في شارع الجميزة في بيروت، كاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنْ يصرخ مع حشود الساخطين: "كلن يعني كلن…" و"هيلا هيلا هو…". لفعلها ربما لو خلع عنه بدلة رئيس الجمهورية الفرنسية. لفعلها ربما لو ارتدى بدلة الثوار الفرنسيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، أولئك الذين لا يساومون في المعركة ضد الظالمين.
لكن في صباح ذلك السادس من آب/ أغسطس 2020، وبعد يومين من انفجار مرفأ بيروت بمئات الكيلوغرامات من نيترات الأمونيوم، لم يجسّد ماكرون في شارع الجميزة سوى شخصية الرئيس الفرنسي التقليدي، ذلك أن مواقفه الفعلية وتصرفاته الملموسة لم تعكس في النتيجة سوى السياسة التقليدية الفرنسية.
صحيح أن دبلوماسية ماكرون أطلقت، رداً على المأساة التي تسبب بها تفجير المرفأ، مساراً دولياً لتوفير مساعدات إنسانية وصحية طارئة للبنان من دون المرور بالمؤسسات الحكومية الرسمية، ومن خلال المنظمات غير الحكومية، وهو تصرف غير مألوف، قوبل بتحفظات عدة، كون هذا المسار الذي تجسد بثلاثة مؤتمرات دولية لجمع الهبات من الدول المانحة أثار تساؤلات ومخاوف بشأن إمكانية تحوّل لبنان إلى "جمهورية منظمات غير حكومية"، وهو سيناريو غير ملائم لإعادة بناء الدولة القوية والموحدة... إلا أن نتائج هذه الدبلوماسية كانت محصورة بالجانب الإنساني، ولم يتبعها خروج عن اللعبة الفرنسية التقليدية حيال الواقع السياسي اللبناني.
عادات الدبلوماسية الفرنسية
من عادات الدبلوماسية الفرنسية أن تتعامل مع المسألة اللبنانية على قاعدة الحفاظ على التوازن الداخلي الهش بين الطوائف والقوى الممثلة لها والتي تتشارك السلطة السياسية.
هذه العادة تجلّت بوضوح خلال فترة الفراغ الرئاسي بين العامين 2014 و2016، ثم خلال الدعم الفرنسي للتسوية الرئاسية بين سعد الحريري وميشال عون ولحكومة الوحدة الوطنية التي تشكّلت بعد انتخاب عون ثم بعد انتخابات 2018. باريس طرحت نفسها حينذاك بوصفها لاعباً "مواكباً" لعملية إعادة النهوض الاقتصادي للبنان. وتُوِّج الدعم، في نيسان/ أبريل 2018، بتنظيم مؤتمر "سيدر" الذي جمع نحو 11 مليار دولار أمريكي، لصالح مشاريع بنى تحتية يحتاجها البلد. وكان واضحاً من الطريقة التي أدارت بها فرنسا مسار "سيدر" أنها لا تسعى إلى أي انقلاب على مقاربتها السياسية التقليدية للنظام اللبناني.
الجديد... ضغط من أجل الإصلاحات
جديد السياسة الفرنسية تجاه لبنان تمثل فقط في جدية الضغط على القوى الحاكمة بشأن شروط تلقي الحكومة لتمويلات يحتاج إليها اقتصاد البلد المنهار بشدّة. صارت القاعدة: لا مساعدات مالية واقتصادية من دون إصلاحات هيكلية.
وكان الالتزام الفرنسي، كما الأمريكي والدولي، حازماً في هذا الاتجاه. فحتى اليوم، لا يبدي المجتمع الدولي أي استعداد لمساعدة لبنان من أجل وقف الانهيار المالي والاقتصادي وصولاً إلى إعادة النهوض، قبل تطبيق مجموعة من الإصلاحات والقضاء على الفساد وضمان الشفافية والمساءلة والمحاسبة.
مَن لديه شرعية؟
لعبة الشروط هذه لم تدفع باريس إلى تغيير عاداتها الدبلوماسية. تعتبر أن من واجبها الاعتراف بالأطراف السياسية الأساسية وبالحكومة المنبثقة عن انتخابات شرعية. وهذا مبدأ سبق أن شدد عليه ماكرون علناً أثناء زيارته الشهيرة، صيف العام 2020، حين ألقى باللوم على الشعب اللبناني الذي ينتخب ويعيد انتخاب القوى نفسها.
في صباح السادس من آب/ أغسطس 2020، وبعد يومين من انفجار مرفأ بيروت، وفي شارع الجميزة في العاصمة اللبنانية، كاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنْ يصرخ مع حشود الساخطين: "كلن يعني كلن…"... لكن مواقفه الفعلية وتصرفاته الملموسة لم تعكس في النتيجة سوى السياسة التقليدية الفرنسية
العامل الجديد في السياسة الفرنسية تجاه لبنان قد يكون متمثلاً في محاولة إقناع القوى السياسية التقلدية بتعديل سلوكياتها. صحيح أن ماكرون قال، في كانون الأول/ ديسمبر 2022، إنه "يجب تغيير قيادة هذا البلد" و"إزاحة" القادة الذين "يعرقلون الإصلاحات"، إلا أن الدبلوماسية الفرنسية تدرك استحالة تحقيق تغيير سياسي جذري واستبدال الفريق الحاكم بآخر جديد.
