شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
قوانين ولدت على القضبان… تحوّلات المدينة في تاريخ

قوانين ولدت على القضبان… تحوّلات المدينة في تاريخ "ترام القاهرة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 11 أبريل 202304:03 م

*في أغسطس/ آب من العام 1896 شهد ميدان العتبة احتفالاً صاخباً لافتتاح المحطة المركزية لترام القاهرة، في حضور عدد كبيرة من نُظّار (وزراء) الدولة المصرية وأعيانها، ومحافظ العاصمة ومجموعة من قناصل الدول الأوروبية، يتقدمهم مدير شركة الترامواي وكبار موظفيها.

انطلق الاحتفال بتسيير أولى عربات الترام في اتجاه مركز الحكم القديم بميدان القلعة (ميدان محمد علي سابقًا)، ومنها عائدة نحو بولاق أبو العلا، حيث المركز الصناعي للمدينة ومرْفأها التجاري على نهر النيل (أزيل حالياً)، ماراً بميدان العتبة الذي اكتظ بعدد ضخم من الأهالي يرغبون في مشاهدة أول وسيلة انتقال تسير في شوارع مدينتهم بقوة الكهرباء، وفقاً لكتاب سيد كيلاني ترام القاهرة.

من حفل افتتاح ترامواي القاهرة في ميدان العتبة 1896- المصدر "أرشيف شبرا"

وبالعودة إلى كتاب سلام ترام "أرشفة المسارات المفقودة لترام القاهرة"، فإن لحظة دخول الترام إلى القاهرة هي لحظة تاريخية فارقة في تاريخ المدينة وتاريخ الاجتماع العمراني بها، وإن كانت واحدة من حلقات ممتدة لعمليات التطوير العمراني التي عرفتها القاهرة خلال القرن التاسع عشر، فإن لحظة تدشين الترام باتت تمثل لحظة اتصال بين ماضي المصريين ومستقبلهم، أي وسيلة النقل الرئيسية بين القاهرة التاريخية "التقليدية" والقاهرة الخديوية "الحديثة"، كما أنها مثلت على التوازي فاصلة في تاريخ المصريين بين القديم والحديث، باعتبار الترام إحدى أدوات الحداثة ونتاج عملية تحديث وتطوير عمراني، وهو ما يدفعنا نحو التساؤل عما أضافه وجود الترام على التاريخ الاجتماعي لمدينة القاهرة.

في فبراير/ شباط 1899 نشرت جريدة الوقائع المصرية، نص لائحة مكونة من 31 قراراً ومادة قانونية، كتبت باللغتين العربية والفرنسية، تنظم عملية سير الترام في شوارع القاهرة، وتوضح علاقة شركة الترامواي بالركاب

اتصال بين الطبقات

 خلق وجود الترام مساحة جديدة من التفاعلات الاجتماعية بين طبقات متباينة وفئات متنوعة من سكان القاهرة ومحيطها العمراني، وكذلك سكان الأقاليم الذين دفعتهم مصالحهم التجارية والإدارية دائماً نحو العاصمة، وفقاً للمشهد الذي يجسده المستشرق البريطاني "ستانلي لين بول" في كتابه سيرة القاهرة.

وكان من الطبيعي أن يصاحب ذلك المشهد الاجتماعي والعمراني الجديد في نهاية القرن التاسع عشر تشريعات وأحكام قانونية تخدم عملية التطوير العمراني وتهيئ المدينة إلى استقبال خطوط الترام، إضافة إلى لوائح تنظيمية وقوانين إدارية تحدد شكل استخدام الترام، وتضبط التفاعلات الاجتماعية الجديدة الناتجة عن استخدامه، وهو ما حفظته لنا الوثائق القانونية وقضايا النزاع الخاصة بشركة الترام البلجيكية، المؤرشفة في مركز سرد للتاريخ والأبحاث الاجتماعية (أرشيف شبرا).

اللوائح التنظيمية

في فبراير/ شباط 1899 نشرت جريدة الوقائع المصرية، تزامناً مع وصول الترام إلى أطراف المدينة (شبرا شمالاً والهرم جنوباً)، نص لائحة مكونة من 31 قراراً ومادة قانونية، كتبت باللغتين العربية والفرنسية، تنظم عملية سير الترام في شوارع القاهرة، وتوضح علاقة شركة الترامواي بالركاب، وضعتها الحكومة المصرية الممثلة في (نظارة الداخلية - نظارة الأشغال العمومية) بالتنسيق مع شركة الترامواي البلجيكية، وأقرها مجلس الشورى وصدق على العمل بها منذ نشرها، كما نعرف من كتاب سيد كيلاني ترام القاهرة.

