسوي في المجتمع متداخلاً مع الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليشكل مع مرور الزمن حركة نسوية ليبية، أقصد اتجاهاً محلياً يعالج قضايا المرأة بوسائل ابتُكرت من الثقافة نفسها، الأمر الذي يصعب معه ربطها ومقارنتها بتلك التي نشأت في أوروبا القرن العشرين.

ولعل احدى أهم سمات النسوية الليبية التي سأناقشها هنا هي التعليم، أي حق التعلّم ونقل المعرفة بوصفه أساساً لكسب الحقوق الأخرى، فالمعرفة في ليبيا القديمة، منحت المرأة مكانة مقدسة، وبالتالي أعطيها سلطة دينية واجتماعية تحمي بها حقوقها. إذ عرفت نساء قبيلة الناسامونيس، في القرن الخامس قبل الميلاد، باطلاعهن على الغيب بالنوم على الأضرحة، وتفسير أحلامهن كنبوءات للقبيلة، وذاعت شهرة العرّافة الليبية لتكون إحدى مصادر المعرفة الكلاسيكية التي صوّرها مايكل انجلو على سقف كنيسة السستين، وبقيت مهمة "نقل المعرفة" عند نساء التبو والايموهاق (الطوارق) منذ القدم في صورة الكتابة ورواية التاريخ، وهذا ما يفسّر اهتمام الفيلسوف ارستبوس بتعليم ابنته أريتي، لتصبح بدورها فيلسوفة بارزة تتلمذ على يديها فلاسفة كثر، أولهم ابنها ارستبوس الصغير، الذي لقب بـ Metrodidakt وتعني حرفياً "الذي علمته أمه".

أضيفت كلمة نسوية لمعجم الشتائم الليبي لتدلّ على الانحلال وترتبط بتهديد "القيم الأخلاقية" التي تحمي المجتمع، بيد أن النسوية مسؤولة بشكل أساسي عن وجود هذه القيم

يعد نموذج آريتي فريداً على عدة مستويات، إذ إنها عاشت في قورينا، المدينة الليبية التي اعتُبرت جزءاً من العالم اليوناني الذي يُحرّم فيه تعليم المرأة، حيث سبق أن حرقت مدرسة فيثاغورس في جزيرة ساموس لتعليمه الفلسفة لنساء.

تولت آريتي رئاسة مدرسة الفلسفة القورنيائية، وبالتالي أصبحت النموذج الأول للمرأة المتعلّمة أكاديمياً في ليبيا، ويتكرّر هذا النموذج مراراً في التاريخ في صيغ مختلفة، حيث ظهرت في العهد الإسلامي فقيهات وعالمات دين في مناطق ليبية عديدة، وإذا لم يكن وجود فقيهة تُستشار في أمور الدين كافياً لتأكيد نشاط نسوي يمنح للمرأة حق التعليم، فإن لشيخات أمثال: أم يحي وأم زيد وأم ماطوس وأم جلدين، المذكورات في القرن الثامن الهجري، نقاشات ومواقف مع رجال دين في عصرهن، مثل حوار أم يحيى مع العالم المعروف ابن غلبون، حول احتكار الرجال للعلوم الشرعية وتشجيعه لها لتواصل التحصيل العلمي.

ويظهر من خلال سير الشيخات سعي واضح لرؤية الفقه من زاوية جندرية تخص المرأة، بالتزامن مع التعليم والنقاش الفقهي مع الشيوخ الذكور، فالشيخة (الدرعية) وهي أمّ أشهر علماء ليبيا، عبد السلام الأسمر، وزوجة شيخ معروف، أثّرت بشكل كبير على حياة ابنها، حتى لُقّب بـ "ولد الدرعية"، ما يذكّرنا باللقب الذي لحق بارستبوس الصغير.

ويبدو أن المتعلمة ترث تقديراً اجتماعياً يذكرنا بقدسية العرافات القديمات، يتمثّل هذا في نموذج "القوديا" في طرابلس القرن الثامن عشر، وهي سيدة سوداء، ترأس فئة السود في المدينة، وتحظى بتقدير رأس الدولة آنذاك (الدولة القرمانلية) رغم الطبقية والعبودية التي تطحن السود في ذلك الوقت.

التعليم لمعرفة الحقوق

في أواخر العهد العثماني، ظهرت جمعيات أهلية نسائية اكتفت بالتعليم، مثل جمعية "استير" وجمعية "الهلال النسائية"، وبالتزامن، كان العلاّمة محمد كامل بن محمود يشجّع التعليم بين البنات والصبيان على حد سواء، من هذه البيئة ظهرت السيدة زكية شعنان، التي تعد أول معلمة ليبية في مدرسة نظامية عام 1912.

