من يتابع طريقة عمل أصحاب المولدات الخاصّة في لبنان، خاصّةً في مدنه الكبرى، يدرك حقيقة حجم تحكّم هؤلاء وسيطرتهم، ليس فقط على الشوارع التي جعلوا أنفسهم أمراء عليها، وإنما على حياة المواطنين اللبنانيين.
في لبنان اليوم، أو في غالبية مناطقه، صاحب المولّد هو من يقرّر التسعيرة، وهو من يقرر من أين يحق لك أن تشترك، وله أن يقطع عنك الكهرباء من دون سابق إنذار. فعدا عن تفلّت عدد من أصحاب المولّدات الخاصة من اعتماد التسعيرة الرسميّة، أو تركيب العدادات للمواطنين، أو اعتماد ساعات تغذية معيّنة، وصلت الوقاحة ببعضهم إلى سرقة الدولة نفسها، عبر سرقة كهرباء الدولة وبيعها للمواطنين على أساس أنها من إنتاج مولداتهم.
أخبار السرقة باتت مؤكّدةً
عباس، شاب جنوبي يقطن في منطقة البسطة التحتا في العاصمة بيروت، يروي لرصيف22، كيف أن صاحب المولّد الذي يتحكم في الشارع الذي هو فيه، وبتغطية من مسؤولين من الثنائي الشيعي وحمايتهم، يتقاضى 100 دولار عن كل 5 أمبيرات، ويزوّد منزله بالكهرباء 12 ساعةً فقط، وأنه طالبه مع عدد من المشتركين مرّات عدّة بتركيب عدّادات، لكنه كان يرفض ذلك، بحجّة أن العداد يُلحق به الخسائر.
قامت شركة كهرباء لبنان بمؤازرة من القوى الأمنية بضبطه متلبساً وهو يسرق كهرباء الدولة ويبيعها للمواطنين
والبسطا التحتا، بحسب التقسيم الإداري، تضم البسطة التحتا والبسطة الفوقا والخندق الغميق وحي اللجا وزقاق البلاط، وهي أماكن تشهد حضوراً شيعياً، تشكّل نتيجة النزوح من الجنوب اللبناني بسبب الاعتداءات الإسرائيلي المتكررة، والهرب من آلة القتل الإسرائيلية بدءاً من عام 1948، حتى ما بعد الاجتياح عام 1982، ويسيطر عليها اليوم الحزبان المتحكمان في الطائفة الشيعية، حزب الله وحركة أمل.
ما أثار حفيظة عباس، الذي رفض ذكر اسمه كاملاً، خوفاً من تعرضه لأي مضايقات، هو استمرار التغذية من المولد الخاص الذي لا يبعد إلا عشرة أمتار عن منزله، وهو في حالة إطفاء، بالتزامن مع انقطاع كهرباء الدولة عن الشارع الذي يقطنه، وهذا ما أوقعه في الشك، فدفعه فضوله إلى الذهاب في جولة على مولدات عدة يمتلكها صاحب الاشتراك نفسه، ليجد أن علب الكهرباء الخاصة بشبكة الاشتراك تصل إليها الكهرباء، والتي تغذي منزله واحدة منها، وفي الوقت عينه يكون المولد الخاص مطفأً، ليتبين أن صاحب المولدات يغذي أحياءً مقطوعة عنها كهرباء الدولة من أحياء تحضر فيها كهرباء الدولة، بعمليّة سرقة موصوفة.
من جهته، يقول ماجد، الذي يسكن في شارع بربور، ذي الغالبية الشيعية أيضاً، إن مسألة سرقة كهرباء الدولة من قبل أحصاب المولدات الخاصة أمر مؤكّد، ويضيف: "صاحب المولّد لدينا في الحي، أقام محطّةً كبيرةً في أحد المستودعات تحت الأرض، وأهل الحي يعلمون بأنه يسرق الكهرباء عبر كابلات كبيرة من إحدى غرف الكهرباء التابعة لمؤسسة كهرباء لبنان، وفي يوم من الأيام احترقت محطته نتيجة خطأ تقني، لكن لم تحضر القوى الأمنية لمعاينة الحادث، ولم يتجرّأ أحد على أن يدخل إلى المستودع للاطلاع على حقيقة ما حصل، لأنه محميّ من القوى السياسيّة المسيطرة".
هذه التجاوزات ليست مقتصرةً على مناطق تواجد الثنائي الشيعي، ففي العديد من المناطق اللبنانية وحيث توجد سيطرة حزبية وسياسيّة، نرى حمايةً لأصحاب المولدات، الأمر الذي يعزز من سطوتهم، ومن المرجح أن تكون هناك مصالح مشتركة بين مسؤولي الأحزاب في المناطق والأحياء مع أصحاب المولدات.
