شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من هؤلاء الطلبة في حقل السنابل قبل

من هؤلاء الطلبة في حقل السنابل قبل "طلعة الضوّ"؟ شيوعيون؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 11 مارس 202311:27 ص

نوستالجيا خفيفة


بعد الخدمة في البوليس أيام الانتداب، سيعود جدّي لأرضه. يدور حول "كوم" الزيتون الرومي فيعرف مصابه، يلمسه كأنما يقيس النبض عند جذعه، أو يسلّم على ألف سنة مرت عليه. جدي لم يكن يعرف جِداً غير أرضه والزرع. جدي لم يكن ليهتم: الاحتلالات، الحروب، السياسة. السياسة لأهلها.

المتفرجون لا يحوزون إلا الثرثرة. اعرف أين تقع أرض جدك، هذا أفضل، فالأرض لا تعرف إلا زارعها وحاميها. "الأرض يا جدي بتفرق بالشبر. زيت هالشبر غير زيت هداك، وقمح هذه ليس كتلك".

وكان​ ​جدي​ ​مزارعاً حقيقياً وكان لا​ ​يقتني إلا نوعاً مرتفعاً من الحُمُر، ​بيضاء رمادية​ قوية، في ​عنقها​​ عقال ​حلقات​​ معدنية​ ​ذات وزن وكأنها حُلي فضية. لم يكن حمار جدي يضجر من محاولاتي صعود ظهره، ولا لعبي بسلاسله محاولاً تحريكه من مكانه. لا أذكر أني تمكنت مرة من ذلك.

مرّة قرّرت استبدال اللعب معه بحمار قبرصي أحمر قصير. ركبته مع أربعة من الفتية والفتيات​، لكن المقدمة كانت لي، فكنت فوق عنقه.​ ​ولما ضجر​ منا، أطاح بِنا جميعاً، غير أنه عضني وحيداً. كلفني ذلك عقوبة منع من اللعب مع الحيوانات حتى آخر الصيف، وخمس إبر في معدتي كتبها طبيب المدينة.

راقبت الحمار القبرصي، فوجدته خلافاً لحمار جدي، يسكن في الفوضى. يأكل باكراً يوماً، ومتأخراً يومين، أو ربما يُنسى فلا يأكل. يُملأ حوضه بالبرسيم الطازج مرة، ويلقى إليه بقشور البطيخ مرة أخرى. يعمل حتى لا يقوى على الحركة، أو يتقلب في الشمس كقط مدلل لأيام. ويمكن لأي عابر أو متطفل أن يستعيره بلا مشقة أو يتدخل في حياته بلا محدد، حتى ما عاد "المسكين" يعرف نفسه: حمار أم قط أم عضو في عائلة لا تقل عنه فوضى؟

فوضى المحيط حلت عليه. لا هوية ولا أجندة. حياة نكدة تصيب الآدمي بالضمور، فكيف بحمار قبرصي أحمر قصير؟ ساعتها أدركت أني أثقلت عليه مع رفاقي، فاعتذرت منه ورحلت. "على كل، كان قلبه طيب". وهي صفة أخرى بلا قيمة، نستخدمها "جبراً للخواطر"، لتعبأة فراغ الأجندة والهوية والذائقة. التزمت بالإبر، لكني عدت لألعب بسلاسل حمار جدي.

حمار جدي يعرف كل الطرق إلى أراضي جدي المتباعدة، يحفظها على ظهر وعي، نزولاً وصعوداً، في الجبال والأودية وبين الضِّيع، إلى آخر شجرة زيتون أو تين أو لوز أو كرم عنب.

كان يتحاشى الدخول من تحت أغصان الشجر إذا ما كنت على ظهره،​ فيسلك طريقاً أطول، وأبقى منتصب الظهر، حتى يقف معلنا الوصول، منتظراً أن يُرفع "الحلس" عن ظهره المتعرق. كنت أجده كلما زرت جدي أيام الربيع أو الصيف، حتى غلب لدي أن ​الحمار يُخلَّد.

ويبدو أنى تعلقت بأسطورة الخيل، لكن لما حضر فيّ التفكيك أدركت أني راكمت من ​الحمار​ ​نفعاً ​أكبر، وأدركت أن الأرض التي لم أدخلها ماشياً أو على ظهر حمار، كأني لم أدخلها أبداً.

