شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ما بعد الزلزال في شمال سوريا... أمراء الحرب والعقارات والتحكم بمصائر المنكوبين

ما بعد الزلزال في شمال سوريا... أمراء الحرب والعقارات والتحكم بمصائر المنكوبين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقوق الأساسية

الأحد 26 مارس 202302:24 م

أُغلقت الأبواب في وجه مالك، ووصل إلى طريق مسدود في البحث عن منزل جديد في ضواحي عفرين في ريف حلب، إذ يتنقل الشاب الثلاثيني من مكتب عقاري إلى آخر، ويضع أخباراً هنا وهناك بحثاً عن مأوى لزوجته وطفله الوحيد، بعد أن خسر منزله جراء الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، في السادس من شباط/ فبراير الفائت.

يصف مالك الزعبي، المهجر من درعا في جنوب سوريا، وضعه الجديد منذ وقوع الزلزال، ويقول لرصيف22: "كحال كثيرين خرج بيتي الذي اشتريته من الخدمة، ولم يعد صالحاً للسكن بعد أن فحصته لجنة هندسية مختصة، وأكدت أنه آيل إلى السقوط في أي وقت، هذا عدا عن بحثي اليومي واضطراري إلى ترك عملي الذي أعتاش منه".

اشترى الزعبي شقةً شبه مهجورة وبلا مرافق صحية، وسط مدينة عفرين قبل ثلاث سنوات عندما قرر الزواج، ووصلت كلفة الشقة حينها إلى ألف دولار، ما بين تأثيثها ودفع إتاوة لفصيل الشرقية، وهو أحد فصائل الجيش الوطني السوري، وكان يضع يده عليها إلى جانب أبنية أخرى، ويؤكد أنه بعد الزلزال صارت بيوت الإيجار نادرةً جداً، وإن وُجدت فإيجاراتها مرتفعة بشكل هستيري ولا تتناسب مع الواقع المعيشي للفرد.

ضاعف الزلزال من أزمة السكن الموجودة في شمال سوريا، وعزز أزمة الإيواء الموجودة بالأصل لآلاف الأسر

ضاعف الزلزال من أزمة السكن الموجودة في شمال سوريا، وعزز أزمة الإيواء الموجودة بالأصل لآلاف الأسر، فمن المعروف أن عشرات الآلاف من قاطني المخيمات كانوا ينتظرون مشاريع البناء والوحدات السكنية التي تنفّذها المنظمات الإنسانية للخلاص من المخيمات التي أرهقتهم في الشتاء، ويبدو أن الأزمة ستتفاقم بعد ازدياد أعداد المنتظرين.

أمام هذا الواقع، ازداد الطلب على بيوت الإيجار في المناطق الأقل تضرراً، ممن لديهم القدرة المادية نوعاً ما، إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي ظروف المنكوبين، إذ ارتفعت الأسعار وتناقصت أعداد البيوت، في المقابل، رصد رصيف22 أجرة البيوت في مدينة كبرى كعفرين، حيث وصلت أجرة بيت مؤلف من غرفة واحدة ومنتفعاتها وموزّع، إلى 150 دولاراً من دون كسوة تلائم هذا المبلغ، في حين أن المنزل الذي يضم أكثر من غرفتين ومنتفعاتهما، وصلت أجرته من 200 إلى 250 دولاراً أمريكياً، حسب المساحة والموقع، فيما كانت أجرة البيت قبل كارثة الزلزال ما بين 50 إلى 150 دولاراً في أحسن الأحوال.

"نحن على هذه الحال منذ أول يوم في الزلزال، نقيم حالياً في بيت أختي، لقد عرضت عليّ السكن عندها لأن بيتها من أربع غرف، لكن بحسبة بسيطة عن إنشاء منتفعات ومطبخ مستقلّ، فإن التكلفة ستكون باهظةً جداً وفوق قدرتي"، يختم الزعبي.

استغلال في شراء البيوت

تنتشر في الشمال السوري، وخصوصاً في ريف حلب، ظاهرة شراء بيوت مجهولة الملكية أصلاً، ويكون الشراء من قاطنين فيها يريدون تركها لأسباب عديدة كالاتجاه نحو إدلب أو السفر إلى تركيا أو العودة إلى مناطق النظام أو رغبتهم في تغيير مكان إقامتهم، إذ يطلبون من الشاري دفع تكاليف كسوتها وخدماتها بعد أن كانت مهجورةً أو على العظم، كما يلجأ الكثير من المدنيين إلى شراء منازل تعود ملكيتها في الأصل إلى قياديين أو منتمين إلى قوات قسد قبل انسحابهم من أرياف حلب، وكانت فصائل الجيش الوطني قد سيطرت عليها وتملّكتها، إلا أنه باتت تُطلب مبالغ خيالية لقاء بيع هذا المنزل، تفوق أسعار التكاليف الموضوعة فيه من دون أي رحمة أو رأفة بحال المنكوب.

رأفت المصطفى، ناجٍ مع عائلته من جنديرس، التي نالت النصيب الأكبر من الخسائر ودُمِّر قسم كبير من أبنيتها، يشكو لرصيف22، الحال الذي وصل إليه المنكوبون بعد أن فقدوا بيوتهم في شمال السوري، ويقول: "عُرض علي بيت في الطابق الثاني في مدينة عفرين، مؤلف من أربع غرف ومنتفعاتها، وكسوته أقل من عادية، فالغرف من دون أبواب، ونوافذه خشبية يغطّيها النايلون، وجدرانه تسترها أقمشة حتى المنتصف كنوع من الديكور، إلا أنني صُدمت جداً بأن صاحبه يريد 2،000 دولار شرط بيعه، برغم أن كل تكلفته لا تتجاوز 400 أو 500 دولار".

