شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ناس الغيوان"... غنّوا للمظلومين وأبكوهم وبكوا معهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الخميس 27 أبريل 202301:47 م

لا تعرف كثير من الأجيال الجديدة فرقة "ناس الغيوان" المغربية، التي جمعت في سنوات نشاطها خلاصة مزاج وحِدّة وتمرد وثورية السبعينيات. وأحلام الشباب بالحرية، والتي لم تزل أصداء  أغنياتها مثل "الله يا مولانا" و"غير خدوني" و"يا بني إنسان" تتردد في كل مكان.

في ما يلي، إضاءة على تلك الحالة الفنية المغربية، وبداياتها، وأجمل أغنياتها ومناسبات هذه الأغنيات، وأبطالها، ونهاية الفرقة.  

ناس الغيوان

ينطقون باسم الحلم

"يا اللي ما شفتوني رحمو عليا
أنا راني مشيت  
وأنا راني مشيت والهول داني
والديا وأحبابي ما سخاو بيا
بحر الغيوان ما دخلتو بلعاني"

هكذا قالوا في أغنيتهم الشهيرة "الصينية" التي عاش على إيقاعها أجيال من المغاربة. فقد غاصت "ناس الغيوان" في أعماق المواطن المغربي وكانت لسان حاله الذي ينطق به، حيث نقلت معاناته التي كان يصمت عنها، وأماطت اللثام عن مواجعه في زمن من النكبات المتتالية.
حظيت الفرقة بشعبية واسعة في المغرب وجميع البلاد العربية، فكان يتابع حفلاتها الغنائية الملايين من المغاربة الذين يحجون من كل حدب وصوب لارتشاف موسيقاهم، فتجد بعضهم ينتشي بالإيقاعات الشعبية، والبعض الآخر يترنح ألماً بعد أن يسمع عمر السيد أو بوجميع أو باطما يحكون قصته، أو قصة حبيب أو قريب أو صديق مفقود أو مسجون أو مغدور به.

يقول بعض الباحثين إن عبارة "ناس الغيوان" تعني "أهل الفهامة"، بينما ذهب آخرون إلى ربطها بالترحال والتجوال

ناس الغيوان

يسبرون أغوار الكلام

انبثقت فرقة "ناس الغيوان" من عمق "الحي المحمدي" في مدينة الدار البيضاء بداية سبعينيات القرن الماضي، وحملت اسمها استناداً لمحاولتهم سبر أغوار الكلام والنهل من منابعه وفهم ما وراء معانيه، حتى أن بعض الباحثين قالو إن عبارة "ناس الغيوان" تعني "أهل الفهامة"، بينما ذهب آخرون إلى ربطها بالترحال والتجوال. 

تابع حفلات ناس الغيوان ملايين المغاربة، فنرى بعضهم يترنح ألماً بعد أن يسمع عمر السيد أو بوجميع أو باطما يحكون قصته، أو قصة حبيب أو قريب أو صديق مفقود أو مسجون أو مغدور به

ارتبطت جذور نشأة الفرقة ارتباطاً وثيقاً بعزة نفس كبيرة، ففي أحد اللقاءات الصحافية للمخرج الطيب الصديقي قال إنه "يعتبر الممثلين في فرقته حقل تجارب"، كانت هذه التصريحات سبباً في ترك العربي باطما وعمر السيد المسرح نهائياً وتوجههما للغناء، لينضم لهما لاحقاً كل من عبد الرحمان باكو وعلال يعلى وبوجمعة أحكور "بوجميع"، ويؤسسوا معاً فرقة غنائية ستترك بصمتها فيما بعد على التراث الفني في المغرب والعالم العربي.
هكذا، جابت الفرقة الموسيقية الجديدة الزمان والمكان عبر كلماتها وأغانيها، إذ التفت حول هموم المغاربة التي ترجمتها أشعار العربي باطما، وبوجميع. وصدح بها صوت عمر السيد، وعزف إيقاعاتها كل من علال يعلى، وعبد الرحمان باكو.

