شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
شباب ينزعون نحو التصوف في المغرب... الزوايا ملجأ من الخسارات ؟

شباب ينزعون نحو التصوف في المغرب... الزوايا ملجأ من الخسارات ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 3 يناير 202304:09 م

بالإضافة إلى التدين الرَّسمي، يتخذ المغاربة شكلاً آخر من المُمارسة الدينية، تدخُلُ ضمن خانة "الإسلام الشَّعبي"، عبْر الاحتفاء برموز وأشخاص، عُرفوا ببعض الكرامات ما جَعلَ تأثيرهم يستمر إلى ما بَعد وفاتهم بقرون، فأضحوا بذلك "ورثةً للأنبياء".

الكرامات تثبيت لقدسية هؤلاء الأولياء وسلطتهم، في المخيال الجمعيّ، إلى جانب كونهم أُناساً ندروا حياتهم لعبادة الله والزهد عن متع الدنيا. قدسيتهم تُتوارث شعبياً عن طريق المجايلة، أي تنتقل جيلاً بعد جيل، ضمن طقوس منظمة، تكون الهدية والقربان والزيارة أقوى أشكالها التعبيرية.

لكن، ما علة الإقبال الكبير على الزوايا والتصوف؟ أي تغيرات يُحدثها التصوف في النفس البشرية، خاصةً أن شباباً كثيرين في المغرب وجدوا فيها ملاذاً؟

معنى أن تكون متصوفاً

"التصوف دعوة إلى نبذ التعصب والعنف"؛ هكذا، عبّر محمد الأمين، شابٌّ في مقتبل عمره، ينتمي إلى الزاوية القادرية البودشيشية، في حديثه إلى رصيف22.

وفق محمد الأمين، كان التصوف ملجأً له لاستقامة النفس، وتربيتها على خطاب التسامح والمحبة.

التصوف عنده كما يحكي، "خطاب للودّ، يزيل سرطان الكراهية، والعنف الذي يعمي العقول قبل العيون، كما يولد المشاعر النبيلة تجاه أبناء البشرية عموماً".

ويرى فيه منظومةً أخلاقيةً تدافع عن مستقبل مشرق، تجعل من الإنسان ينظر إلى الحياة "دائماً بجمال وإيجابية، نتيجة المحبة الداخلية، ومع الناس، والأحباب والجيران، يتعامل بجمال الدنيا".

يؤكد محمد الأمين، كذلك، على مركزية الزوايا والتصوف في ذوبان العلاقات الاجتماعية، خصوصاً الطبقية منها، إذ لا تعترف بالتراتبية، لإصلاح النفس، أما الغاية القصوى فهي التربية الذاتية.

من الصعب -حسب المتحدث- أن تكون متصوفاً وحدك، إنما تحتاجُ إلى الانتساب إلى طريقة صوفية معيّنة، تربطك مع مريديها صلات روحية قوية. بالإضافة إلى أن الانتساب إلى طريقة صوفية، حسب وليّ أو شيخ معيّن، لا يعني البتة تقديسه وعبادته، إنما هو طريق ووسيلة للوصول إلى الله.

الزوايا تقربٌ إلى الله، أم إنتاج للجهل؟

مقاربة ظاهرة الزوايا سوسيولوجياً، تجعل الرؤية إليها مزدودجةً بين المريدين، وبين من يرون طقوسها ويرون التصوف -كونه المرجع الأساس للزوايا- بدعاً وجهلاً.

ردّاً على هذه النعوت، يرى مبارك الصقيلي، أحد مريدي الطريقة القادرية البودشيشية، في تصريح لرصيف22، أن هذا الوصف ينمّ عن عدم معرفة بالتصوف، كونه المرجع الفكري للزوايا.

ينطلق مبارك من مفهوم التصوف، كي يفند هذه الأوصاف، إذ يعدّه تتمةً لمراتب الدين المتجلية في الإسلام والإيمان والإحسان، جاعلاً من التصوف مقابلاً للإحسان، المقام العالي في مراتب الدين، وتحقيقاً قلبياً لمضامينه، يُبنى على الكتاب والسنّة.

يسترسل المتحدث: "تلك الطقوس التي يعدّها البعض جهلاً، هي 'تربيعة' (طريقة في الجلوس)، واستقبال للقبلة، وجهاد للنفس، وتربية للروح، وجلاء للقلب بذكر الله تعالى، تلك أذواق عالية، تظهر على الإنسان طوال اليوم، في العمل، والتربية، والنوم، وفي وقت الفراغ على شكل تمعّن وتأمل في الذات.

