سبعة عقود استغرقها مد شبكة الترام في أنحاء القاهرة للانتقال بين أحيائها المتسارعة الإنشاء والاتساع منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. وأشهر قليلة استغرقتها إزالة السلطات آخر ما تبقى من خطوط أول وسيلة مواصلات عامة حديثة عرفتها القاهرة في بدء القرن الفائت، وكانت شاهدة على تحولات المدينة السياسية والاجتماعية.
وكما كانت نشأة الترام مصحوبة بالتخوف والحذر من طارئ جديد، أتت إزالته مصحوبة بالغضب والتحفز أيضاً، ولكن لأسباب مختلفة تماماً.
وفق تاريخ مدينة القاهرة، فإن ظهور الترام نهاية القرن التاسع عشر كأول وسيلة انتقال حديثة تعتمد على الكهرباء، يعدّ حداً فاصلاً في تاريخها العمراني، ونقطة تحول في تاريخها الاجتماعي والاقتصادي.
جاء الترام نموذجاً صارخاً لأثر عمليات التحديث على حياتنا اليومية، وما قد يتبع ذلك التطوير العمراني من تغيُّر في أنماط المعيشة داخل المدينة ومحيطها، بل تغيير سلوك قاطنيها ونظرتهم لأنفسهم ولغيرهم من أصحاب المناطق والطبقات المختلفة.
وبالرجوع إلى كتاب عبد الرحمن زكي "القاهرة تاريخها وآثارها من جوهر القائد إلى الجَبرتي المؤرخ"، فإن القاهرة التي أسسها الفاطميون عام 968م لتكون مقراً جديداً لحكمهم، ظلت محاطة بمساحات واسعة من الحدائق والبرك تفصلها عن محيطها العمراني، حتى في زمن الأيوبيين بعد أن اجتمعت مع الفسطاط (أسسها عمرو بن العاص 640م)، والقطائع (بناها ابن طولون عام 870م) داخل سور موحد تطل عليها قلعة الجبل (مركز الحكم القديم) منذ عام 1176م. وفقاً للخطط المقريزي، فقد بقيت القاهرة تتكون من أحياء تقليدية تاريخية منعزلة بفعل البرك والقنوات المائية والحدائق.
يحكي ابن بطوطة، أن أعداد الحمّارين والمكارية (من يؤجرون حميرهم للركوب) وصلت في عصره ثلاثين ألفاً، يجوبون شوارع القاهرة ويجتمعون أمام أبوابها وميادينها الرئيسية، لنقل الناس إلى أي مكان مقابل أجرة متفق عليها وفقاً لتقدير المسافة
ومع التوسعات العمرانية التي أحدثها المماليك في شارع الصليبة ومنطقة الأزبكية، والتنظيمات المدينيّة التي عرفتها القاهرة في زمن العثمانيين؛ ظلت القاهرة على امتداد تاريخها مجموعة من الأحياء والتجمعات العمرانية المتفرقة والمتصلة نسبياً عبر طرقات قديمة ضيقة، كما يذكر المستشرق البريطاني "ستانلي لين بول"، في كتابه "سيرة القاهرة".
كذلك ظلت المسافات بين تلك الأحياء طويلة، تحتاج إلى مجهود كبير للتنقل بينها حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر، حين ردمت أغلب البرك تمهيداً لتشييد قاهرة الخديوي إسماعيل على الطراز الأوروبي عام 1868، والنزول من القلعة ليسكن منطقة عابدين (مقر الحكم الجديد).
ومن ثم جاء مشروع الترام بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كأول وسيلة مواصلات جماعية تربط أولاً بين القاهرة التاريخية وبين القاهرة الخديوية وأحيائها الأوروبية الجديدة، وتصل ثانياً بين قلب القاهرة والأحياء البعيدة المستحدثة والمُحدَّثة (شبرا - مصر الجديدة - المعادي).