ناس الغيوان

عمق الكلام وعذب الأنغام

إذا تأملنا في أغنيات "ناس الغيوان"، سنجد أنها مفعمة بالتراث المغربي الأصيل الذي يمزج بين فنون عديدة، منها "العيطة" و"كناوة" و"عيساوة". كما أن فيها بعضاً من النفحات الصوفية والروحانية، وكثيراً من الثورية والاحتجاج على القهر السياسي والاجتماعي الذي عاشه المغاربة خلال ما يسمى بـ"سنوات الرصاص".
يقول الباحث محمد همام في كتابه "الفن المغربي جاذباً للاندماج الاجتماعي: دراسة في النص الغنائي لمجموعة ناس الغيوان" أن "الجمل الموسيقية في أغاني المجموعة مستمدة من أنين الجذور وبكاء الأمهات وصيحات الأطفال وأوجاع الفقراء وآلاء المساجين، مع استيحاء خيالات غنائية شعبية أصيلة كانت مغمورة ومحتقرة".
ويضيف الكاتب أن النص الغنائي لهذه المجموعة التي وصفها بـ"الظاهرة"، هو عبارة عن "نص زجلي شعري وإنجاز موسيقي وغنائي معاً، الأمر الذي يضعه إلى جانب الحكايات الشعبية في مستوى واحد دون الإضاءة على القيم الثقافية التي يبتدعها المجتمع".
مشيراً إلى أن هذه المجموعة "عمقت البعد اللَّحني المتعدد والمندمج من خلال الانفتاح على قوالب إيقاعية، غربية المنشأ أو شرقية أو أفريقية، عبر عمل موسيقي تجريبي، أنجزه عازفها عبد الرحمان باكو بفضل احتكاكه بموسيقيين عالميين في مدينة الصويرة، ملتقى الثقافات والإيقاعات العالمية، وهو ما أكسبه قدرة العزف الباطني الذي تهز أوتاره الروح".
ومن أجل ترجمة هذه الألحان إلى أنغام متمازجة، اعتمدت المجموعة على آلات متنوعة، منها "الطبل" و"البندير" و"الطمطم" و"الهراز" و"الدعدوع"، إضافة إلى "البانجو" و"الهجهوج" المستمد من الموسيقى الإفريقية.

ناس الغيوان

وفاة بوجميع.. القشة التي قصمت ظهر "الغيوان"

كان لبوجميع شأن كبير في رسم التوجه الفني لمجموعة ناس الغيوان، حيث غنى لحياة البادية والبساطة وللمهاجرين وللأرواح التعيسة والنفوس الكئيبة، قبل أن يتوفى ذات يوم، بعد إحياء سهرة فنية في مدينة القصر الكبير شمال المغرب، في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1974، حيث كانت آثار التعب والإرهاق بادية عليه، بيد أنه أصر على الغناء وظل يقاوم فوق الخشبة، ثم حيا الجمهور عند نهاية الحفل وانصرف، وكانت تلك آخر تحاياه.

بعد سهرة فنية في شمال المغرب، حيى بوجميع الجمهور، وكانت التحية الأخيرة فمات بعدها. لكن عائلته قالت إنه مات مسموماً

ظلت وفاة بوجميع غامضة، حيث ربط عضو المجموعة عمر السيد موته بقرحة المعدة التي كان يعاني منها حسب شهادة طبيبه، في حين أن شقيقاه عبد الله  ولحسن أحكور تحدثا عن "سُمّ دُسَّ له"، مؤكديْن أن وفاة أخيهما تحيط بها الكثير من علامات الاستفهام.
وفي الذكرى الأربعينية لوفاة بوجميع،أصدرت ناس الغيوان "أنَّادي أنا"، وهي عبارة عن مرثية جاء فيها :

"من المحال.. من الموحال يا قلبي باش تنساه.. (من المحال يا قلبي أن تنساه)

يا وليعة قلبي يا بكاه ويا حسرته.. (يا ولع قلبي ويا لبكائي وحسرتي عليه)

خيي مات البارح واليوم جات الخبار (أخي مات يوم أمس واليوم جاءت أخباره)
خيي مات مضيوم ناسي أهله ووكاره (أخي مات مهموما ناسيا بيته وأهله)
لا لا خيي ما زلت معايا.. ولا أنا ما صدق ما زلت حدايا
(أنت يا أخي ما زلت معي.. أنا لا أصدق أنك مت، فأنت بجانبي)