كيف تتم عمليّة السرقة؟
الشهادات السابقة، تؤكد خبر توقيف صاحب مولّد خاص في مدينة صيدا جنوب لبنان، قبل نحو أسبوعين، إذ قامت شركة كهرباء لبنان بمؤازرة من القوى الأمنية بضبطه متلبساً وهو يسرق كهرباء الدولة ويبيعها للمواطنين، وسُطّر في حقه محضر ضبط وتم توقيفه، وفق ما صرح مصدر خاص في مؤسسة كهرباء لبنان، لرصيف22.
ويشير إلى أن "وجود شبكات المولدات الخاصة، وهي عبارة عن 10 إلى 15 كابلاً على الأعمدة نفسها التي تحمل كابلات شبكة كهرباء لبنان، يسهّل عمليّة السرقة، إذ تختلط هذه الكابلات مع بعضها البعض، وهنا يقوم صاحب المولد بالسرقة من خط كهرباء لبنان، ونظراً إلى غياب الأجهزة الحديثة التي تكشف مكامن الهدر، يضطر الفنيّون في المؤسسة إلى الكشف على كل الخطوط عبر مراقبتها بشكل دقيق للتأكد من سلامتها، والتداخل على الأعمدة يصعّب أحياناً كشف عملية السرقة".
فضول عباس دفعه إلى الذهاب في جولة على مولدات عدة يمتلكها صاحب الاشتراك، ليتبين أنه يغذي أحياءً مقطوعة عنها كهرباء الدولة من أحياء تحضر فيها كهرباء الدولة، بعمليّة سرقة موصوفة
يتساءل البعض عن إمكانية أن يكون هناك تواطؤ بين أصحاب المولدات الخاصة والفنيين العاملين في المؤسسة لإتمام عمليّة السرقة، وهذا ما يستبعده المصدر، ويقول: "في حال كُشفت السرقة، فسيظهر في التحقيق كل الضالعين في العملية، إلا أن أصحاب المولدات لديهم فنيّون كهربائيّون يعرفون هذه الحيل ويقومون بها"، لافتاً إلى أنها ليست المرّة الأولى التي تحصل هكذا عمليّة وتقوم كهرباء لبنان بقمعها، فقبل عامين تم توقيف شخص بالجريمة نفسها وتم تغريمه من قبل القضاء.
أين أجهزة الدولة؟
بحسب المرسوم الاشتراعي الذي يحمل الرقم 18، والصادر عام 1953، فقد أُعطي المحافظ صلاحيات واسعةً في التدخل وضبط المخالفات ومراقبة سير المرافق العامة والسلامة العامة وكل ما يتدخّل في الشؤون الحياتية للمواطن. كذلك يحق له تسطير محاضر الضبط بحق أصحاب المولدات المخالفين ومصادرة المولّد وتولّي مهمّة تشغيله بناءً على إشارة قضائيّة.
وهنا كان لا بد من سؤال محافظ بيروت القاضي مروان عبّود، عن علمه بهذه التجاوزات ضمن محافظته. وقد قال لرصيف22، إنه سمع بأخبار تتحدث عن هذه السرقات التي يقوم بها بعض أصحاب المولدات الخاصة، إلا أنه لم يجرِ التأكّد منها لأن المحافظة لا تستطيع أن تلاحق كل شيء في نطاقها في ظل النقص الحاصل لديها في الكادر البشري، ويضيف: "أنا لا أستطيع أن أبحث في كل بيروت، نحن بمجرّد أن نتلقى معلومات دقيقةً سنتحرّك. أنا سمعت كلاماً من هذا القبيل لكن لا توجد لدينا معلومات مؤكّدة، وعلى المواطنين الذين يعلمون بهكذا تجاوزات أن يبلّغونا لكي نتحرّك".
ويشرح أنه "من مهمّة مؤسّسة كهرباء لبنان الكشف، وملاحقة من يسرق الكهرباء، والمؤسسة قامت بحملات لإزالة التعديات عن الشبكة بمؤازرة القوى الأمنية، ونحن في المحافظة في حال تلقّينا أي شكوى بهذا الخصوص، بالتأكيد سنذهب ونرفع المخالفات وسنكون إلى جانب كهرباء لبنان، فهم من يعرفون المحطات وطرق التهريب التي تحصل من المحوّلات".