(صورة أحياء القاهرة التاريخية ، نقلاً عن عبد الرحمن زكي)
حمار وكارُّو
على امتداد قرون طويلة هي تاريخ القاهرة نفسها، اعتمد سكانها على الخيول والبغال والحمير في التنقل بين أحيائها المتفرقة، ويخبرنا "طافور" الرحالة الإسباني الذي وصل إلى ميناء بولاق عام 1436عن طريق مركبة نيلية حملته من دمياط، أنه بعد وصوله إلى بولاق استأجر حميراً سريعة المشي مُجهزة بالبَرادع واللجم، نقلته إلى داخل أسوار القاهرة، وعلى الجانب الآخر داخل أسوار القاهرة كانت الحمير هيدالوسيلة الأمثل للتنقل بين شوارعها الضيقة، بسبب قدرتها على المرور بسهولة داخل تلك المساحات الشديدة التعرج، كما نعرف من خطط المقريزي الذي يصور لنا كيف كانت أزقة القاهرة الشديدة الضيق، وحاراتها المكدسة بالطباخين والدكاكين، فلا تنفرج إلا بالوصول إلى منطقة بين القصرين.
ويسجل ابن بطوطة الذي زار القاهرة في القرن الرابع عشر، كيف كانت العاصمة القديمة تمتلئ بالحمير نتيجة انخفاض أسعارها وسهولة امتلاكها أو استئجارها، وكذلك ركوبها إذا ما قورنت بالخيول التي اقتصر اقتناؤها على الأمراء والطبقة العليا من التجار والمشايخ. وقد وصلت أعداد الحمارين والمكارية (من يؤجرون حميرهم للركوب) ثلاثين ألفاً، يجوبون شوارع القاهرة ويجتمعون أمام أبوابها وميادينها الرئيسية، لنقل الناس إلى أي مكان مقابل أجرة متفق عليها وفقاً لتقدير المسافة. وازدادت أعداد المكارية زمن الحملة الفرنسية حين كسدت الأسواق، "وانقطع أرباب الصنايع واحتاجوا إلى التكسب بالحرف الدَنية، وأكثرهم عمل حَمَّاراً مكارياً، حتى صارت الأزقة - خصوصاً جهات العسكر - مزدحمة بالحمير"، بعد أن تضاعفت الأجرة نتيجة حاجة الفرنسيين الملحة لاستخدام الحمير، بحسب الجبرتي صاحب عجايب الآثار .
واستمر الاعتماد على الحمير كأهم وسيلة للتنقل داخل ضواحي القاهرة وأزقتها حتى نهاية القرن التاسع عشر، حسب ما جاء في كتاب نبيل الطوخي، طوائف الحرف في مدينة القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1841 – 1890). بل استمر الاعتماد عليها بشكل أساسي في شوارع القاهرة التاريخية والخديوية مع ظهور المواصلات الأحدث (الترام - العربات)، على حد قول ستانلي لين بول الذي عاش في مصر في مطلع القرن العشرين، إذ يذكر أن آلاف السياح يركبون الحمير منتقلين من ضواحي القاهرة الخديوية إلى الأحياء التاريخية في الغورية والجمالية التي لم تكن قد امتدت بعدُ إليها وسائل المواصلات الحديثة.
كان عدم انتظام شوارع القاهرة التاريخية هو أهم العقبات التي واجهت محمد علي في خطواته نحو تحديث المدينة. لذلك فإن أولى خطوات التغيير العمراني الجديد تمثلت في مد شارعين رئيسين يقطع كل منهما النسق العمراني للقاهرة التاريخية
ثم لجأت الحكومة المصرية إلى وضع لائحة الحَّمارة، التي يمكن الإطلاع عليها في قاموس الإدارة والقضا لـ "فيليب جلاد"، والتي اشتملت على شروط محددة للانضمام إلى طائفة الحمارين، بحيث لا ينضم إليها أي شخص إلا بعد أن يتجاوز عمره الـ14 عاماً، على أن يحصل كل مكاري على شهادة صحية تثبت أنه خالٍ من الأمراض، بالإضافة إلى حصوله على تصريح عمل محدد فيه اسمه وعمره والميدان المخصص له.
