الجَدَّة ملاك حارس، عجين ليّن من طيبة وحكمة، في حضرتها نصبح أطفالاً نستجدي الحنان والحلوى وقد نصبح أبطالاً خارقين لأنها تسند ظهورنا وتبني حولنا حاجزاً من ضلوعها، فنحن "ولد الولد" الأغلى من "الولد" نفسه.
للجدّات دائماً أسرارهن التي تمتلئ بها صررهن وصناديقهن الخشبية، ولهن قوانينهن الخاصة التي نكبر فنجدها مثل نقش عتيق على صفحات الذاكرة نقف إزاءها كثيراً ونفكر طويلاً قبل أي محاولة منا لتجاوزها، أوامر ونواهٍ نظل عاجزين عن تخمين مصدرها، وحتى عدم اقتناعنا ببعضها لا يمنعنا من الامتثال لها في كل مرة.
في قريتنا الغافية على سفح الجبل وكعادة القرى في كل مكان، يكون للمرأة كلمتها وهيبتها ومكانتها، فهي ليست "العورة" التي تجلس في البيت بانتظار من يطعمها ويسقيها ويقدم لها خبز الحياة على طبق من ذهب، الجدة في قريتي قبل حتى أن تصبح جدة كانت تغزل الدفء بين المغزل وألواح المسداة وتقدمه لمن حولها "بطانية" تحارب معهم قسوة البرد، وكانت تصنع الخبز الذي تحضره من الحقل عقوداً صفراء تفرط حباتها على فوهة الرّحى التي تحوله إلى خبز أو إلى "بازين" فكل الطعام هناك من صنع يديها.
قولي أسعد وأكحل لا كمون وفلفل أسود
كانت جدتي تحضر الماء من بئر بعيدة وتصنع سياجاً للحقل من نباتات شوكية وتصنع الطعام وتقوم بكل هذا مكلّلة بالرضا برفقة أهازيجها الخاصة وبمباركة أغنياتها التي لا يزال بعضها يلتصق بأذنيّ مثل قرط ثمين.بعض الطقوس التي تمررها لنا الجدات لا ندرك لها معنى ولم نجد لها تفسيراً، لكن الانفتاح على العالم الآخر الذي قربته التكنولوجيا حدّ الغوص في ثقافاته وعلومه جعلنا نقتفي أثر الجدات هناك في بلاد تبتعد عنا بتاريخها وجغرافيتها آلاف السنين، فمنازل قريتنا لم تكن تبنى فوق الأرض بل تحفر في باطنها لأسباب تعود إلى الطبيعة الجبلية للمنطقة، حيث السفوح المهيأة للحفر وحيث البرد الشديد الذي يهرب منه سكانها إلى حضن الأرض الدافئ شتاءً والبارد المنعش صيفاً في أحجية فيزيائية وجيولوجية لم تزل قائمة حتى اليوم في بيوت الحفر الصامدة في قريتنا وفي بعض مناطق مدينة غريان.
في حضرة جدتي هناك بعض القوانين التي لا أتجاوزها، ستعتبر بعض المفردات عن الموت والحزن والدم "فال مش كويّس" وستصرخ في وجهي: "أعوذ بالله من فالك" وكأن ما أقوله سيلج أبواب التحقق فور خروجه من فمي
قبل قرابة خمسة آلاف سنة هناك في الصين البعيدة كانت "الأرض" من العناصر الخمسة الأساسية التي يتكون منها الكون حسب فلسفة "الفونغ شوي"، التي تُعني بفن التناغم مع الفضاء المحيط وتدفقات الطاقة من خلال البيئة والتصالح مع النفس ومع الطبيعة المحيطة بالإنسان حتى يستطيع أن يعيش ويتعايش معها بشكل إيجابي ودون توتر.
إذا أردنا تفسير وجود مثل هذه البيوت "حوش الحفر" في قريتنا وبعض مدن وبلدات جبل نفوسة في ليبيا فلن نجد أدق من التماهي مع التضاريس ومع الطقس الجبلي الذي أجبر الأجداد على التحايل عليه واللجوء إلى دفء وحصانة رحم الأرض.
في الذاكرة بعض الصور التي لا تبرحها مهما تدافعت سنوات العمر، وفي حضرة جدتي هناك بعض القوانين التي لا أتجاوزها.
ستعتبر بعض المفردات عن الموت والحزن والدم "فال مش كويّس" وستصرخ في وجهي: "أعوذ بالله من فالك" وكأن ما أقوله سيلج أبواب التحقق فور خروجه من فمي.
لا تسمح لي جدتي بوصف الكمّون أو الفلفل بالأسود خوفاً من "الفال" لذلك علي استبدالها بالأسعد أو الأكحل التي لها نفس المعنى لكنها ليست بحدة وقتامة "الأسود" ودلالته الصريحة، حتى عندما أغضب ليس عليّ أن أقول "نهار أسود" أو "نهار مغبّر" بل يجب أن أنتبه قبل أن تتدلى هذه الكلمات على لساني حتى وأنا غاضبة علي استبدالها بنهار أبيض أو نهار سعيد وكأنني إلهة سيغيّر كلامها الأقدار وينثر السعادة في الأرجاء ويسبغ البياض على العالم كله.
ربما هو نوع من التقليد السائد في اللهجات الليبية بشكل عام، فنحن في ليبيا لا نقول فحم بل "بْياض" ومن باب التفاؤل أيضاً فإن جدتي لا تقول "أغلِق الباب" بل "زيِّن الباب" لأن فعل الغلق والقفل هو سدّ لكل انفراج وبالتالي فهو غير مستحب بالمطلق، يشبهه فعل "الكنس" وأداته المكنسة فجدتي لا تقول "أكنُسي الدار" بل "فرّحي الدار" فالدار والبيت عموماً يفرح بالنظافة الناتجة عن الكنس.
للجدات الليبيات "الفونغ شوي" الخاص بهن
في ليبيا لا نقول فحم بل "بْياض" ومن باب التفاؤل أيضاً فإن جدتي لا تقول "أغلِق الباب" بل "زيِّن الباب" لأن فعل الغلق والقفل هو سدّ لكل انفراج
لما سبق أساس قوي في فلسفة الفونغ شوي التي تقوم على نظافة المكان وخلوّه من الغبار والأشياء المكدسة، هنا لم يكن شيء مستساغ في حوش الحفر المطلية أركانه بالأبيض والمشرعة مداخله باتجاه الشمس والهواء، يقول غودس وغروست في كتابه "الفينغ شوي فلسفة الحياة، تغيير البيئة، خلق الانسجام":
"تشتق الفينغ شوي رموزها من العالم الطبيعي وهي طريقة متكاملة للحياة يؤمن بها الملايين سواء في الصين أو في باقي أرجاء المعمورة، وإن العناصر الخمسة للحياة بحسب الفينغ شوي هي الخشب المعدن النار الماء والأرض وكل حياتنا تدور حول هذه العناصر الخمسة".
وبالعودة إلى هذه العناصر الخمسة أستحضر مكانة الماء في أذهان الجدات الليبيات، عندما كانت جدتي تطلب من أمي وضع كوب من الماء قرب رأس أخي الرضيع كنت أسألها عن السبب فتقول إن الماء يحميه وعندما أسألها ممّ سيحميه الماء؟ تقول بثقة: "من كل شيء"، وقبل أن أقرأ عن الفونغ شوي وأسرار علم طاقة المكان كنت أضع أيضاً كوبا من الماء قرب رأس طفلتي الرضيعة وكأنني بذلك أتمسك بطرف رداء جدتي ليمنحني أمانا أنشده.
وإذا كانت جدتي لم تعاصر وجود المقص الذي نعرفه فإن أمي كانت تمنعني من استعمال المقص دون هدف لأن هذا يجلب المشاكل للبيت وساكنيه، رغم أنها لا تعرف شيئاً عن المسارات التي تسلكها ذبذبات الطاقة الإيجابية بعد أن أخبرنا عنها علم طاقة المكان وقال إن استعمال المقص في الفراغ يقطع هذه الذبذبات ويعترض مساراتها ما يسبب المشاكل والمنغصات التي تحل بالمكان وتصيب من فيه.
تقول خبيرة الطاقة سها عيد في حسابها على فيسبوك: "إن طاقة المكان عبارة عن مسارات الطاقة غير المرئية التي تؤثر على نفسية الأسرة وتوجهات أفرادها وإقبالهم على الحياة من عدمه".
أمي كانت تمنعني من استعمال المقص دون هدف لأن هذا يجلب المشاكل للبيت وساكنيه، رغم أنها لا تعرف شيئاً عن المسارات التي تسلكها ذبذبات الطاقة الإيجابية بعد أن أخبرنا عنها علم طاقة المكان
نستطيع أيضاً أن نضع في هذا التصنيف مشهداً آخر جمعني وجدتي عندما كانت تطلب مني إحضار القِدر النحاسية التي تطهو فيها الطعام وعندما أحضرها وأمدها إليها كانت تصرخ طالبة مني إبعاد القعر الأسود للقدر عن مستوى نظرها المباشر وكالعادة كنت أسألها عن السبب وكالعادة أيضاً كانت تجيبني بأن هذا "فال مش كويس" أو ما نطلق عليه في قريتنا مفردة "معفون" التي لا يحتاج مصدر حروفها الثلاثي إلى تفكير كثير لنخمّن معناها الذي يقترب من المعنى الدارج لـ"العيب".
سحر النباتات واجتماع الأبيض بالأخضر
تقول مها العطار صاحبة الكتاب المهم في علم الطاقة "روح المكان" في مقابلة لها:"علم الطاقة من العلوم القديمة ويرتبط بحياة الإنسان منذ بداية الخلق. فكل شيء من حولنا عبارة عن طاقة، الأجسام، الأشياء، العناصر، وهناك أنواع كثيرة من الطاقة لكني تخصصت في طاقة المكان لأنها أشمل وأعم وتتوافق مع العمل في مجال الفن والديكور والألوان وهو علم قديم قدم الحضارة الصينية منذ 5000 سنة تقريباً".
وتقول: "إن هذا العلم كان موجوداً في مصر القديمة وقد استخدم في الأهرامات والمعابد والعمارة، لكنه اختفى مع الكهنة المصريين بينما توارثه الصينيون ويعيشون به حتى الآن ويعتبرونه ميراث الأجداد".
كانت جدتي تطلب من أمي وضع كوب من الماء قرب رأس أخي الرضيع، كنت أسألها عن السبب فتقول إن الماء يحميه وعندما أسألها ممّ سيحميه؟ تقول بثقة: "من كل شيء"
يبدو أن العناصر الخمسة التي تشكل منها الكون "الماء، المعدن، الأرض، الخشب، النار" هي التي جعلت بعض الطقوس تترسخ في أذهان الشعوب والأمم في كل مكان من هذا العالم، فقريتنا لم تكن تعرف الصين ولا حتى مصر في ظل عزلة فرضتها بدائية المعرفة وصعوبة السفر والترحال، لكن وجود العناصر الكونية الخمسة جعلنا جزءاً من هذا العالم في ظل تراكم معين لبعض الصفات والأحداث.
سأعود إلى بيوت قريتنا ورسمها لقوانين الفونغ شوي البعيدة عنا زماناً ومكاناً، إلى "حوش الحفر" بمدخله الواسع النظيف ولون الجير الناصع الذي كانت تطلى به أركانه، إلى عزلة واستقلالية مكان النوم وأيضاً الحضور القوي لبعض النباتات التي يشتهر بها الجبل مثل الإكليل أو الروزماري ومثل النعناع الذي لا يطيب "الشاهي" إلا بنكهته اللذيذة، رغم وجود عشرات النباتات والأعشاب مثل الصعتر وغيره.
جاء في الموقع العربي الفونغ شوي طاقة المكان: "تعتبر النباتات الخضراء من أفضل وأسهل الطرق لتعزيز الطاقة الإيجابية بالمنزل ومنح أهله الشعور بالراحة والتقليل من التوتر ويعتقد خبراء الفنغ شوي علم طاقة المكان أن هناك نباتات بعينها يمكن أن تعزز الطاقة الإيجابية وتوفر شعوراً إيجابياً بالانسجام والاسترخاء في المنزل مثل اللافندر والياسمين والروزماري الذي يقوي الذاكرة ويحسن المزاج ويجذب الحب، والنعناع الذي يعتقد أن زراعته في المنزل تجذب الازدهار الاقتصادي وتحسن التواصل داخل المنزل".
قد يفسر هذا الطبع الهادئ والمزاج الجيد والذاكرة القوية التي يتمتع بها سكان القرى وأيضاً جلسات "الشاهي" التي كانت أسلوب حياة في قريتنا حيث كان النعناع يضفي عليها سحراً خاصاً عندما يختتم مهرجان الشاهي رفقة حبات اللوز أو الكاكاوية.
ولد الفونغ شوي هناك في الصين ونحن هنا على الحاشية العلوية من أفريقيا نقتفي أثر الجدات وكأننا نسير على تراب آسيا، لا نزال نقوم بالتنظيف "الطاقي" دون أن نقصده فنشرع الأبواب والنوافذ في وجه الشمس والهواء ونحرك قطع الأثاث من أماكنها ونمسح عنها الغبار ونستحم بعد أن ننتهي من كل هذا ونشرب الشاهي بالنعناع ونحن نشم رائحة النظافة تعبق في المكان.
ولد الفونغ شوي هناك في الصين ونحن هنا على الحاشية العلوية من أفريقيا نقتفي أثر الجدات وكأننا نسير على تراب آسيا
الليبيات لم يكنّ يعرفن شيئاً عن دلالات الألوان في الفونغ شوي، لم يعرفن حتماً أن الأبيض يزرع الوضوح ويعزز الاتصال لكنهن سكبن لونه في "الفراشية" اللباس التقليدي الليبي الأشهر الذي كان يلوّن شوارعنا وأزقتنا بالأبيض، لم يكن يعرفن شيئاً عن حكمة الأصفر ونضارة الأخضر وتحفيز الأحمر وثقة الأزرق لكن كل هذه الألوان كانت تزين الرداء الليبي التقليدي وتمنحه الجمال والألق الذي خفت قليلاً في زمن ما لكنه عاد للتوهج من جديد في السنوات الأخيرة وكأنه "لا" ناعمة تنفجر في وجه القبح والانسلاخ من نصاعة "الفراشية" وجمالها الخجول.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...