"ليس لدي أي انتماء سياسي، لكني كنت متعاطفةً جداً مع اليسار، وأظنّ أنه قد فقد إثارته عمليّاً. لقد تفكّك بشكل مخيف، حتى أن بعض من يضعون أنفسهم في خانة المناضلين، صاروا مجرّد متاجرين بالشعارات لتحقيق مآرب لا تتعدى أن تكون شخصيّةً. هذا، طبعاً، رأيي الشخصي، ولا يقبل التعميم. بيد أني تكلمت قبل مدة مع بعض المناضلين اليساريين، فاكتشفت أنّ هدفهم هو ليّ ذراع بعض المسؤولين الفاسدين من أجل الحصول على وظيفة أو بعض الفتات... الأمر محزنٌ للغاية. يبدو أنّ فكرة اليسار صارت تفقدُ أصالتها، سياسياً إن شئنا".
هكذا تحدّثت بشرى (44 سنة)، التي ترى أنّ حمل فكرة اليسار كان أخفّ سابقاً نتيجة التماسك بين الفكر والعمل، الذي طبع التجربة منذ بداياتها. لكن، ما تشعر به بشرى يتقاسمه معها كثير من المناضلين اليساريين والمتعاطفين مع "الفكر التقدمي"، مبدئياً. فما هي تفاصيل الحكاية؟ وكيف أصبح اليساريون ينظرون إلى أنفسهم... في مرآة الواقع؟
تشرذم ثمّ إضعاف...
لننبّه بدايةً إلى أنّ اليسار منقسم في المغرب بين جذري يمسك بخيار الثورة وتطبيق الاشتراكية، وتيار إصلاحي يؤمن بضرورة تدبير الشأن العام من داخل المؤسسات والانخراط في اللعبة الديمقراطية والانتخابات.
اليسار في المغرب اليوم يتكوّن من حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" (حزب تاريخي)، و"حزب التّقدم والاشتراكية"، "فيدرالية اليسار الديمقراطي" التي كانت ائتلافاً لثلاثة أحزاب: "حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي"، والمؤتمر الوطني الاتحادي"، و"الحزب الاشتراكي الموحّد"، قبل أن ينفصل الأخير عن الائتلاف عشية انتخابات 8 أيلول/ سبتمبر 2021؛ أما "النهج الديمقراطي" الحزب الرديكالي، الأبرز في البلد، فهو مقاطع للانتخابات.
كنت متعاطفةً جداً مع اليسار، وأظنّ أنه قد فقد إثارته عمليّاً. لقد تفكّك بشكل مخيف، حتى أن بعض من يضعون أنفسهم في خانة المناضلين، صاروا مجرّد متاجرين بالشعارات
لكن هذه الأحزاب كلّها لم تجتمع لتقدم تصوراً موحداً يعكس أفكار اليسار؛ لذلك تعلّق بشرى بأنّ الأمر يتعلق بندرة الرموز التي بالفعل تريد الإصلاح الحقيقيّ، حيث أنه حتى عهد قريب، كان لليسار المغربي "رموز لديها وعي سياسي حقيقي وتؤمن بمختلف قيم اليسار الحقيقية وتتتصر للعقلانية العلمية والتشاركية... إلخ. كان ثمّة أمل بالتغيير. لكنني أرى اليوم أنّ جيل اليسار الحالي فقد مبادئه التي نشأ عليها وانحلّت جرأته؛ تمّ إخضاعه لعملية تدجين قوية جعلته يستسلم ويتراجع عن مختلف محاولات التغيير الحقيقي... من داخل المجتمع!".
بشرى المتعاطفة مع اليسار منذ ريعان شبابها، ترى، في حديثها إلى رصيف22، أنّ ما ساهم في هذا التّراجع، هو تحطيم أفق المناهج التعليميّة وتحوير مادة الفلسفة، بالإضافة إلى الظروف الاجتماعية الصعبة والبطالة وما طال مناضلي اليسار من سياسات القمع سابقاً، ومصادرة حقهم إجمالاً في التعبير. لقد تم استهدافهم عبر مخططات ترهيب وتخويف مرعبة، بغاية تعميق وضع اليسار المأزوم وتعجيل تفكيكه. ولقد نجح الأمر.
يتقاطع المناضل اليساريّ السابق في فيدرالية اليسار الديمقراطي، مهدي (29 سنةً)، مع بشرى، وينظر إلى الأمر من زاوية أنّ "اليسار تمّ إخراجه من واقعه وتم فصله عن بيئته. صار الآن يحاول خلق أوهام ليدافع عنها، فقط. هذا كلّ ما يملك في دولة عرّضت كلّ الأيديولوجيات للإخصاء. الإبادة الطبقية التي تحدث والرغبة في الضرب في حقوق الطبقات الفقيرة عبر إلغاء صندوق المقاصة لدعم المواد الأساسية، وصمت اليسار عنها، وأكبر دليل أنّ اليسار في بلدنا أصبح مجرد فكرة، هي فكرة، ربّما، ستموت عاجلاً أم آجلاً، لأنها تسير ضدّ المنطق الشعبي وضد الهموم الكبرى التي يحترقُ فيها الكلّ".