جزء من لائحة الحمَّارة، نقلاً عن قاموس الإدارة والقضاء
كذلك وضعت اللائحة عدداً من الضوابط يلتزم بها الحمّارة على نحو يضمن عدم الامتناع عن التوصيل، وعدم زيادة الأجرة، والالتزام بمواقف معينة وتسعيرة محددة، وعدم التشويش على المستخدمين والمارة بالشوارع. فلا يجوز للحمَّار الوقوف سوى في المواقف المحددة باللائحة، إلا إذا طلب منه أحد الركاب انتظاره في محل آخر، ويجب أن يكون انتظام الحمير في المواقف على صف واحد، بحيث لا يصير ازدحام بالطرق العمومية. كما أنه لا يجوز للحمَّارة رفض تأجير حميرهم ما لم يكن سبق تأجيرها. "ولا يجوز للحمَّارة أن يسيروا في الشوارع للبحث عن ركاب، بل عليهم أن ينتظروا الركاب في مواقفهم، ولا يجوز لهم ترك حميرهم متسابقين أمام الركاب، الأمر الذي ينشأ عنه إقلاق راحة الركاب، فلا يطلبون أجرة زيادة عن التعرفة الملحقة باللائحة أو أي تعرفة تصدر في ما بعد، وكذلك عليهم أن يمشوا دائماً بجانب حميرهم وألا يَبتعدوا عنها مطلقاً. ولا يجوز لهم ضرب حميرهم بقساوة، ويشرف رجال الأمن وشيخ الطائفة على التزام الحمَّارين الأوامر تلك، وما يضاف إليها من قبل رجال الضبط".
استخدم سكان القاهرة من الطبقة العليا الخيول في التنقل بشكل فردي أو من خلال استخدامها في جر عربات الآلاي والكارتة، وهي عربات خشبية ذات سقف وباب وشبابيك زجاجية، وبها مقاعد جلد مبطنة، ومثبته على أربع عجلات من حديد، يجرها زوجان من الأحصنة
كذلك تستخدم الحمير في جر عربات (الكارو /الكرلو)، وهي عبارة عن إطار من ألواح الخشب مسطحة تُضم بعضها إلى بعض على شكل مستطيل باستخدام المسامير، وقد كانت عربات الكارو واحدة من أهم وسائل النقل والمواصلات داخل القاهرة وغيرها من مدن مصر وضواحيها خلال قرون طويلة، لسهولة استخدامها وقدرتها على نقل مجموعة من الأشخاص والبضائع ، خاصة من المناطق الزراعية على أطراف القاهرة إلى داخل أسوارها، وقد وصل عددها نهاية القرن التاسع عشر إلى 1675 عربة (كرلو - صندوق)، إضافة إلى 174 عربة مخصصة لنقل المياه، وفقاً للخطط التوفيقية.
في حين تجر الخيول عربات الحنطور، وهو عربة مكشوفة مثبت بها إطاران من الخشب تتحرك عليهما، وفيها مكان أمامي مرتفع نسبياً مخصص للعربجي (سائق العربة)، وكنبة خلفية تتسع لراكبين وربما ثلاثة. ويتحدث علي مبارك في الخطط التوفيقية، عن وجود 486 عربة من عربات الحنطور المعدة للأجرة في شوارع القاهرة نهاية القرن التاسع عشر، يستخدم أغلبها أهالي القاهرة من الأعيان وكبار التجار، ولا تزال عربات الحنطور مستخدمة كوسيلة للنزهة والترفيه على كورنيش النيل.
أما سكان القاهرة من الطبقة العليا ومن أفراد أسرة محمد علي، فقد استخدموا الخيول في التنقل بشكل فردي أو من خلال استخدامها في جر عربات الآلاي والكارتة، وهي عربات خشبية ذات سقف وباب وشبابيك زجاجية مزخرفة بالأرابيسك والأويما الخشبية، وبها مقاعد جلد مبطنة، ومثبته على أربع عجلات من حديد، يجرها زوجان من الأحصنة، وقد عرفت تلك العربات بشكل محدود جداً منذ بداية القرن التاسع عشر، كما يذكر أندريه ريمون في كتابه "القاهرة تاريخ حاضرة". وظلت أعداد تلك العربات الفاخرة في تزايد حتى وصلت إلى 400 عربة مملوكة لأصحاب الطبقة العليا في القاهرة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفقاً للخطط التوفيقية.