ناس الغيوان

فلسطين والعروبة

أنتجت فرقة ناس الغيوان مجموعة من الأغاني التي تعكس البعد الذي تحمله القضية الفلسطينية في قلوب المغاربة عموماً، حيث تغنت بكلمات تنشد العدل والحرية وتتطلع لأن يتحقق الوجود الفلسطيني على أرضه كافة ذات يوم.
وكانت أشهر أغاني الغيوان التي أنتجت عن فلسطين أغنية "صبرا وشتيلا"، والتي نددت من خلالها الفرقة بالمجزرة التي نفذتها إسرائيل وعملاؤها في لبنان ضد الفلسطينيين سنة 1982، وتقول كلمات الأغنية :

"الدنيا سكتات لعدا دارت مابغات (العالم سكت، والعدو فعل ما يريد)
الدنيا سكتات الصهيون دارت ما بغات (فعلت الصهيونية ما تريد)
ف صبرا وشاتيلا المجزرة الكبيرة
أطفال تذبحات شيوخ وعيالات (ذبح الأطفال والشيوخ والنساء)
دنة دنة آاااه.. دنة دنة دنة آااه دنة".

وإلى جانب ذلك، دعت ناس الغيوان في أغنية "عتقوها" إلى نجدة فلسطين وتخليصها من الاحتلال قائلة: "عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها.. دركوها جنة الخلد لا تفوتوها"، كما تفاعلت مع أطفال الحجارة عبر أغنية "دومي يا الانتفاضة"، والتي يقول مطلعها :

"دومي يا الانتفاضة دومي
بحجارك دومي.. بصغارك دومي ضد جيوش الاحتلال
الشهادة بالله غيرك ما يكون منظومي.. في ليلي ويومي".

ولم يقف الأمر عند ذلك، فقد أنتجت الفرقة العديد من الأغاني الأخرى التي طاب لها مسمع المغاربة والعرب عموما، ومنها "الأمة" و "شوفوا العجب ما بقينا عرب".

ظهرت في سنوات لاحقة فرق أخرى حاولت سلك نفس تجربة "ناس الغيوان" منها "جيل جيلالة" و"المشاهب" و"ناس الحال"، إلا أنها لم تستطع أن تحل مكان هذه الفرقة التي ظلت خالدة في ذاكرة المغاربة

ناس الغيوان

تجربة لم تتكرر

يصف الكاتب والمترجم المغربي عبد الله الحيمر في كتابه "ناس الغيوان: خطاب الاحتفالية الغنائية" تجربة هذه الفرقة بأنها "ثورة موسيقية حقيقية ألهمت وألهبت حماس الملايين، وجعلت الناس تركب أمواج الظاهرة الغيوانية منذ أولى خطواتها"، كما أشار إلى أن من صنعوا ناس الغيوان وأطلقوا شرارتها الأولى "ربما لم يتوقعوا أنهم سيقلبون موازين الموسيقى المغربية لفترة طويلة من الزمن، وأنهم كانوا سيصنعون مجداً غنائياً تصعب لاحقا منافسته". 
وأضاف ذات المؤلف أن ناس الغيوان "أسسوا لفن نادر وأسطورة ظلت صامدة لأجيال متعاقبة، مقاومة كل عوامل التحديث والمدخلات التي باتت تعرفها الأغنية المعاصرة"، كما أن هذه الفرقة "اخترقت الوجدان المغربي باحتفالية غنائية، وشكلت موروثاً ثقافياً لا مادياً لكل المغاربة".
هذا، وظهرت في سنوات لاحقة مجموعات أخرى حاولت سلك نفس تجربة ناس الغيوان، منها "جيل جيلالة" و"المشاهب" و"ناس الحال"، إلا أنها لم تستطع أن تحل مكان هذه الفرقة التي ظلت خالدة في ذاكرة المغاربة رغم التراجع الذي عرفته بعد وفاة مؤسسها بوجميع ورحيل صوتها باطما ومغادرة باكو ويعلى صرحها الممتد عبر الزمان والمكان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image