ما الذي يدفع صاحب مولد خاص ليسرق من كهرباء الدولة، وهو أساساً لا يلتزم بتسعيرة الدولة ولا بتركيب العدادات؟ يشير أحد أصحاب المولدات الخاصة في بيروت (فضّل عدم ذكر اسمه)، لرصيف22، إلى أن "العدادات تلحق خسائر بصاحب المولّد، لأن المواطن بمجرّد أن يركّب العداد فسيعمد إلى انتهاج سياسة التقنين في منزله، وتالياً ينخفض بيع الكهرباء وينخفض معه الربح، فالتكاليف عالية من مازوت وزيوت وأجرة صيانة وموظفين وغيره".
وكان أصحاب المولدات منذ استفحال أزمة المازوت قد اعتمدوا التسعير بالدولار الأمريكي، كي يحافظوا على نسبة أرباحهم، وهو ما يؤكده صاحب المولد الذي تحدثنا إليه، إذ يقول إن "التسعير بالدولار أبقى على أرباح أصحاب المولدات ولو بنسب مختلفة، بين منطقة وأخرى أو بين صاحب مولّد وآخر".
صدر قرار عام 2021، يحمل الرقم 40، يُلزم أصحاب المولدات الكهربائية الخاصة، بتركيب عدادات على نفقتهم للمشتركين خلال شهر واحد
العدادات لا تُخسّر
"العدادات لا تخسّر بكل تأكيد، وهذه حجّة ابتدعها البعض للتهرّب من تركيب العدادات"، وفق ما يقول المهندس الميكانيكي سبع نصر الدين، لرصيف22، ويشير إلى أن "العدّادات تريّح المشتركين كثيراً فكل مشترك يدفع ثمن ما يستهلكه، وهذا ما سيخفف من الاستهلاك الكبير للكهرباء ويخفّض ولو بنسبة بسيطة أرباح صاحب المولد الخاص، لكن من المؤكّد أن أصحاب المولدات مستمرّون في تحقيق أرباح جيّدة ولا ينهارون إطلاقاً".
ويرأس نصر الدين مشروعاً للمولدات الخاصة أسسته جمعية إنماء بلدة القماطية، عام 2011، برعاية البلدية، ويؤكّد أن "الجمعية اعتمدت منذ ذلك الوقت العدّادات، وهي لم تخسر على الإطلاق، وأكبر دليل على ذلك استمرارها حتى اليوم وبرغم كل الظروف الصعبة التي مرّت بالوطن، من انقطاع مادة المازوت إلى غياب كهرباء الدولة التام ولفترات طويلة".
ويلفت إلى أن عناصر الكلفة بالأساس، والتي تتراوح ما بين 85-87%، هي كلفة المازوت وثانياً تأتي كلفة الصيانة، فإذا ما تم تأمين هذين العنصرين، تكون الاستمرارية قد تأمّنت، ويقول: "نحن نعتمد العدادات ونؤمّن ساعات تغذية تصل إلى 16 ساعةً في النهار، ونحن نسعّر كل شهر حسب متغيّرات السوق ولهذا أنا لا أقول إننا لا نربح، بل نحن نربح لأنه علينا أن نؤّمن استمرارية المرفق".
ويضيف: "لا شك في أن أصحاب المولدات الذين لا يعتمدون العدّادات يراكمون أرباحاً كبيرةً، فما بالك بمن يسرق من كهرباء الدولة ليريح مولّده ويوفّر استهلاك المازوت والكلفة التشغيليّة؟".
وكان وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام في حكومة تصريف الأعمال، قد أصدر قراراً في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر عام 2021، يحمل الرقم 40، يُلزم من خلاله أصحاب المولدات الكهربائية الخاصة، بتركيب عدادات على نفقتهم للمشتركين خلال شهر واحد، إلا أن الالتزام بالقرار كان ضعيفاً، مع عدم وجود آلية متابعة واضحة لدى الوزارة.
تجاوزات كثيرة يقوم بها بعض أصحاب المولدات الخاصة في العديد من المناطق اللبنانية، فأمراء الأحياء يتحكّمون في كل شيء، ويبتزون الناس وينهبونهم ويسرقون الدولة في آن معاً، وهذا كله مظهر من مظاهر انحلال الدولة، فما كُشف عنه في صيدا، يجري في العديد من المناطق، لكن ربما أجهزة الدولة لا تعلم أو أنها تعلم لكنها عاجزة أمام مافيا المولّدات، لكن مما لا شك فيه أن العلّة الأساسيّة لما نحن فيه، هي فشل وزارة الطاقة والمياه في تأمين الحد الأدنى المطلوب منها: الكهرباء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.