ترامواي القاهرة
كان عدم انتظام شوارع القاهرة التاريخية هو أهم العقبات التي واجهت محمد علي في خطواته نحو تحديث المدينة. لذلك فإن أولى خطوات التغيير العمراني الجديد لمدينة القاهرة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، تمثلت في مد شارعين رئيسين يقطع كل منهما النسق العمراني للقاهرة التاريخية، وينتهيان إلى منطقة الأزبكية، أولهما عام 1845، وهو شارع السكة الجديدة (شارع الأزهر حالياً)، بحيث يقطع المدينة من منطقة الأزهر شرقاً حتى منطقة الموسكي غرباً، أما الشارع الثاني الذي بدأ العمل فيه منذ 1846، وهو شارع محمد علي، فيقطع المدينة بانحراف نسبي يبدأ من ميدان القلعة (مقر الحكم)، وصولاً إلى الأزبكية، وفقاً لكتاب عباس الطرابيلى، شوارع لها تاريخ.
ولما كانت النخب الحاكمة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ترى الانخراط في عملية تطوير عمراني واسعة للقاهرة التاريخية مشروعاً يتطلب مواجهة مشاكل لا حصر لها، ويحتاج أموالاً طائلة وأجلاً غير محدد، فقد جاءت القاهرة الخديوية على مساحة 808 هكتارات (ما يزيد عن 8 كم2) بطرازها الأوروبي، ضمن المشروع التحديثي للخديوي إسماعيل، كواجهة عمرانية حديثة، تم إلصاقها عام 1868 إلى الحد الغربي لمدينة القاهرة القديمة،وفقاً لـكتاب جان لوك أرنو، "القاهرة، إقامة مدينة حديثة 1867-1907"
وبحسب كتاب "سلام ترام - أرشفة المسارات المفقودة لترام القاهرة"، فإن هذه التغيرات العمرانية التي شهدتها القاهرة خلال القرن التاسع عشر جاءت جزءاً من عمليات تحديث أكبر شملت عدة مجالات صناعية واستثمارية عرفتها مصر بعد وصول أسرة محمد علي إلى سدة الحكم، وكذلك في سياق مشروع التحديث الذي شمل قطاعات تعليمية وثقافية متعددة أنتجت تغيرات اجتماعية كبيرة صاحبها بروز فئات اجتماعية جديدة (الأفندية - الموظفين - طلبة المدارس- عمال المصانع) أغلبها من سكان القاهرة القديمة، وقد ارتبطت مصالحها بأحياء القاهرة الخديوية وما تضم من المصالح الحكومية والمدارس النظامية والشركات التجارية، وكذلك الفبركات (المصانع)، وهو ما جعل من وجود وسيلة مواصلات جماعية تربط بين القاهرتين (التاريخية- الخديوية) وتلبي حاجة تلك الفئات، أمراً ملحاً، ومن ثم جاء مشروع ترام القاهرة كضرورة عمرانية واقتصادية.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1894، وافقت الحكومة على إنشاء خطوط الترام في شوارع القاهرة، بمنح امتياز المشروع إلى شركة استثمار بلجيكية عرفت في مصر بـ "شركة ترامواي القاهرة"، على أن يشتمل الامتياز (نظام انتفاع اقتصادي اعتمد في مصر الخديوية)، على مد ثمانية خطوط، تبدأ جميعها من ميدان العتبة، وفقا لكتاب سيد كيلاني "ترام القاهرة"، بحيث يتجه الخط الأول إلى ميدان محمد علي "القلعة لاحقاً"، والثاني نحو بولاق، والثالث إلى باب اللوق، والرابع يتوجه إلى العباسية مروراً بالفجالة، على أن يتحرك الخط الخامس من العتبة نحو مصر القديمة، فينتهى عند فُم الخليج، ومنها يمر فوق قنطرة (كوبري) إلى منيل الروضة، وهو الخط السادس. أما الخط السابع فينتقل إليه الركاب عبر معديَّة بخارية إلى الجيزة "عبر كوبري عباس فيما بعد"، بينما يتحرك الخط الثامن من ميدان قصر النيل موازياً الترعة الإسماعيلية حتى ينتهي عند قنطرة الليمون.