الفصل الأول من اللائحة خاص بتنظيم عمليات التشغيل والصيانة ومتابعة السلامة، ومنع الناس سكان القاهرة وغيرها من الاقتراب من مصادر الكهرباء، وتحدد المادة الأولى منها ارتفاع عمدان الموصل الكهربائي عن الشارع، والتى يجب ألا تقل عن خمسة أمتار ونصف، مع ضرورة وجود مسافة لا تقل عن ستة أمتار بين كل ترام والثاني على نفس الخط. وتنص كذلك المادة التاسعة، في حين تحذر المادة الثامنة على الناس السير أمام عربات الترام أو الركض خلفها والتعلق بها، ومن يخالف ذلك يعرض نفسه إلى المحاكمة القانونية.

خلق وجود الترام حاجة ملحة إلى تشريعات قانونية تضبط المساحة الاجتماعية الجديدة التي شكلها، كما ظهرت بسبب الترام قوانين جديدة لأول مرة تفصل في المشكلات والمشاجرات التي تحدث باستمرار نتيجة التفاعلات الاجتماعية التي لم يألفها المصريون من قبل

وبالرجوع إلى وثائق شركة الترامواي المٌضمّنة في "أرشيف شبرا"، فإن نصوص اللائحة تُلزم شركة الترامواي بشكل محدد لعربات الترام، وألوان خاصة تميز عربات كل خط من الخطوط، كذلك يُكتب اسم الخط ورقمه على عربات الترام بالأرقام العربية والإفرنجية بشكل واضح ومميز، على أن تضاء كل عربة من عربات الترامواي بثلاث لمبات كهربائية على الأقل، قوة كل واحدة منها 12 شمعة، إضافة إلى لمبة تضاء باستخدام الزيوت ومرآة كبيرة في بداية العربة في حالة انقطاع التيار عن اللمبات الكهربائية.

أما الفصل الثاني من اللائحة، فيتعلق بموظفين وعمال الشركة، ونصوصه تلزمهم بمجموعة كبيرة من الضوابط في مظهرهم وطبيعة عملهم، ويجب على جميع الكمسارية أن يتوفر لديهم طول الوقت، فلوس من فئة القرش ونصف القرش والمليم، حتى يتسنّى لهم رد باقي الفلوس مع التذاكر للركاب، أما سائقو العربات فيجب عليهم أن يمتلكوا خلفية واسعة عن عمليات الصيانة لمواجهة أي عطل مفاجئ، ولذلك تمنع الحكومة المصرية في البند 12 الشركة البلجيكية من تعيين كمسارية أو سواقين بدون رخصة قانونية تصدرها محافظة القاهرة.

قوانين الآداب العامة

وبالنظر إلى أوراق المحاكمات والقضايا الخاصة بشركة الترامواي، المؤرشفة ضمن وثائق شركة الترامواي البلجيكية، فإن وجود الترام بشكل عام قد خلق حاجة ملحة إلى تشريعات قانونية تضبط المساحة الاجتماعية الجديدة التي شكلها، كما ظهرت بسبب الترام قوانين جديدة لأول مرة تفصل في المشكلات والمشاجرات التي تحدث باستمرار نتيجة التفاعلات الاجتماعية التي لم يألفها المصريون من قبل، لذلك تمنح اللائحة المحاكم الحق في الفصل في المشاجرات التي تحدث بين مستخدمي الترام وبعضهم من جهة، وبين الموظفين والركاب من جهة أخرى، وعليه تشرف المحاكم على تطبيق مواد اللائحة وقوانينها، وتنفيذها العقوبات والأحكام من خلال سلطة نظارتي الداخلية والأشغال العمومية.