مهدي في تصريحه لرصيف22، يشدّد على أنّ "اليسار "المغربي" قد هاجر من أفقنا نحن أبناؤه البررة. أصبح غريباً، شارداً، وتائهاً إلى درجة المسخ الأيديولوجي. لم يعد يشبهنا لأنه، ببساطة، لم يعد لديه حرج أو قلقٌ فكريّ، للاصطفاف إلى جانب الجلاّد أو الخنوع لموجة النيو-ليبيرالية بشكلها المتوحّش، الذي يمحق الفقراء. اليسار منذ سنوات أصبح يفقد مكانته الاعتبارية في المجتمع؛ ولا أخفي أنّ الناس في محيطي يستفسرون ويستفزون دائماً: "أنتم اليساريون تتشدّقون باليسار والإصلاح والعدالة الاجتماعية، وبالرغم من ذلك أصابكم الخرس جرّاء ما يجري!". هذه أشياء أصبحت أسمعها بشكل يومي تقريباً. الأوضاع في البلد حقاً تسير في منحى غير اجتماعي بالمطلق. اليسار يعيش عزلةً جماهيريةً، ونحن ندفع ثمن انتمائنا إلى اليسار".
من ناحية أخرى، يقول الطّيب (45 سنةً)، المنتمي إلى الجناح المعارض داخل حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية": ولجتُ اليسار منذ العشرينات من عمري، وأرى أنّ اليسار لم يعد يساراً كما لم يعد اليمين يميناً. نحن في المغرب بعد الربيع الديمقراطي، رأينا كيف تمّ تزييف هويات كل الأحزاب وتداخلت البرامج، حتى صار صعباً التمييز حتى بين اليساري والإسلامي، بالرغم من كونهما يقفان على طرفي نقيض؛ وأصبحنا نسمع بـ"التحالف بين الإسلاميين واليساريين" لمواجهة تغول القصر وإمساكه بزمام كل شيء في البلد. وكأننا ننسى أنّ الإسلاميين نفذوا في الماضي عمليات اعتداء بلغت حد القتل في حق يساريَين لم يكفّا عن المناداة بالسّلمية وقتها: عمر بنجلون والطالب عيسى آيت الجيد.
"اليسار المغربي تمّ إخراجه من واقعه وتم فصله عن بيئته. صار الآن يحاول خلق أوهام ليدافع عنها، فقط. هذا كلّ ما يملك في دولة عرّضت كلّ الأيديولوجيات للإخصاء"
يساريون "برجوازيون"
لا يبدو الطيب مهادناً في تواصله مع رصيف22، لهذا لا يتّحدث بالرموز أو الإشارات، ويقول: لقد أصبحنا نرى، أيضاً، بورجوازيين حقيقيين، كرجل الأعمال كريم التازي، يتفشخرون بانتمائهم إلى اليسار وهم مفصولون تماماً عن قيم اليسار. التحولات في العالم مفهومة، لكنها لا تفسر هذا التبدّل وهذا التحول الجذري عند غالبية المؤمنين بفكر اليسار عندنا. ولم يكن في مخيّلة اليسار أن يناهض العلم والمادية التي هي أساس وجوده، لكن ذلك حدث، بالفعل، مع "الزعيمة" نبيلة منيب، الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد.
عثمان (36 سنةً)، يساريّ من دون انتماء أيضاً، يقول إنّه بعد انهيار قيمة اليسار الرمزية مع إدريس لشكر (أمين الاتحاد الاشتراكي) إثر التنازلات التي قدّمها للمخزن، واستفادته مع زوجته من أراضي "خدام الدولة" بسعر بخس جداً، كان حزب الرسالة (فيدرالية اليسار الديمقراطي)، يحمل لنا أملاً رائعاً؛ خصوصاً بعد مداخلات البرلماني السابق عن الفيدرالية عمر بلافريج، التي كانت تجعلنا نعثر على شيء مما افتقدناه في يسارنا: الجرأة. كان عمر شعلةً مبهرةً داخل فضاء يحكمه الخوف والتملق والانتهازية. لن يمضي اليسار قدماً ما لم يقم بنقد ذاتيّ جديّ لا يراهن على إرضاء أي طرف ضدّ آخر.