خريطة ترام القاهرة مضافاً إليها خط المترو الأول، قبل إزالة خطوط الترام تدريجياً
مع دخول الترام الكهربائي، شهدت القاهرة نقلة حضارية واجتماعية، وخلال سنوات قليلة أصبح وسيلة التنقل الرئيسية لأهالي القاهرة ومحيطها العمراني. وبحسب كتاب غادة فاروق "الخروج من الأسوار"، فإن خطوط الترام التي استوعبت 15 مليون مستخدم عام 1901، ما لبثت أن تمددت لتستوعب ما يقترب من 54 مليون راكب عام 1914، ثم تزايدت أعداد مستخدمي الترام إلى 75 مليون عام 1917، وهي بلا شك أعداد ضخمة مقارنة بعدد سكان القاهرة الذي لم يتجاوز 800 ألف في مطلع القرن العشرين، وفقاً لـكتاب جان لوك أرنو، القاهرة، إقامة مدينة حديثة "1867-1907".
وأدى الاعتماد على وسيلة انتقال جماعية إلى تغيرات كبيرة في شكل الحياة الاجتماعية داخل المدينة، بعد أن سهل الترام اجتماع تلك الأعداد من رجال ونساء على اختلاف طبقاتهم وتنوع أحيائهم السكنية. ووفق "وثائق شركة الترام" المؤرشفة في مركز سرد للتاريخ والأبحاث الاجتماعية (أرشيف شبرا)، يمكننا تصور شكل التفاعلات اليومية داخل الترام، حيث تحفظ لنا الوثائق واقعة تعدي أحد الكمسارية عام 1912 بالضرب على طالب من مدرسة السعدية الذي اشتكاه بدوره إلى نقطة البوليس، فحكمت المحكمة بتغريم الكمساري 100 قرش، إضافة إلى ذلك فإن إدارة المدرسة السعدية أرسلت إلى شركة الترامواي تطلبها بالتشدد على عمالها كي يحسنوا معاملة طلابها.
كذلك تحفظ لنا الوثائق شكوى إدارة مدرسة عباس الأميرية سنة 1913 من الأصوات المرتفعة والمصاحبة لمرور الترام بجوار المدرسة بسبب التشويش على المعلمين أثناء التدريس، ومن ثم أرسلت المدرسة إلى إدارة شركة الترامواي تطالبها بتخفيف سرعة خط شارع السبتية، إضافة إلى شكوى سكان الجيزة من شركة الترامواي بعد ارتفاع سعر التذكرة في خط العتبة – الجيزة إلى 10 مليم، بعد بناء كوبري عباس عام 1914، وهو بلا شك يعكس إلى أي مدى تغلغل الترام في وقت قصير داخل حياة المصريين اليومية.
هكذا نجح الترام خلال القرن العشرين في ربط أحياء القاهرة المتفرقة ويسّر حركة التنقل بين ضواحيها المختلفة، بل ساهم في تغير وجه القاهرة القديمة، وفي تشكيل الامتدادات العمرانية للقاهرة التي نعرفها اليوم (قبل عمليات التطوير العمراني الأخيرة)، وخلق حالة من التداخل العمراني والاجتماعي جعلت منه جزءاً أصيلاً لا ينفصل عن ذاكرة المصريين، وفقاً للذكريات التي تولّى جمعها وأرشفتها فريق مركز سرد للتاريخ والأبحاث الاجتماعية (أرشيف شبرا).
لكن ذلك لم يمنع أهالي القاهرة من استخدام الوسائل القديمة من الحناطير وعربات الكارو التي صمدت رغم ذلك أمام التغيرات العمرانية المتلاحقة، واستطاعت أن تجد لنفسها مساحة على هامش شوارع القاهرة التي اكتظت بالعربات خلال النصف الثاني من القرن العشرين، في حين عجز الترام بعد أن أصابه الإهمال التدريجي عن الصمود أمام تلك التغيرات العمرانية المتتالية والقائمين عليها، وقُتل ما تبقى منه على يد هؤلاء الذين لم ينظروا إليه إلا باعتباره "عائقاً" في وجه تحديث مدينة القاهرة وتمددها العمراني ليخلوا مساحاته الباقية لصالح السيارات، في وقت تنادي التقارير والدراسات الدولية بتحديث وتوسيع الاعتماد على وسائل النقل الجماعية الصديقة للبيئة، وعلى رأسها الترام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.