كان قانون الفعل الفاضح في مقدمة القوانين التي صدرت بهدف ضبط المساحة الاجتماعية الجديدة دخل عربات الترام، وينص هذا القانون على معاقبة كل من يرتكب فعل فاضح مخل بالحياء داخل عربات الترام ومحطاته

وإذ كانت العديد من مواد اللائحة تلزم كل شخص يستخدم الترام بقواعد من الآداب العامة والسلوكيات المنضبطة، فإن المواد ذاتها تمنح الحق إلى الكمسارية أو الموظف المراقب من التدخل والتعامل مع أى شخص لا يلتزم بالسلوكيات العامة داخل الترام، وهو ما تسبب في العديد من المشاجرات بين الكمسارية أنفسهم ومستخدمي الترام، وبالرجوع إلى جريدة الوقائع المصرية، فإن المادة 17 من اللائحة قد تم تعديلها في سنة 1914 نتيجة عدم وضح العقوبة المقررة في نسخة سنة 1899، وقد نصت بعد تعديلها على تغريم أى شخص يخالف قواعد الانضباط العامة داخل عربات الترام بمبلغ يصل إلى 100 قرش، وهو المبلغ نفسه الذي حكمت به المحكمة على الكُمساري الذي اعتدى بالضرب على طالب من طلاب مدرسة السعيدية في سنة 1912م، نزولا إلى المادة 17، كما يتضح من الوثائق الخاصة بشركة الترامواي البلجيكية التي يحتفظ بها أرشيف مركز سرد.

ويأتي قانون الفعل الفاضح في مقدمة القوانين التي صدرت بهدف ضبط المساحة الاجتماعية الجديدة دخل عربات الترام، وينص هذا القانون على معاقبة كل من يرتكب فعل فاضح مخل بالحياء داخل عربات الترام ومحطاته، وإن كان تقدير الأفعال الفاضحة تظل حالة نسبية تختلف وفقا للمحل والتوقيت الذي وقعت فيه الحادثة، بالإضافة إلى طبيعة البيانات التي تجمعها المحكمة عن ذلك الحدث، إلا أن ذلك القانون وفي البداية قد حصر الفعل الفاضح بأفعال النساء التي تستدعي نماذج جنسية في الأماكن العمومية، وتحديداً في نص المادة 240 عقوبات، والمواد 15 مكررة و27 و29 من لائحة المحلات العمومية.

وبالنظر إلى ما حدث في جلسة الطعن رقم 1318 لسنة 1946، والحكم الذي أصدرته المحكمة، بأن فعل المتهم الذي قال بصوت مسموع لسيدتين من مستخدمات الترام، "تعرفوا انكم ظُراف، تحبوا نروح السيما"، لا يوصف بأنه فعل فاضح، على أن يكون الوصف القانوني الصحيح هو "سَب علني" يتم الحكم فيه على أساس المادتين 306 و171 عقوبات، ذلك وقد اعتمدت المحكمة في تحديدها للفعل الفاضح بالرجوع إلى الحكم الصادر في جلسة 18 أبريل/ نيسان 1929 الذي اشترط في توافر جريمة الفعل الفاضح المخل بالحياء: وقوع فعل مادي يخدش من خلاله المرء حياء العين أو الأذن، وأن الأقوال مهما كانت سيئة وفاحشة تظل المحكمة تعتبرها "سباً علنياً" وليست "فعلاً فاضحاً".

كذلك فإن الكثير من الأحكام التي فصلت في المشكلات الأولى، أصبحت فيما بعد مرجعاً للقضاة في حكمهم على المشاكل الجديدة التي لا تكاد تنقطع بين مستخدمي الترام، ومن الواضح أن الترام باعتباره مساحة عامة مفتوحة جمعت أعداداً كبيرة من السيدات والرجال على تنوعهم الطبقي والمناطقي، قد خلق حالة غير مألوفة مطلع القرن العشرين، وهو ما فتح الباب أمام مشكلات عدة احتاجت إلى العديد من المواد القانونية، ودفع الحكومة المصرية مبكراً إلى المطالبة بوضع قوانين وبنود تضاف إلى اللائحة، تُلزم من خلالها شركة الترامواي تحدد عربة مخصصة للسيدات في كل ترام، أو كما ورد في اللائحة: "يُجعل في كل قطر عين مخصوصة للحريم".

لكن ومن المؤكد أن تلك الحالة لم تستمر طويلاً، وما لبث ترام الترومواي ومحطاته أن أصبحا مساحات آمنة للسيدات، كما يتضح من الشهادات الشفوية التي جمعها وأرشفها فريق مركز سرد، حتى باتت عربات الترام ومحطاته محلاً للمواعدات الغرامية، يعرفه أغلبية سكان القاهرة بـ "مَبدع العشاق"، وفقاً لتعبير "الست أم رانيا" إحدى سيدات منطقة الحطابة بالقاهرة التاريخية والتى عملت صغيرة بأحد مصانع الملابس بمنطقة الموسكي، حيث تؤكد أن البنات العاملات بالمصنع في الستينيات اعتبرن محطة ترامواي العتبة مكاناً للمواعدات الغرامية.

قوانين نزع الملكية

تحفظ لنا قوانين نزع الملكية مادة تاريخية غنية تعكس لنا طبيعة التغيير العمراني الذي عرفته القاهرة مطلع القرن العشرين، وما طرأ على حياة سكانها مع البدء في مشروع ترام القاهرة (تظل الوثيقة القانونية مصدراً تاريخياً يحتاج لمزيد من الجهد البحثي)، وإن كانت الحكومة المصرية قد تعاقدت مع شركة الترامواي البلجيكية على مد ثمانية خطوط كما نعرف من كتاب سيد كيلاني ترام القاهرة، فإن خطوط الترام ما لبثت مع مطلع الثلاثينيات أن أصبحت تشكل شبكة واسعة من خطوط السكك الحديدية، تصل إلى 24 خطاً مزدوجاً، يتمركز أغلبها ويصب في ميدان العتبة بمعدل قطار كل ست دقائق، وفقاً لكتاب غادة فاروق "الخروج من الأسوار"، فقد خلقت تلك الشبكة الحديدية - ولأول مرة- تلاحماً عملياً بين أحياء القاهرة المتباعدة، وهو ما احتاج إلى عملية موسعة من (هدم المنازل وردم الترع والقنوات) استمرت نحو نصف قرن.

مع بدء مشروع الترام احتاجت الحكومة المصرية التوسع في عمليات انتزاع أراضي الملكية الخاصة بالقاهرة، فعرفت مصر لأول مرة "قانون نزع الملكية للمنفعة العامة" في عام 1906، بهدف تنظيم عملية نزع ملكية الأراضي من الأهالي وتحويلها إلى أملاك عمومية تابعة إلى نظارة الأشغال العمومية

وتقدم لنا الوثائق تفاصيل دقيقة عن مساحات الأراضي المستغلة لمد خطوط الترام ومساحتها، صُنِّفت داخل كشوفات وخرائط تحدد موقع كل الأراضي التي تم نزع ملكيتها من الأهالي لصالح شركة الترام، بتصديق من محافظ القاهرة وتحت إشراف "باشمهندس قومبانية الترامواي"، تنفيذاً للأوامر الخديوية التي تلزم نظارة المالية والأشغال العمومية، وكذلك محافظ القاهرة، بتنفيذها والعمل بها من لحظة نشرها بجريدة الوقائع، ولا بد أن ذلك استدعى تنسيقاً واسع النطاق بين شركة الترامواي والحكومة، وترتيبات أعمال عدة مع نظارة الأشغال ونظارة المالية، إضافة إلى إشراف نظارة الداخلية على تنفيذ نزع الأراضي.

وإن كانت القاهرة على مدار تاريخها قد عرفت هدم البيوت وفقاً لخطط المقريزي، تظل أسباب هذا الهدم سياسية أكثر منها عمرانية، لكن مع منتصف القرن بدء عملية الهدم بشكل تنظيمي لشق شوارع جديد، ونعرف من خطط الطرابيلي كيف ألزم الباشا محمد علي إدارته بضرورة تعويض أصحاب البيوت والأراضي المنزوعة، "وخصم أثمانها من الميري"، ثم مع بدء مشروع الترام احتاجت الحكومة المصرية التوسع في عمليات انتزاع أراضي الملكية الخاصة بالقاهرة، ومن ثم عرفت مصر لأول مرة "قانون نزع الملكية للمنفعة العامة" الصادر في ديسمبر/كانون الأول 1906 (وأدخلت عليه تعديلات عدة أولها كان في إبريل/ نيسان 1907) بهدف تنظيم عملية نزع ملكية الأراضي من الأهالي وتحويلها إلى أملاك عمومية تابعة إلى نظارة الأشغال العمومية، المسؤولة في ذلك التوقيت عن إدارة تطوير المدينة وتنظيمه، والمشرف الأول على استغلال هذه الأراضي في عمليات مد الخطوط المتفق عليها مع شركة الترامواي البلجيكية.

وبالرجوع لجريدة الوقائع المصرية؛ فإن عمليات نزع الملكية قد سبقت هذا القانون بعدة سنوات، ذلك أن خديوي مصر عباس حلمي الثاني، أصدر سنة 1900 "أمراً عالياً" يسمح من خلاله بنزع ملكية أراضي من أهالي بندر الجيزة، زادت مساحتها عن فدان، يتم استغلالها لصالح نظارة الأشغال العمومية لمد طريق سكة حديد ناحية أهرام الجيزة مخصص للخط السابع من خطوط الترام، وفقاً لوثائق شركة الترامواي، إلى جانب أمر عالٍ آخر صدر سنة 1903، لنزع ملكية أراضي بمساحة 290 متراً مكعباً، بمحاذاة شارع ساحل روض الفرج من الناحية البحرية، وسماح الخديو بتحويل 44 متراً مكعباً من أراضي الميري إلى أملاك عمومية تستخدمها شركة الترامواي في مد خط ترام من محطة مصر يصل إلى حي شبرا ومنطقة روض الفرج.

إذا ما نظرنا إلى مشروع ترام القاهرة باعتباره جزءاً من مشروع عمراني واسع تبنته الدولة المصرية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنه قد أفضى إلى تغيير وجه المدينة القديمة، وبلور "رؤية عمرانية" لدى النخب الحاكمة لما يجب أن تكون عليه المدينة

وفي 1905، أصدر الخديوي قراراً جديداً بنزع ملكية أراضٍ ومساكن حوالي شارع أبو العلا، مساحتها 900 متر مكعب بهدف توسيع الشارع بشكل يسمح بمد الخط الثاني للترام، إلا أن هذا القرار وعلى غير المعمول به يمنح الحق لشركة الترامواي البلجيكية صاحبة الامتياز - ولأول مرة-  الإشراف على نزع ملكية الأراضي بنفسها وعلى نفقتها الخاصة، من دون الرجوع إلى نظارة الأشغال العمومية أو حتى محافظة القاهرة، وهو بلا شك ما خلق حالة الحنق الشديد لدى أهالي القاهرة، وفقاً لـ كتاب سلام ترام "أرشفة المسارات المفقودة لترام القاهرة"، كذلك فإن 1905 هى السنة نفسها التي صدر فيها قرار بنزع ملكية أراضي مساحتها 14400 متر مكعب، من أملاك أهالي منطقة بولاق أبو العلا، تضاف إلى أراضي عمومية بجزيرة بدران مساحتها 12300 متر مكعب، لمد خط ترام جديد يبدأ من مدرسة الصنايع ببولاق ويصل إلى روض الفرج، مع الاحتفاظ بحق الشركة في تنفيذ عملية نزع ملكية الأراضي من الأهالي بنفسها.

فإذا ما نظرنا إلى مشروع ترام القاهرة باعتباره جزءاً من مشروع عمراني واسع تبنته الدولة المصرية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنه قد أفضى إلى تغيير وجه المدينة القديمة، وخلق عالماً اجتماعياً وعمرانياً مغايراً خلال القرن العشرين، وبلور "رؤية عمرانية" لدى النخب الحاكمة لما يجب أن تكون عليه المدينة، كما أن مد الخط التاريخي على استقامته بإمكانه أن يفسر ما تتبناه الدولة المصرية من تغيير عمراني للمدينة منذ النصف الثاني للقرن العشرين، وهو يلبي الحاجة إلى توسيع شوارع القاهرة، وهذا ما انتهى إلى نزع قضبان خطوط الترام وعرباته تدريجياً من قلب المدينة، ثم اختفائه بشكل كامل من أطرافها عام 2019، وفقاً لكتاب سلام ترام "أرشفة المسارات المفقودة لترام القاهرة".

ولما كانت إعادة إنتاج النخب داخل المدينة يتمثل في رأسمال الحضرنة قد خلق حالة متوترة من التماهي بين الدولة والمقاولة، وفقاً لطرح ديفيد هارفي في كتابه "مدن متمردة... من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر"، إذ تصبح المدينة باعتبارها منتج حضاري، أولاً، سلعة يمكن إعادة إنتاجها وتعبئتها من أجل تعظيم الربح المادي والسياسي والأمني، وثانياً، حيز للصراع الطبقي، ومنفذ متجدد للمقاومة وإعلان الحق في المدينة، فإنه لا يمكننا إلا استشفاف الرؤية العمرانية ذاتها والتى تلقي بظلالها على ما تشهده القاهرة اليوم، وغيرها من مدن مصر، من عمليات تغيير عمراني عنيف وسريع، لا تمحو ظلال المدينة القديمة فحسب، بل تكاد تمحو ذاكرة أجيال كاملة.

-------------------------

(*) لقراءة الجزء الاول من هذه السلسلة المنشور تحت عنوان "سلام ترام... تحولات القاهرة من الحمار إلى "الترومواي" تتبع هذا الرابط


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image