لكن عثمان يؤكّد في حديثه معنا، أنّ قدر اليسار هو هذا التشرذم والتفكك. "الوصولية اخترقت اليسار بشكل يجعلني أتبرأ من هذه الأيديولوجيا التي ظللت أحملها، لذلك نحن نعيش بالحنين إلى زمن اليسار، ونعرف أننا نعيش نوستالجيا أبعد ما تكون عن الواقع؛ غير أننا نعي أنّ اليسار الحالي ليس منا ولا نحن منه، لقد تبرأ مما كان يجعلنا نحظى باحترام الطبقات الشعبية، ثمّ تبرأنا منه فوراً. اليسار الجديد يحمل في جوفه مبدأ الدفاع عن البيئة والتنمية المستدامة، فأين اليسار ممّا يجري في البيئة في المغرب والجفاف الذي ضرب المغرب وندرة المياه؟ لماذا لم ينخرط، مثلاً، في حملات توعية أو وقفات احتجاجيّة وتنديدية للتّذكير... بكارثية الوضع؟".
اليسار... وفكرة موت الأيديولوجيا!
لا يعتقد الحقوقي واليساريّ خالد البكاري، أن الأيديولوجيات قد انتهت وظيفتها، فالقول بنهايتها هو بدوره أيديولوجيا تمتح من أيديولوجيا النهايات. لقد قالوا بموت الإله/ الدين، وإلى اليوم لا زال الدين رقماً صعباً في السياسات الدولية وفي الحروب، وفي الإرهاب، وفي بناء الشرعيات وفي الصراع حول السلطة والتشريع، وفي المقاومات لفرض هيمنات نيو-استعمارية. وتالياً، واقع انتصار النيو-ليبيرالية في هذه المرحلة، لا يعني نهاية غيرها من الأيديولوجيات.
يرى البكاري في تصريحه لرصيف22، أنّ "التطورات في المجال الرقمي، وفي أشكال تنظيم العمل، فرض تحديات على البراديغم الكلاسيكي عند الاشتراكيين والشيوعيين الذي كان متمركزاً حول الصراع الطبقي داخل المجتمعات الصناعية أساساً. وهذا التحدي يقتضي من اليسار تجديداً واستئنافاً للصراع من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة ومناهضة الهيمنة بوجهيها النيو-ليبيرالي المتوحش والنيو-استعماري، بنظريات جديدة. لا بد من تهيئة خطاب يرافق الأجيال الرقمية، وآليات جديدة للتعبئة والتحريض وخوض الصراع من أجل الوصول إلى السلطة".
قدر اليسار هو هذا التشرذم والتفكك. "الوصولية اخترقت اليسار بشكل يجعلني أتبرأ من هذه الأيديولوجيا التي ظللت أحملها، لذلك نحن نعيش بالحنين إلى زمن اليسار، ونعرف أننا نعيش نوستالجيا أبعد ما تكون عن الواقع
لهذا، يجد المتحدث أنّ اليسار في العالم كله، وليس في المغرب فحسب، يعيش هذا المخاض، يحقق نجاحات أحياناً، وينجح في تنظيم فعل المقاومة المدنية خصوصاً في قضايا العدالة الاجتماعية والبيئة ومناهضة الحروب والحق في الشغل وحمايته، لكنه يفتقد مشروعاً بديلاً يتجاوز به الرأسمالية في تطورها الحالي. لكن، في المغرب، تجب إعادة تعريف اليسار مغربياً، لأن جزءاً مما كان يسمى اليسار الإصلاحي (الاتحاد الاشتراكي، التقدم والاشتراكية) لم تعد تربطه باليسار سوى النوستالجيا، وأصبح ينتج خطاباً يمينيّاً، ويدافع عن التقليدانية، وأصبح عاجزاً حتى عن رفع صوته كما سابقاً في قضايا الحريات الفردية!
أما اليسار الذي كان يُنعت سابقاً باليسار الجديد، سواء في صيغته التي تؤمن بالتّغيير من داخل المؤسسات كفيدرالية اليسار الديمقراطي أو الحزب الاشتراكي الموحد، والصيغة الراديكالية، كالنهج الديموقراطي العمالي أو التروتسكيون، فالبكاري يرى أنها تعاني من ضعف التنظيم وعدم تجديد آليات العمل والخطاب الذي بإمكانه استقطاب الشباب، وعدم مراجعة الأطر المرجعية التي تبيّن أنها غير قادرة على الإجابة عن التطورات سواء المجتمعية أو في علاقات الشغل أو في أنماط عمل السلطويات الجديدة.
هكذا، يبدو أنّ القول بنهاية اليسار هو قول متسرع، أما القول بأزمة اليسار، فهذا مما لا ينكره أبناء اليسار ومناضلوه والمتعاطفون معه. ولا شكّ مطلقاً في أنّ الحاجة إلى اليسار ما زالت قائمةً في ظل واقع مطبوع بالتفاوتات الطبقية وتدمير البيئة والبطالة وهيمنة اقتصاد ريعي وتبعي، إلا أن هذا اليسار في حاجة عاجلة وملحّة إلى نقد ذاته وتطوير وسائله وآلياته، لإعادة بناء ذاته... من جديد!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون