واحدة من أبرز الظواهر في سنوات الحرب والنزاع الأهلي في سوريا، هي إعادة التوزيع الجزئي للثروة إن صحت التسمية، فالعنف المنفلت، والمضبوط أحياناً، أدى من جملة نتائج أخرى إلى سلب شريحة واسعة من الميسورين وأصحاب الثروات المتوسطة ما يمتلكون، وانتقال ملكيتها إلى شريحة جديدة بوسائل وظروف أضحت معروفةً للجميع، والتسمية الشعبية الأكثر شيوعاً لأصحاب الثروات الحديثة هي "العفّيشة". يتساوى في التسمية صغارهم وكبارهم، كذلك من اعتمد سرقة "عفش" البيوت ومن اشتغل في تجارة الممنوعات بما فيها السلاح والذخيرة، وسرقة الآثار وبيعها وتهريب المواد على خطوط التماس وغير ذلك.
وقد ظهرت بشكل ملحوظ معالم الثراء المفاجئ على تلك الشريحة من تجار الحروب، فبرزت لديهم الحاجة إلى تثبيت شرعية ثرواتهم و"تحليلها"، على مستويين، سلطوي ومجتمعي، إذ تنتفي الحاجة إلى أي درجة من الشرعية القانونية في ظل وضع محكوم بالفوضى وسلطة أمراء الحرب والفساد المعمم. بل اتضح إلى أي حد يمكن أن يتضخم الفساد المسلّح -إن صحت التسمية- ويتجذر في مفاصل المنظومة الأمنية/ العسكرية، بحيث تتم الإطاحة بكل ما ومن يواجهه.
قلّما لجأ هؤلاء إلى المشاريع الاستثمارية التنموية كأحد طرق تنظيف الأموال الرائجة، والكتلة النقدية الكبيرة التي ضخّها هؤلاء في سوق العقارات بيعاً وشراءً هي بالدرجة الأولى لمواجهة التضخم المتوقع والحفاظ على قيمة ما لديهم، وقد شمخت الأبنية السكنية الجديدة على عجل، خلال غياب شبه كامل لإجراءات الترخيص الهندسي واستيفاء الشروط الفنية والقانونية، إذ "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
ادفع لمن يحميك أولاً
في سوريا، لا ثروة مستقلة عن أصحاب السلطة، ولا بد من الحصول على الشرعية السلطوية التي تعني أن يتمتع الشخص بحماية من أشخاصٍ أو جهات نافذة في منظومة السلطة، وهذا يفرض نوعاً من الشراكة وتبادل المنفعة، فلم يعد يكفي الانحياز إلى النظام وحمل السلاح إلى جانبه، ولا بد من دفع جزءٍ من الثروة المتحصلة لمن يؤمّن السكوت عنها وتسهيل الوصول إلى مصادرها، وبرغم أن الكثير منهم تُثار له قضايا جنائية يجب أن يحاكَم عليها، لكنه يبقى طليقاً طالما دفع الضريبة المطلوبة لمن يحميه، والملفات الجنائية تبقى حبيسة الأدراج وتُسحب للابتزاز فقط.
الاحتضان المجتمعي يمكن أن يحول "العفّيش" الكبير، إلى أحد الوجوه الاجتماعية البارزة وإلى صاحب فضلٍ يقترن ذكر اسمه بعبارات الشكر والدعاء لكرمه ومساعدته المحتاجين
فقد تطلب الجهة الراعية من صاحب الثروة أن يتبرع بشكلٍ علني لصالح "أسر الشهداء ومصابي الحرب" مثلاً، وتلك قضية لطالما جرت المتاجرة بها وتم استثمارها من قبل رموز السلطة ومن يمثلها، كما من قبل الميسورين، أو التبرع بمواد عينية لإحدى مؤسسات الدولة، كما فعل أحدهم بتصنيع مئات المقاعد المدرسية وتقديمها في إحدى المناطق. وفي ظل اقتصاد منهك وتراجع الموارد والميزانيات لغالبية المؤسسات، لا تملك إداراتها سوى القبول والشكر.
وفي الحالات كلها، لا بد من خطوة حاسمة بمثابة البرهان النهائي على ولائه للوطن وللقيادة (!)، وهي الإكثار من طباعة صور الرئيس وتعليقها.
وبرغم هذا التبادل الرضائي للمكاسب مع رجال السلطة، فإن أصحاب الثروات الكبيرة يتعرضون بين الحين والآخر لـ"تشليحهم" جزءاً منها لصالح جهات عليا عن طريق أحد فروع الأمن، والقاعدة هنا: "نسكت عن تجاوزاتكم وسرقتكم ونسهّلها لكم، ولا أقل من استحقاقنا حصةً".
ثم ادفع قليلاً لأهل قريتك
الجانب الآخر للشرعية، هو الاحتضان المجتمعي الذي يمكن أن يحول "العفّيش" الكبير، إلى أحد الوجوه الاجتماعية البارزة وإلى صاحب فضلٍ يقترن ذكر اسمه بعبارات الشكر والدعاء لكرمه ومساعدته المحتاجين. وطبعاً سيكون من الصعب هنا مطالبة المجتمع بالتمسك بالمعايير الأخلاقية في النظر إلى هؤلاء طالما المرحلة مشحونة بالخوف والموت والعوز، والقلق المصيري الذي أتقنت بعض أطراف النزاع اللعب عليه.
في بعض القرى الفقيرة يجري توزيع مواد غذائية ومبالغ مالية على مجمل الأهالي بشكلٍ شبه دوري، ويرسلها فاعل خير من النافذين في دمشق، ولا ينسى أن يرفقها بتحياته ومحبته، أو يرسل شحنةً من السلال الغذائية للجمعيات الخيرية، وفي أماكن أخرى يقوم محدث النعمة ببناء منشأة ما ويقدمها للصالح العام، أو يدفع تكلفة شق طريق وتعبيده، أو أي خدمة مشابهة تؤكد ارتباطه ببيئته وناسه وحرصه عليهم، وهو لن يقصّر في استخدام نفوذه وعلاقاته بدوائر القرار، لتأمين الموافقة على إحداث مركز صحي أو فرنٍ أو كمية إضافية من الوقود المنزلي وما شابه.
وفي حالات كهذه، سيغدو الحديث عن مصدر الثروة هذراً لا ضرورة له ولا أهمية، طالما أن صاحبها يقوم بكل أعمال الخير هذه من دون مطالبة من أحد ومن دون أن يكون مضطراً، وتالياً يبرز ذكره كصاحب قلب كبير معطاء قبل أي حديثٍ آخر.
في مجتمع يميل إلى التديّن والإيمان بمزاراته وقدسيتها، سيكون من المفيد لأصحاب الثروات المحدثة تقديم خدمات متنوعة لهذه المزارات والتبرّع لتحسين المنشآت المحيطة بها لخدمة زوار الأضرحة
وفي مجتمع يميل إلى التديّن والإيمان بمزاراته وقدسيتها وكرامات الأولياء الصالحين، سيكون من المفيد لأصحاب الثروات المحدثة تقديم خدمات متنوعة لهذه المزارات والتبرّع لتحسين المنشآت المحيطة بها لخدمة زوار الأضرحة، أو التبرع لبناء مسجد، أو صالة عزاء في ظل تزايد أعداد الضحايا والجنازات، ويملؤها بالسور القرآنية المطبوعة والمعلقة على الجدران بجانب صور الشهداء وبعض المشايخ، أو إقامة دورة تحفيظ القرآن للأطفال، وبديهي أن كل هذا يتم بمباركة رجال الدين وعن طريقهم لحيازة شكلٍ من أشكال الشرعية الدينية، وتلك طريقة مضمونة النتائج إذ تلهج ألسنة المؤمنين بالدعاء لفاعل الخير المتبرع، وربما يجري إلحاقه بقائمة القديسين الأطهار. قلةٌ فقط من رجال الدين من تجرأت وأعلنت موقفها الرافض لمنطق "غنائم الحرب".
إلى الوراء درّ... لغسيل السمعة أولاً
وقد درجَ خلال السنوات الأولى للصراع المسلح، وفي سياق ظاهرة الانشقاق والهروب، نمطٌ آخر أقل انتشاراً هو انتقال فاسدٍ كبير أمضى زمناً في منظومة الفساد السلطوية، مدافعاً عنها ومجمّلاً قبائحها ومستفيداً من مكاسبها، أتته الثورة فجأةً، إلى صف المعارضة ليبدأ حديثه البليغ عن دولة المؤسسات ومبادئ الحق والقانون، ويدعو إلى محاسبة الفاسدين من أهل السلطة، ويُكثر من ذكر فضائح الفساد الكبرى وكيف يمارس الاستبداد عسفه على السوريين. وبصرف النظر عن تصديق جمهور المعارضة لتلك الادعاءات أو عدم تصديقه، فإنه سيجد من يتلقفه من هياكل المعارضة المتشكلة في الخارج ليمنحه منصباً أو دوراً ما فيكثر ظهوره على الشاشات على أنه رمز من رموز التغيير القادم.
أشكال عدة استخدمها محدثو النعمة، تتسق مع الخصوصية السورية في السلطة والمجتمع، وما زالت هذه الشريحة تحوز الجزء الأضخم من أموال السوريين، فلا حضور ملحوظاً للدولة في جانبها الرقابي والقضائي، ولا المجتمع قادر على ترف المحاكمة الأخلاقية لهؤلاء اللصوص مهما ارتكبوا من تعميق للجروح الأهلية في سياق النزاع، ومهما تسببوا في تخريب منظومة الإنتاج والتنمية وآليتها عبر تخريب الورش والمنشآت الصناعية وسرقتها. فهل يأتي يوم تُوجَّه فيه أصابع الاتهام إلى هؤلاء وتُعقد لهم المحاكم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.