التصوف، حسب المتحدث، تربية تزكي النفس وعبارة عن مقامات ومراتب، وتطور من الوعي الذاتي، وتقرب الإنسان إلى ربه، حتى يصل العبد إلى درجة الفناء بالله.

"تلك الطقوس الصوفية التي يعدّها البعض جهلاً، هي 'تربيعة'، واستقبال للقبلة، وجهاد للنفس، وتربية للروح، وجلاء للقلب بذكر الله تعالى، تلك أذواق عالية

من جانبه، يرى الدكتور خالد التوزاني، الباحث في التصوف والأدب والجماليات، ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، في تصريح لرصيف22، أن هذه النعوت بعضها راجع إلى سوء فهم التصوف، مثل تكرار بعض "الأوراد"، وبعضها راجع إلى التحولات التي عرفتها بعض الطرق الصوفية، وخاصةً التصوف الطرقي، مثل الأعمال التي تنتشر في بعض مواسم الصوفية، أو في بعض الأضرحة والزوايا.

يستأنف المتحدث: "هي أفعال لا تحتاج في الحكم عليها إلى أكثر من ذوق سليم وعقل يفكر، مثل نهش لحوم الماعز وهي حيّة، ومثل ‘شذخ’ الرؤوس، أو أكل الزجاج والأشواك والفحم المشتعل، أو جرح الجسد أو شرب الماء الساخن، وغير ذلك من الأفعال التي لا صلة لها بالتصوف الحق، إذ التصوف في أصله أخلاق كريمة اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم".

لم يكُن التصوف، وفق المتحدث، في المغرب، مجرد نمط من التدين وفق طرق محدّدة، أو ضمن فضاءات معيّنة كالزوايا والأضرحة، كما لم يكن المتصوف بالضرورة مريداً لشيخ صوفي أو زعيم ديني وُصف بالولاية والصلاح، بل شكّل التصوف ظاهرة حقيقة التدين المغربي، فقد طبع الممارسة الدينية للمغاربة بكثير من المفاهيم والتصورات التي جعلت التصوف رافداً مهما من روافد الثقافة المغربية ورأسمالاً رمزياً، تتجاوز قيمته الوظائف الدينية أو التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية، إلى النظر إليه على أنه مقوم أساس من مقومات الهوية المغربية الأصيلة، وخاصةً في بعدها الديني.

يضيف الباحث أن تلك الهوية قامت في المغرب على أربعة مبادئ أساسية، هي العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وتصوف الإمام الجنيد وإمارة المؤمنين بوصفها مؤسسةً رسميةً تحمي أصول الهوية وتعمل على تقويتها ورعايتها وضمان استمراريتها، وهذه المبادئ هي التي لخّصها الشيخ عبد الواحد بن عاشر، في منظومته المشهورة "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين"، حين قال: "في عقد الأشعري وفقه مالك/ وفي طريق الجنيد السالك".

النزوع إلى التصوف: أين تكمن الأسباب؟

لكن خلف هذا النقاش حول مظاهر التصوف: ما الذي يدفع إلى انتشار ظاهرة العودة إلى أحضانها بين المغاربة؟ وكيف أصبحت الزوايا في الآونة الأخيرة، تستقطب أطياف المجتمع، باختلاف العمر، والطبقة، والجنس، شباباً وشيباً، ذكوراً وإناثاً؟

هذا النزوع نحو التصوف له أسبابه حسب خالد التوزاني. بدايةً، يُرجع الباحث انتشار وتوسع الفكر التصوفي في المغرب إلى دواع روحية، يُجملها في ما يلي: "لم يكن التصوف في المغرب لينتعش ويزدهر، لولا تلك السمة البارزة التي طبعت الشخصية المغربية، التي تتمثل في الحنين إلى كل ما هو روحي وثقافي وزهدي، يقرّبها من الله، ويؤنس وحشتها، ويمحو بعد المسافة عن أرض الرسالات، ومهبط الوحي، فكان الإبداع في التصوف فكراً وسلوكاً، تعويضاً عن ذلك البعد الجغرافي، الذي طُوي بأنواع الذكر وقصائد مدح النبي ورحلات الحج.

