شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"الثقافات الإسلامية اختلفت في مدى صرامة فرض حظره"... الخمر صانع الإبداع الإسلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 3 أغسطس 202110:17 ص


منذ ما يقارب ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد، بدأت تتشكل ملامح الحضارة في منطقة الهلال الخصيب التي تضم كلاً من مصر، وسوريا، والعراق، ولبنان، وفلسطين، والأردن، وبعض نواحي تركيا وبلاد فارس، وذلك راجعٌ إلى استقرار بعض الصيادين، وجامعي الثمار والبذور، وزارعيها.

أنتجت عملية الزراعة محاصيل تكفي للحفاظ على الاستقرار، وتساهم في نمو السكان. وأدى تكرار هذه العملية إلى تمكّن الإنسان العاقل من إحداث ثورات زراعية.

النبيذ أصل الحضارة البشرية

يرى أستاذ الفلسفة والحضارة في جامعة كولومبيا البريطانية في كندا، وصاحب كتاب "حالة سكر: كيف ارتشفنا ورقصنا وتعثرنا في طريقنا إلى الحضارة"Drunk: How We Sipped, Danced, and Stumbled Our Way to Civilization الصادر سنة 2021، إدوارد سلينغرلاند Edward Slingerland، أن "وفرة المحاصيل، جعلت الفلاحين يبحثون عن سبلٍ لتخزين محاصيلهم تجنباً لمواسم الجفاف أو القحط التي يمكن أن تضربها، وتحد من وفرتها. ولاحظ الناس عبر هذه الممارسة أنهم إذا تركوا حبوب القمح في الماء فإن الخليط سيتحول إلى شيء مختلف تماماً، يمكنه أن يجعل الجميع منتشين".

ويضيف لرصيف22: "في وقت ما بعد إتقان الزراعة، بدأ البشر أيضاً بصنع البيرة، واحتسائها، وهو ما يجعل إنتاجها حدثاً غير مقصود، نابعاً من اختراع الإنسان للزراعة. إلا أن هناك من يعارض هذا الطرح، ويرى أن الإنسان عرف الجعة قبل الخبز، فالولائم التي عرفها الإنسان حتى قبل مرحلة استقراره لأجل الزراعة، شهدت وجود علامات تشي بوجود الخمر، وهو ما يمكن لمسه في مكان مثل غوبكلي تبه (Göbekli Tepe) في تركيا، كما وُجدت اكتشافات في شمال شرق الأردن يمكن عدها دليلاً على أن الإنسان عرف صناعة الجعة منذ 14،400 عام؛ أي قبل ظهور الزراعة بما لا يقل عن 4،000 عام. فالجعة والخمر كانتا مرتبطتين بالأعياد الجماعية، والطقوس الدينية".

وبغض النظر عمّن سبق: إنتاج الجعة والخمور، أم دخول الانسان العصر الزراعي، فإن ارتباطهما كان كافياً حسب سلينغرلاند "لجعل قيمة الخمر الحضارية ترتفع. فلو كانت الزراعة هي أساس الحضارة، فإن الجعة والخمور كانتا المحفز وراء توفير حياة زراعية مستقرة. زيادةً على ذلك، فإن المسكرات لم تساهم في بناء الحضارة فحسب، ولكنها ساهمت في تحضر الإنسان، إذ قدّمت المسكرات الشرارة الأولى التي مهدت لتكوين مجموعاتٍ بشرية كبيرة الحجم، وهو ما مهد لتراكم التقنيات الجديدة، وتالياً خلق حضارات مترامية الأطراف جعلت من الإنسان الكائن المهيمن على هذا الكوكب، وبعبارة أخرى، فإن ديونيسوس (إله الخمر في الميثولوجيا الإغريقية)، هو مؤسس الحضارة".

لم تكن المسكرات الدافع وراء خلق الحضارة، من خلال تحفيز المزارعين الأوائل على الاستقرار وإنتاج الحبوب للتخمير فحسب، ولكن المسكرات كانت أيضاً حسب سلينغرلاند "مادةً مهمة جداً لإدارة الإجهاد النفسي الذي كان يعرفه الإنسان بفعل التغيير الدراماتيكي الذي شهده في نمط حياته".

ويضيف أنه بحكم "أن الحضارة مقرونة دائماً بالإبداع، فلطالما ارتبط المبدع في مختلف الحضارات بالمسكرات. فالنبيذ في الثقافة الصينية التقليدية لعب دوراً في تحريك الخيال الفني، وتحفيز الشعراء والمبدعين نحو أفضل لحظاتهم الإبداعية. بصيغة أخرى، أن تكون مخموراً في الصين، فهذه خطوة إلى الأمام نحو الإبداع. هذا التصور ليس حكراً على الثقافة الصينية. للإغريق قول مأثور مفاده ‘إذا ملأت الأكواب بالماء فلن تكتب الحكمة، لكن النبيذ هو حصان بارناسوس الذي يحمل شعيراً إلى السماء’، فيما نجد أن كفاسير (Æsir)، إله الشعر والإلهام الفني في الميثولوجيا الإسكندنافية، يحمل اسمه معنى ‘البيرة القوية’، فقد كانوا يعتقدون أن دمه اختلط بالخمر لينبع منه فيض الإلهام، وحسب هذه الميثولوجيا يمكن لشارب الخمر وحده تأليف الشعر، وإنتاج الحكمة".

ليس من قبيل الصدفة، أن المنافسة القوية بين الجماعات الثقافية التي نشأت منها الحضارات، ارتبطت بالخمر والنبيذ، سواء في الإنتاج أو الاستهلاك، وسبب هذا الحضور كونها كانت الأداة الكيميائية التي سمحت للبشر بالتهرب من الحدود التي تفرضها طبيعتهم (الحيوانية)، وخلق مستويات اجتماعية تعاونية ساهمت في تسريع البناء الحضاري.

وبخصوص الفوائد الوظيفية لاستهلاك الكحوليات، يرى سلينغرلاند "أن العلم الحديث يؤكد وجود علاقة بينه وبين تعزيز الإبداع، وتخفيف التوتر، وتسهيل الاتصال الاجتماعي، وتعزيز الثقة والترابط، وصياغة هوية الجماعات، وتعزيز الأدوار الاجتماعية، والتسلسل الهرمي". ويقول: "لعبت المسكرات دوراً في جمع البشر، وإدخالهم في حياة القرى والبلدات الزراعية والمدن، وأدت هذه العملية إلى توسيع نطاق التعاون البشري تدريجياً، ما أدى في النهاية إلى إنشاء الحضارة الحديثة كما نعرفها".

"لعبت المسكرات دوراً في جمع البشر، وإدخالهم في حياة القرى والبلدات الزراعية والمدن، وأدت هذه العملية إلى توسيع نطاق التعاون البشري تدريجياً، ما أدى في النهاية إلى إنشاء الحضارة الحديثة كما نعرفها"

هذه العلاقة الترابطية بين المسكرات والحضارة، لم تكن حكراً على الحضارات القديمة فحسب، بل شملت الحضارة الحديثة أيضاً، وفي هذا الصدد يروي سلينغرلاند حادثةً وقعت معه حينما كان يقدّم بعض الدراسات حول ارتباط الكحوليات بالإبداع في حرم شركة غوغل: "فور انتهائي، أخذوني إلى غرفة الويسكي الخاصة بالشركة، وقاموا بوصف هذا المكان على أنه الملجأ الذي يلجأ إليه المبرمجون وموظفو الشركة، لاستحضار الإلهام، وتخفيف الضغط، من أجل مواصلة العمل. غرفة الويسكي الموجودة في شركة غوغل هي مساحة مشتركة غير رسمية استخدمها المبرمجون، كمكان للابتعاد عن شاشاتهم، من أجل البحث عن حلول جديدة إبداعية لمشكلاتهم، وهو ما نلمسه في كون الحضارة المعاصرة كذلك لا زالت ترى أن الأماكن التي تعرف وصولاً سهلاً إلى الكحوليات، تكون بمثابة حواضن قوية للإبداع الجماعي".

الإسلام والخمر... بين الصرامة المتخيلة والمرونة الواقعة

يرى سلينغرلاند أن "العالم الإسلامي تميز بكونه لم يتفاعل مع الخمر بالتحريم مطلع الفترة المبكرة للإسلام، فالتحريم لم يتم سوى عند حلول نهاية العصر النبوي عام 632 م"، ويضيف: "لا يمكن إنكار أن الإسلام كان ناجحاً للغاية في لعب دور في التطور الثقافي للمنطقة العربية خاصةً، وهو ما تجلى في تحويل القبائل البدوية في شبه الجزيرة العربية، بفعل الإسلام، إلى حضارة كبيرة تهيمن على مساحات شاسعة من القارة الأوروبية، وجنوب شرق آسيا، وشمال إفريقيا".

وبرأيه، "كان أحد أسباب الازدهار الحضاري الذي عرفته الحضارة الإسلامية، هو كونها امتدت إلى كل من بلاد ما بين النهرين، والشام، وهما من أقدم الأقاليم قدماً وخبرة في صناعة النبيذ والخمر، بالإضافة إلى احتكاك المسلمين بالثقافات والشعوب المتصالحة مع شرب الخمر والنبيذ مثل المسيحية، والكونفوشيوسية، والفايكنغ، وعرب منطقة الشام والعراق"، وهو ما ساهم حسب رأيه "في خلق تنوعٍ ثقافي أدى إلى إثراء البناء الحضاري الإسلامي".

"كان أحد أسباب الازدهار الحضاري الذي عرفته الحضارة الإسلامية، هو كونها امتدت إلى كل من بلاد ما بين النهرين، والشام، وهما من أقدم الأقاليم قدماً وخبرة في صناعة النبيذ والخمر، بالإضافة إلى احتكاك المسلمين بالثقافات والشعوب المتصالحة مع شرب الخمر والنبيذ"

هذا الاحتكاك ساهم حسب سلينغرلاند في جعل" الثقافة الإسلامية مرنة مع شرب الخمر، على عكس ما تظنه الغالبية، وهذه المرونة تجلت في نظرة الصوفيين إلى الخمر، إذ يرى البعض منهم أن الخمر محفزٌ على الارتقاء الروحي الذي يجسد لب الممارسة الصوفية، وهو ما يمكن لمسه كذلك في تسامح الناس مع شاربي الخمر داخل الحضارة الإسلامية".

ويضيف أنه "وعلى الرغم من الحظر الديني لشرب الخمر، فإن الثقافات الإسلامية اختلفت تاريخياً بقوة في مدى صرامة فرض هذا الحظر. في معظم الثقافات الإسلامية، يُسمح باستهلاك الخمر في الفضاءات الخاصة، خاصةً بين النخب، وذلك في بعض الأماكن والأوقات، وهو ما جعلها تلعب دوراً بارزاً في الحياة العامة. فاحتساء الخمر بين النخبة ليس بالأمر المستهجن في الثقافة الإسلامية، كما أن المؤرخين يؤكدون أن الخلفاء، والسلاطين، والنخبة التي تحيط بهم، كانوا يفرطون في شرب الخمر بكميات ضخمة على مرأى من العامة. ناهيك أن التحريم الإسلامي للخمر كان عملية تدريجية ممتدة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن عملية التحريم اتسمت بالمحدودية، وهو ما وفر وجود مساحاتٍ وفسحاتٍ تتيح للمسلم أن يشرب من دون أن يغمره الشعور بالذنب".

يرى سلينغرلاند أن "الحضارة الإسلامية التي ينظر إليها البعض على أنها معادية للكحوليات، هي التي أعطت كلمة ‘الكحول’ للعالم، كما أن المحاولات الأولى المرتبطة بالتقطير الكحولي جاءت من الحضارة الإسلامية، بالإضافة إلى أن بعض أعظم أنواع النبيذ عرفها العالم عبر الحضارة الإسلامية".

الإسلام والإبداع المخمور

الخمر حسب سلينغرلاند "قدمت نظرة وجودية وفلسفية بالنسبة إلى عدد من الشعراء والفلاسفة المسلمين، وهو ما تجلى مثلاً في قول الشاعر الفارسي الكبير حافظ الشيرازي في القرن الرابع عشر، إن شرب الخمر يُعد تجسيداً لجوهر الإنسان".

يقول مارك فورسيث Mark Forsyth في كتابه "مختصر تاريخ الثمالة" A short history of drunkenness، إن "الشاعر العربي أبا نواس يُعد تجسيداً لشغف الشعراء بشرب الخمر، وكذا أثّر الشرب على الشعراء في تشكيل نبوغهم الأدبي الكبير الذي تجلى في قصائد التغزل بالخمر والنبيذ. هذه القصائد تظهر نبوغ هؤلاء الشعراء العظيم في الشعر، كما تشي بمدى صرامة الحظر الفعلي في الإسلام للخمر، الذي اتسم بالمرونة الشديدة. وتقدم لنا قصائد أبي نواس وصفاً دقيقاً لطبيعة الخمور المتاحة، وطبيعة اشتغال الحانات التي تقدم هذه الخمور لزبائنها".

ويضيف فورسيث أن "وصف أبي نواس للحانات، ومن يشتغل فيها، وشكلها، وأنواع الخمور التي تضمها، سواء في الحانة أو في القبو الذي يحتوي عادة الخمر والنبيذ المعتق ذا الجودة الرفيعة، وطريقة شرب الخمر التي يصفها أبو نواس على أنها تُسكب في أكواب جميلة، وتُخلط عادةً بالثلج، أو بالماء البارد، يظهر مدى انفتاح الثقافة الإسلامية على الخمر، إنتاجاً واستهلاكاً، وهو ما يجسد مرونة الحظر الواقع على شرب الخمر من جهة، وتشكُّل ثقافة متمحورة حول شرب الخمر من جهة أخرى".

الخمر نافذة المسلمين على الحضارات

أرسل خليفة بغداد في عام 921 م عالماً إسلامياً معروفاً يدعى أحمد بن فضلان في مهمة دبلوماسية ودينية إلى الفولغا بولغار، وكان هؤلاء حديثي عهد بالإسلام، ويعيشون على ضفاف نهر الفولغا الذي بات يعرف الآن بروسيا، وكان مرد إرسال ابن فضلان إليهم هو حاجتهم إلى فهم العقيدة الإسلامية أكثر.

يقول سلينغرلاند إنه "على امتداد الطريق، واجهت البعثة مجموعة من الفايكنغ، الذين أعجب ابن فضلان بهم بسبب طولهم، وضخامة أجسادهم، لكنهم في الوقت نفسه أثاروا استغرابه جراء عاداتهم، وأبرزها شربهم الخمر بطريقة مفرطة، وكتب واصفاً إياهم بأنهم غالباً ما يموت أحدهم، وكأس الخمر في يده".

ويضيف سلينغرلاند أن "مرد إفراط شربهم كان لاهوتياً، فاسم إلههم هو أودين، الذي يعني المنتشي أو السكران، فهو حسب معتقدهم لا يعيش إلا على النبيذ".

ويتابع: "في العديد من الثقافات إلهٌ للكحول أو السكر، من أجل إعطاء الكحول دوراً معترفاً به في المجتمع، في حين يلعب هذا الدور في ثقافة الفايكنغ أبو الآلهة نفسه، وهو ما جعل الكحول والسكر يلعبان دوراً محورياً في مجتمعاتهم، إذ كان الكحول تعبيراً عن السلطة، وقوة العائلة، وتشعب الحكمة، كما تجسد كذلك في التجلي الشعري لديهم، والقوة العسكرية، وهو ما جعل من الكحول مشروباً يكثف معاني الحضارة عند ابن فضلان".

يقول سلينغرلاند إن ابن فضلان رصد كذلك سلبيات الخمر الحضارية الموجودة، فالإفراط في تناول المشروبات الكحولية لعب دوراً مركزياً في ثقافة الفايكنغ في "موت عدد مذهل من أبطالهم وملوكهم بسبب حوادث مرتبطة بالكحول"، وذلك بين الغرق في أوعية ضخمة من البيرة، أو الذبح على يد المنافسين أثناء السكر، وما بينهما.

ويضيف لرصيف22 أن "المحاربين المخمورين شكلوا دائماً تهديداً لمن حولهم كلهم، فأفضل إشادة تلقاها بطل الفايكنغ الأنكلو ساكسوني الأسطوري بيوولف، هي أنه لم يقتل أصدقاءه أبداً عندما كان مخموراً. ومن الواضح أن هذا كان شيئاً غير عادي لدرجة أنه ذُكر في ملحمة شعرية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image