المدن والنواحي ذات الملامح لا تصاب بـالـ "ديمنشيـــا".،يخبرك كل ما فيها عن كل من مروا عليها. لا تنكرهم، وأهلها محظوظون، لا يصابون بضعف​ ​"الذاكرة"، والذين لا يعرفون الرّيف لا يفكرون، يَستهلكون ويُستهلكون فقط. دوراتهم الدموية "تراوح" عند منتصف الجسم، حول معداتهم. مع الزمن يتوطن مجتمع "العقل​ ​الأداتي"، ضعيف الذاكرة والتفكيك، شخصية "​قص​ ​ولصق"،​ خاوية "الأنا"،​ ​تضعف ذائقة​ ​اللغة، تظهر​ ​البدانة ويختفي​ ​الريف.

أشتاق لحمار جدي، ويغلب لدى الظن أنه لايزال هناك، يحرس كرم العنب وخطوط الطرق الجبلية المتعرجة التي ما عاد يسلكها أحد بين الضيع. لا أنكر أني أشتاق لذاك الحمار القبرصي الذي عضني، لكني لا أحسن التعاطف مع الفوضى... مجاز

ليس من داعم لتشكل العقل​ ​النقدي كما هي المسير في الطبيعة و"التخييم" في العراء، وليس من تعويض يقدَّم للفتيان عن فرق الكشافة، أو ترحال على ظهر حمار "صاحب وعي".

لازلت ​أ​مشي، ولا زالت تلك المدن والنواحي التي دخلتها مترفاً غريبة. السلعية، العقل الاجتماعي، الإنسان الوظيفي، التكديس، الثور الشمولي، والثور في ساقية.

أشتاق لحمار جدي، ويغلب لدى الظن أنه لايزال هناك، يحرس كرم العنب وخطوط الطرق الجبلية المتعرجة التي ما عاد يسلكها أحد بين الضيع. لا أنكر أني أشتاق لذاك الحمار القبرصي الذي عضني، لكني لا أحسن التعاطف مع الفوضى.

*****

كانت صديقتي الإيرانية تذكر دائماً اهتمام أمها بالزعفران، تضيفه إلى أطباقها الغارقة في التفاصيل الشهية في عيد نوروز. في شرق المتوسط نعرف "العصفر". كنت أظن أنهما شيء واحد.

كان صرصور الليل يعزف عند مغادرتنا الدارة. برودة، رغم أننا أقرب للصيف، ورائحة الأرض كالنبيذ. "السهل" كان مليئاً بالمحاصيل، لكن مقصدنا كان قطف "العصفر" عن سيقانه. كنت ألتقيه لأول مرة في أجراسه. زاهية ألوانه.

نبهتني فتاة الحقل لقطف الجزء الأحمر والأصفر فقط، من غير أن آخذ الأجراس، لأنها تطرح من جديد، وطلبت مني أن أعجل قبل خيوط الشمس الدافئة: "تصبح الشعيرات الطرية الرطبة، شوكاً. يقطف العصفر قبل طلوع الشمس".

في موسم الزيتون، أن تستلقي تحت شجرة رومية يعنى ألا تحرم من نزول "الوعي". هناك حيث تلتئم الذاكرة، يحضر حمار جدي، وتبقى الضباع بعيده... مجاز

عدت لدارة جدي عند الضحى أحمل رائحة العصفر، ولوناً أصفر داكناً على رؤوس أصابعي. بعض شوكات، وذاكرة.

دارة من عقد مقببة واسعة، جدران عريضة مطلية بالأخضر، وفيها نقوش زينة حمراء ناعمة، وسقف مرتفع. نوافذ الدارة طويلة في قمتها قوس، وزجاجها معرق وملون، وللنوافذ شرفة تسمح لطفلين بالجلوس إلى جانب "كعكوز" الفخار، بل بالنوم إلى جانبه. دارة جدي باردة صيفاً، تستيقظ فيها مبتسماً، ولا تحتاج منبهاً خارجياً.

أمام العقد الحجرية المقبّبة، "برندة" سماوية سقفها غمامات بيض، كنت أختار النوم عليها في الصيف. ومنها أدراج حجرية كثيرة نحو ساحة الدارة، كنت أعلوها راكضا حتى أصل لدارة جدي العالية، لاهثا!

*****

بعد دقائق لحقت بآخرهم، ضجيجهم كان يسبق ذلك الباب الخشبي المعتق. في دارة مقبّبة عالية السقف أسفل البناء، تتقدّمها مصطبة ودالية عنب. ضوء "نيون" أبيض وعشرات في مجاميع، واحدة للحصاد والمناجل، وأخرى للنقل والماء، وهناك للاستراحة، ورابعة للغناء. تنقلت بين ضحكاتهم وأكواب الشاي المحلّى.

قبل الشمس، كانت المجاميع في سهل قمح لا تعرف قامتي آخره، في يدي "الناعمة" منجل وفي الأخرى قبضة سنابل، وصوت يحثّني على أن تكون الضربة القادمة أكثر حزماً، وآخر يدير السرب، يشير إلي لألحق بخط الانتاج الذي لا أستطيع له إدراكاً.

نظام مؤثر، صوت مناجل، تختلط بأهازيج وغناء، يثير القمح والحصادين معاً: "لنصرة المعدم، دمي دمي قد جرى".

قبل الضحى نتوزع إلى طعام، خبز "طابون" وزيت زيتون، وحبة "بندورة" واحدة. كلها من ذوات الرائحة الشهية، تثير ما تبقى من سنابل، فتميل إلى صَوانٍ من قش ملون، تحمل ترويقة الحصادين وأحاديثهم:

- ولمن هذه الأرض؟

- لمزارعين كادحين لا يطيقون إتمام العمل بمفردهم

- وأنتم حصّــادون؟

"ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة... ستأكلنا الضباع"

- لا، نحن طلبة، نتطوع في يوم فرصتنا، وهذا الطعام من بيوتنا

-  ومن يكون "المعدم"؟

ينادي موجّه السرب: إلى الحقل. تتعالى ضحكاتهم: لن نعود قبل كوب من الشاي الثقيل.

- "الشاي سيصلكم هناك": يرد

- هل ستأتي الأسبوع القادم؟

-  أين؟

-  سنعتني بمدرسة الضيعة القديمة.. فقط أحضر معك فرشاة دهان.

أتصل بوالدي وأستأذنه؟ لن أفعل، إنها فرصتي وهو ليس هنا على كل حال، لكن من هؤلاء الطلبة في حقل السنابل قبل "طلعة الضو"؟  شيوعيون؟

*****

عند "ماتيرا" الصخرية، والتي ظلت مغائرها مأهولة حتى خمسينيات القرن الماضي، يوم كانت عاصمة للجوع جنوبي إيطاليا، صبت صبية قطرات من زيت الزيتون في كفها، حركتها بين إصبعيها، قطرت في عيني ثم مسحت على جفني... مجاز

خانني حديث عهدي بطريق الضيعة، انحدارها واستداراتها. قذفتني الدراجة الهوائية إلى حاكورة زيتون ولوز منخفض عن الطريق. طرت في الهواء متجاوزاً "السنسلة" الحجرية، وعانقت شجرة زيتون فتية، كتفاً لجذع، ولحقتني "البسكليته".

عند الضحى أفقت وقد أحضروا سيدة ستينية مشهورة بالطب الشعبي. "أم فواز" أخضعت كتفي وصدري لجلسة تدليك بزيت الزيتون الدافئ. طرحتني السيدة في قرنة مشمسة على البلاط الملون البارد، خلعت عني ملابسي، وبدأت جلسة "التمليس".

في شرقي وشمال المتوسط، زيت الزيتون وصفة لكل وجع.

عند "ماتيرا" الصخرية، والتي ظلت مغائرها مأهولة حتى خمسينيات القرن الماضي، يوم كانت عاصمة للجوع جنوبي إيطاليا، صبت صبية قطرات من زيت الزيتون في كفها، حركتها بين إصبعيها، قطرت في عيني ثم مسحت على جفني.

"لا حاجة للطبيب، ستكون أفضل"، لكن خلافاً لما سمعت مني "أم فواز"، كان صياحي في وجه صبية الزيت بيني وبين نفسي.

لم أحسن الالتحاق بورشة إصلاح المدرسة القديمة، منعت إثر "وشاية". احتلت على من حولي، والتحقت بورشة بناء سور "النجمة". نقلت حجارة طبيعية وكدستها بين ألواح خشبية قبل أن تقوم مجموعة أخرى بصب خلطة من الإسمنت فوقها، ليصنع السور الذي يحيط بمدافن الضيعة الجديدة. هناك حيث يتسامر الشهود. كنت قبلها أخشى المرور من بين الشواهد إذا ما حلّت العتمة.

التحق والدي بالجامعة بداية سبعينيات القرن الماضي، في بيروت درس اللغة والأدب. والدي كان متحفظاً جداً على حكاية المجاميع والأيديولوجيا. ظل حضرة الأستاذ (بيّــي)، يذكر بـ "فخر" أن أياً من المنظمات -ذروة حراك طلبة الجامعات اللبنانية، الأحزاب اليمينية، القومية واليسارية- لم تجتذبه بشعاراتها أو أنشطتها، لكن، من هؤلاء الطلبة في حقل القمح قبل "طلعة الضو"؟!

*****

في موسم الزيتون، أن تستلقي تحت شجرة رومية يعنى ألا تحرم من نزول "الوعي". هناك حيث تلتئم الذاكرة، يحضر حمار جدي، وتبقى الضباع بعيده.

"ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة.. ستأكلنا الضباع" (سلمان ناطور)


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image