من هنا، لا يمكن تفسير مساعي باريس إلا بوصفها عملية ضغط على القوى التقليدية لدفعها إلى تقديم مسؤولين وموظفين حكوميين ووزراء غير فاسدين أو أقل فساداً. وهذا على ما يبدو كان قصد ماكرون من إطلاقه مبادرته الشهيرة، إثر تفجير مرفأ بيروت، لتشكيل حكومة جديدة برئاسة سفير لبنان لدى ألمانيا، مصطفى أديب، بمشاركة وزراء تكنوقراط وغير حزبيين، لكن يحظون بغطاء من قبل القوى التقليدية الممثلة في البرلمان.
في المحصلة، فشلت مبادرة ماكرون بسبب تعنت القوى السياسية المهيمنة، وفي مقدمتها "الثنائي": حركة أمل وحزب الله.
أداء فرنسا موضع انتقاد
اليوم، أمام أزمة الفراغ الرئاسي التي بدأت في خريف العام 2022، عقب انتهاء ولاية ميشال عون، لم تغيّر فرنسا عاداتها. هذا ما يضعها في موضع انتقاد لاذع من قبل بعض مَن يريد منها أن تتخذ مواقف أكثر جذرية حيال حزب الله وأقل مهادنة معه.
العامل الجديد في السياسة الفرنسية تجاه لبنان قد يكون متمثلاً في محاولة إقناع القوى السياسية التقلدية بتعديل سلوكياتها، وبتقديم مسؤولين وموظفين حكوميين ووزراء غير فاسدين أو أقل فساداً
ما يُحكى في وسائل الإعلام عن تأييد فرنسا لوصول مرشح قوى الممانعة سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، بل سعيها إلى ذلك، مع أن فرنجية يمثل أقلية في الشارع المسيحي، مقابل حزبي "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر"، يثير امتعاض البعض، وفي مقدمتهم الزعيم المسيحي، رئيس "القوات اللبنانية" سمير جعجع.
الساخطون يتهمون باريس بأن دوافع موقفها تتمحور حول مصالحها التجارية والاقتصادية والمنافع التي يمكن أن تجنيها شركاتها من خلال مقايضة محتملة مع محور الممانعة وحزب الله. تأويل كهذا يقود إلى نعت أدائها بوصفه انتهازياً ونفعياً. فهل لعبة فرنسا في لبنان أسيرة المصالح فقط أم تُحَرِّكها أيضاً هواجس خاصة بمصير هذا البلد؟
بين المنافع والاستقرار
لا شك أن البحث عن عقود وصفقات واستثمارات وأسواق جديدة هو هدف أوّل للدبلوماسية الاقتصادية الفرنسية. والحديث القائل إن نظرة فرنسا إلى سوريا وإيران من منظور الأسواق الواعدة في المستقبل، لا ينطوي على سوء تقدير أو إجحاف.
لكن في المقابل، لا يمكن استسهال توجيه الاتهام لفرنسا بأنها تضحّي بالقيم على حساب المصالح. قد تفعل ذلك في ظرف محدد. وقد تخفف من شروطها المتعلقة بالقيم من أجل تسهيل اتفاقات تحقق لها مصالحها. بيد أنه في ما يتعلق بإيران والنظام السوري وحزب الله، لا دليل دامغاً على أنها تتساهل معهم اليوم. على العكس، هي تجمع بين سياسة متشددة، وعقابية أحياناً، وبين واقعية سياسية هدفها التخفيف من الأضرار التي يمكن أن يتسبب بها محور الممانعة بزعامة إيران في المنطقة وفي لبنان.
وعليه، يمكن القول إن المقاربة الفرنسية حيال مشكلة لبنان تستند إلى دعامتين: الاستقرار الأمني والإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية. أما استعادة السيادة الكاملة للدولة وبسط سلطتها على كامل أرضها، واحتكارها قرار الحرب السلم ونزع سلاح جميع الميليشيات، لا سيما سلاح حزب الله، فكلها أهداف ثابتة لم تتخلَّ عنها الدبلوماسية الفرنسية لكنها تعمل على تحقيقها بحذر وبنَفَس طويل، من دون المجازفة بسياسات من شأنها أن تتسبب بزعزعة الاستقرار.
ألم يبرر ماكرون تدخله لدى السعوديين، في خريف العام 2017، من أجل الإفراج عن رئيس الحكومة المعتقل في الرياض سعد الحريري وإعادته إلى منصبه على رأس الحكومة اللبنانية، بالتأكيد على أنه لو لم تتدخل فرنسا لكانت وقعت حرب في لبنان؟
هاجس الحرب يقود الدبلوماسية الفرنسية إذاً إلى الانخراط في سياسة غير استفزازية. يجعلها تعطي الأولوية للحوار بدلاً من التحدي. صحيح أن "تبني" ترشيح فرنجية يُعتبر استسلاماً لفريق الممانعة، لكن وجود فرنسا على "طاولة حوار" مع حزب الله بشأن الاستحقاق الرئاسي قد يوفّر مناخاً مساعداً على دفع الأخير إلى التعاطي بليونة وبالتالي إلى تقديم تنازلات، يصعب انتزاعها منه إذا عُزل.
فهل تساهم المرونة الفرنسية في إضفاء طابع من المرونة على سياسة حزب الله المعروف تاريخياً بتعنّته؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...