ما الذي يدفع إلى انتشار ظاهرة العودة إلى أحضان الزوايا الصوفية بين المغاربة؟ وكيف أصبحت في الآونة الأخيرة، تستقطب أطياف المجتمع، باختلاف العمر، والطبقة، والجنس، شباباً وشيباً، ذكوراً وإناثاً؟

لم يكن التصوف أمراً مفاجئاً، بالنسبة إلى الباحث، في سيرورة التاريخ الديني والاجتماعي للمغاربة، بقدر ما كان نتيجةً طبيعيةً لسمات الإنسان المغربي وبنيته النفسية العميقة، ولذلك فإن اهتمام الدولة المغربية بالتصوف اهتمام واضح، من أجل تزكية السلوك بفضائل الأخلاق والتعلق بالقرآن والسنّة واقتفاء أثر الرسول، وهو ما اصطُلح عليه بالتصوف السنّي الفلسفي الذي اشتُهرت به بعض البلدان، وخاصةً الأندلس.

بالنظر إلى أسباب النزوع نحو التصوف، سوسيولوجياً، وسيكولوجياً، يعود هذا الإقبال من لدن المغاربة، والشباب على وجه الخصوص، إلى عوامل نفسية، اجتماعية واقتصادية.

يضع الباحث خالد التوزاني، فرضيات لتفسير هذا العبور المكثف في اتجاه الممارسات الصوفية. تتجسد الفرضية الأولى عنده بمقاصد دينية وأخلاقية، تتمثل في العودة إلى الهوية المغربية في بعدها الديني الأصل، فلا غرابة في أن يكون التصوف ضمن اهتمامات الشباب المغربي المتدين، وخاصةً ذلك النمط المتشبع بقيم الوسطية والاعتدال والمتشبت بالعادات والتقاليد المغربية، فنجده يطرب بالسماع الصوفي ويحمل السّبحة بين يديه، ويرتدي اللباس المغربي التقليدي، وقد يرتدي بعض الأزياء الصوفية كما هو مألوف عند بعض الطرق، وعلى رأسها الطريقة الكركرية.

تُحدث الصوفية، حسب الباحث، نوعاً من الأمان النفسي والإحساس بالانتماء إلى الجماعة عندما يقررون الدخول في طريقة صوفية معينة، وهذا الشعور بالاستقرار لا بد منه، لأنه إن لم يتحقق بهذه الكيفية فإنه سوف يتحقق بأساليب أخرى مثل بعض الشباب الذين ينتمون إلى جماعات دينية مختلفة أو تيارات فكرية معينة، وهذا الجانب النفسي والاطمئنان القلبي، حقّق عن طريق الممارسات الصوفية كالذكر والحضرة وغير ذلك من أدوات التصوف، نوعاً من الأمان الذي يطبع العلاقة بين المريدين والشيخ، وحقق التواصل وتبادل المنافع بين المنتسبين إلى الطريقة الواحدة، بحيث يشعر المريد بالحماية.

في حين تعكس الفرضية الثانية، وفق الباحث، دافع الاكتشاف والاستجابة، معرفة خبايا الزوايا وخفايا الشيوخ والأولياء، كونه موضوعاً معقداً يصعب فهمه من دون الدخول إليه، وكما يُقال في التصوف: "ليس من رأى كمن سمِعَ".

 يعاني بعض الشباب من البطالة والفراغ والأزمة، ويبحث عن الفرص الجديدة في كل مكان، ومنها الطريق الصوفية

لا ينفي الباحثُ كذلك الجانب المادي نحو هذا النزوع، إذ يعاني بعض الشباب من البطالة والفراغ والأزمة، ويبحث عن الفرص الجديدة في كل مكان، ومنها الطريق الصوفية، ويحاول التقرب من شيخ الطريقة أو بعض أقاربه أو المريدين ممن لديهم المؤهلات المادية بغية الحصول على دعم لإنجاز مشروع معين، أو على الأقل ليستفيد من توجيهات بعض المريدين الذين لديهم نجاح في الجانب المادي، ويتعلم من خبراتهم، وقد يجد فرصة عمل.

تعكس هذه الأسباب، حسب الكاتب، الدور التاريخي الذي لعبته الزوايا، التي عدّها مؤسسةً اجتماعيةً تربويةً، وإصلاحيةً، توفر الأمن بكل تجلياته الروحية والنفسية والمادية، ولا ينبغي أن نفهم من ذلك أنها تشجع على الكسل والتواكل، وإنما تمنح فرصة التأمل للزائرين وتدعوهم للعمل والإنتاج، لأن "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف"، و"اليد العليا خير من اليد السفلى"، ولذلك تعمل الطرق الصوفية على تنمية الرغبة في العمل عبر التعلم والتكوين وتقوية العزيمة والتحفيز على النشاط والتعاون المثمر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image