كانت المعلمة ممهّدة لجيل الحقوقيات النسويات، حسب المفهوم الحديث، إذ جمعت مؤسِّسات الحركة النسوية بين التعليم والدفاع عن حقوق المرأة. نهج "المقاومة الداخلية" هذا، جنّب النسوية حملات الهجوم الجماعية كالتي ستتعرّض لها بعد نصف قرن، فصالحة ظافر المدني، التي أوردت مصطلح النسوية في ذلك الوقت، كانت معلمة في طرابلس، وحميدة العنيزي التي تعد أيقونة الحراك النسوي، فتحت بيتها لتعليم البنات بعدما دمّرت الحرب العالمية الثانية مدينة بنغازي.

وفي سبها، برزت فاطمة أبو قيلة التي درست في إسبانيا عام1967 ،وفيما بعد ألقت محاضرات داخل البلد وخارجه، شأنها شأن رائدة علم الاجتماع خديجة عبد القادر، التي درست في بريطانيا، ثم شكلت مع هاته السيدات جمعية "النهضة" النسائية 1957، وهي حجر أساس الحركة النسوية في ليبيا. وسّعت الجمعية مهمة التعليم لتشمل التثقيف عبر الأدب والإعلام، ليتوّج نضالهن بسنّ قانون حق التصويت للنساء عام1964، وحظي هذا الإنجاز بقبول شعبي، حتى عرف ذلك العام بـ"عام الصبايا".

فتح "عام الصبايا" أبواب المكاسب الحقوقية للجيل الثاني من النسويات، مثل الأديبة والناقدة شريفة القيادي، التي اختصّت بدراسة الإنتاج الإبداعي النسائي، والأيقونة النسوية خديجة الجهمي، مؤسّسة مجلة "المرأة"، والكاتبة التي حضنت مبدعين كبار مثل المفكر الصادق النيهوم والروائي إبراهيم الكوني.

وبمناسبة الحديث عن المبدعين الرجال، فإن النسوي الليبي خلال تاريخنا استغلّ امتيازه كرجل في دعم حقوق النساء بوسائل محلية، لدرجة أنه من الممكن استبعاد وصف دعمه هذا بالفعل النسوي، إلا أنه كذلك، إذ كيف نسمي مساندة العالم ابن غلبون للشيخة أم يحيى، كما مرّ بنا، أو تشجيع العالم بن محمود البنات على التعليم.

ماذا عن دعم أزواج واخوة رائدات النسوية لمسيرتهن وتعليم ارستبوس لابنته؟ في الواقع، هذا التضامن من الرجال نسوي في الأساس، بيد أنه يأخذ صفة العادة المحلية، فالرجل المبدع المتمكّن الذي حضنته أو علمته المرأة، يواصل بدوره عادة تعليم ودعم النساء والرجال على حد سواء، داخل إطار المؤسسات والعمل الجماعي.

العزلة التي أجبرت عليها النسوية الليبية سهّلت اتهامها بالنخبوية الدخيلة، وفتحت مجالاً لرجال ذكوريين في مجمل أفكارهم وتصرفاتهم الشخصية ليتظاهروا بمناصرة المرأة، بل أخذ مكانها في التعبير عن احتياجاتها وحقوقها والتكلم باسمها

قطيعة السبعينيات

لكن هذا النشاط النسوي المؤسساتي تداعى تدريجياً، بداية السبعينيات، إثر حملة نظام الجماهيرية ضد استقلالية المنظمات المدنية. أحدث ذلك قطيعة بين الأجيال، واقتصرت النسويات على نقد الأبوية من خلال الأدب والمسرح والصحافة. في الواقع، ثمة مواقف نسوية واجهت بشجاعة سلطة الجماهرية، منها اجتماع نسويات في طرابلس وبنغازي، وإرسال بيان لرأس السلطة يرفضن فيه قرار منع سفر الليبيات بلا محرم سنة 2007، كذلك مظاهرة المعلمات في طرابلس احتجاجاً على قرار الاستغناء عن معظم الكادر التعليمي سنة 2009، فعلى الرغم من التضييق على العمل المنظم إلا أن النسوية خلقت فرصاً ذكية لمواجهة السلطة .

ولم تعد النسوية للعمل المنظم سوى بعد ثورة فبراير 2011، ليتشكّل جيل ثالث من الحركة النسوية، أخذ على عاتقه المسؤولية الكلاسيكية وهي التعليم ونقل المعرفة، هذه المرّة بتوظيف وسيلة جديدة هي الإنترنت.

تعدّدت المنظمات النسوية، مثل "أين حقي؟" و"النساء قادمات" و"الأمازونيات الليبيات" و"اتحاد العمل النسائي" وغيرها من المنظمات خلال 2012 وحتى 2014، وإلى ذلك الحين استمرّ العمل النسوي عبر الإعلام والمظاهرات والندوات، واتسم بالوضوح والمباشرة في طلب الحقوق، وذلك عبر التشديد على الإصلاح القانوني والمشاركة السياسية، حتى سيطرة الجبهة الإسلامية على المشهد السياسي بتشكيل غالبية برلمانية تدعمها كتائب مسلحة عام 2014، ومنها بدأت حملات تحريض وملاحقة النسويين والنسويات، كان أسوأ نتائجها اغتيال المحاميتين سلوى بوقعيقيص وانتصار الحصايري.

ومع اشتداد الحرب الأهلية سنة 2015، تراجع الحراك المدني، خصوصاً بعد اتهام جهات حكومية للمنظمات المدنية بالعمالة والتحريض عليها، لجأت النسويات لمنصّات افتراضية للتوعية بالانتهاكات المتزايدة التي تتعرّض لها الليبيات، من خلال حملات إلكترونية حظيت بردود فعل اجتماعية وسياسية قوية رغم بساطة تنظيمها، وتكاتفت المنظمات لدفع التهم الأخلاقية التي لاحقت النسوية الليبية.

أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي حرية النشر والنقاش، إلا أنها أبعدت الجيل الثالث عن مسار النسويات العملي في خمسينيات القرن العشرين، فالعزلة التي أجبرت عليها النسوية الليبية سهّلت اتهامها بالنخبوية الدخيلة، وفتحت مجالاً لرجال ذكوريين في مجمل أفكارهم وتصرفاتهم الشخصية ليتظاهروا بمناصرة المرأة، بل أخذ مكانها في التعبير عن احتياجاتها وحقوقها والتكلم باسمها، كذلك ظهرت نساء يهاجمن النسوية التي مكنتهن أصلا من التعبير عن رأيهن.

شوّهت هذه التصرفات والادعاءات التقاليد النسوية الليبية التي ساهمت في تأسيس قيم المجتمع عبر الفنون، بوجود ممثلات وأديبات ومغنيات اقتحمن المجال وفتحنه لأخريات، كذلك من خلال الإصلاح القانوني، فمنذ الثمانينيات، تولت الليبيات القضاء وشكلن لجان صياغة الدستور بعد سنة2011، أما أكاديمياً فهو، كما تقدّم، مجال المرأة الواسع، فالتعليم في ليبيا لايزال بغالبية نسائية منذ نشأته، وصولاً لوالدتي المعلمة التي أشرفت على تحصيلي العلمي، الواقع أن تعليمها هذا هو سبب رئيسي يمكّنني اليوم من كتابة هذه المقالة، لتستكمل بهذا عادة نقل المعرفة كسلفاتها القديمات.

 مراجع:

1-فاطمة غندور، كتاب المرأة من التنميط إلى التغيير، اصدارات مركز دراسات الوحدة العربية 2021

2- سارة چامبل، النسوية وما بعد النسوية، ترجمة أحمد الشامي، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى ص22 2002

3-عبد اللطيف محمود البرغوثي-كتاب التاريخ الليبي القديم من أقدم العصور حتى الفتح الإسلامي – مؤسسة تاولت ص 129 2007

4- Kurt Lampe, The Birth of Hedonism, Princeton University Press, 2017 P40

5- الإمام مقرين البغطوري، سير شيوخ نفوسة، تحقيق توفيق عياد الشقروني، مؤسسة تاوالت الثقافية ص68 2009

6-(وصلنا وين مكاري وصل) قصة الوليّ الأسود، عبد الوهاب العالم، بوابة الوسط 3.6 2016

7.للمزيد راجع كتاب الشيخ محمد كامل بن محمود واثره في الحياة الفكرية في ليبيا، محمد مسعود جبران، جمعية الدعوة الإسلامية 2009

8. ابراهيم الكوني، الأبعاد العدمية لدموع الرئيس، سكاي نيوز عربية، 1.3.2021.

9سعاد سالم، معارضات القذافي، بوابة الوسط 15... 2014


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard
Popup Image