يتابع المصطفى رحلة البحث قائلاً: "تواصلت مع صديق لي يعمل ضمن فصيل عسكري معروف يضع يده على عشرات المنازل في المدينة ويتحكم بتأجيرها وبيعها لصالح قيادي فيه، ووعدني بالحصول على منزل بسعر مناسب، لكنني صُدمت بأن القيادي يريد 1،500 دولار مقابل المنزل الموجود في راجو في ضواحي عفرين، والذي لا أعلم بعد ما إذا كان يستحق هذا المبلغ أم لا".

أزمة سكن وطلب متزايد

تشير إحصائيات "منسقو استجابة سوريا" (وهو فريق إحصائي)، إلى أن مناطق شمال سوريا تشهد أزمة إيواء كبيرةً بعد الزلزال، وأن عدد المتضررين في المنطقة وصل إلى مليون و113 نسمةً، وعدد النازحين المتضررين تجاوز 201 ألف نسمة، يشكل الأطفال والنساء والحالات الخاصة 67% منهم، فيما بلغت أعداد المنازل المدمرة 1،733 منزلاً، مع وجود منازل متصدعة تم توثيق 15،844 منزلاً منها فقط، بسبب وجود تصدعات أو أضرار مخفية تجعل المبنى في حالة خطر مرتفع، بالإضافة إلى 3،734 منزلاً بحاجة إلى هدم فوري.

 إيجار البيوت بات مرتفعاً جداً، وبعض أصحاب العقارات يستغلون اضطرار الكثير من العائلات التي باتت في العراء إما في مراكز إيواء أو في مخيمات، فمن يضبط هذا التوجه الذي يساهم في إبقاء الناس بلا مأوى؟

في المقابل، فإن كثيرين ممن عايشوا الزلزال باتوا يعدّون الأبنية الطابقية ذات ضرر كبير أمام كل هزة، مهما كانت صغيرةً، ما يعني أن البيت بشكله الراهن لم يعد مكاناً آمناً. وفي ظل كثافة السكان الكبيرة وتزايد أعداد النازحين والمتضررين لم تعد الأبنية الطابقية متماشيةً مع رغبة السكان وطلباتهم، عكس البيوت الأرضية المؤلفة من طابق واحد، فضلاً عن خوف العائلات من البقاء في الطوابق العالية، في ظل تأخر عمليات فحص المباني المتصدعة من جانب الجهات الهندسية المختصة.

في حديث إلى رصيف22، يلفت ياسين الإدريسي، صاحب مكتب عقاري في عفرين، إلى أن الطلب ازداد بشكل كبير على المنازل بغرض الإيجار، خاصةً المنازل الأرضية (الطابق الواحد)، بسبب الخوف من تكرار الزلزال وما نتج عنه من تدمير أبنية طابقية كاملة سقطت على رؤوس قاطنيها.

وبحسب الإدريسي، فإن إيجار البيوت بات مرتفعاً جداً، و"بعض أصحاب العقارات يستغلون اضطرار الكثير من العائلات التي باتت في العراء إما في مراكز إيواء أو في مخيمات"، مضيفاً أن "الطلب لم يعد متركزاً فقط في المدن الكبرى كعفرين أو الباب أو إدلب أو أعزاز، بل تجاوز إلى الضواحي والقرى النائية، وبرغم ذلك الأسعار مرتفعة".

وما زاد الطين بلةً، وفاقم المشكلة، هي عودة كثر من السوريين من تركيا بعد فتح الأخيرة إجازات لهم وهؤلاء بطبيعة الحال لا مشكلة عندهم في دفع مبالغ مرتفعة للإيجار، وهذا من أسباب الارتفاع، حسب الإدريسي، داعياً الجهات المختصة إلى التدخل الفوري من أجل ضبط أسعار الإيجارات ومبيعات المسكن ومحاسبة المستغلين.

القانون لا ينصف المنكوبين

يرى مدير الشؤون القانونية في وزارة الإدارة المحلية في حكومة الائتلاف السوري المعارض محمد حاج عبدو، أن القانون لم يحدّد أصلاً حدّاً أدنى أو أعلى للمعروض للإيجار، فالأمر يخضع للعرض والطلب والعقد الذي يُنظّم بين الطرفين.

ويضيف لرصيف22، أن الزلزال يُعدّ من قبيل الظرف الطارئ والقوة القاهرة، بحيث يمنع ما يمكن تطبيقه في الظروف الطبيعية من إنهاء للعقود أو زيادة الإيجار لما كان قد نُظّم قبل الزلزال.

وصلت أكثر من 88.02% من العائلات في شمال غرب سوريا إلى خط الفقر، ونحو 38.30% إلى مستويات الجوع

وبحسب عبدو، فإن المجالس المحلية لو بالغت في إصدار تخفيض قيمة الأجرة فإن ذلك سيجعل الناس تحجم عن التأجير، بالإضافة إلى أن أدوات الإلزام للأسف غير متاحة قياساً بالكثير من القرارات، وأهمها مخالفات ضابطة البناء، هذا عدا عن أن المؤجِّر ملزم بتجهيز المسكن بما يحقق الغاية والمنفعة للمستأجر، واليوم معظم المباني المتضررة تحتاج إلى مبلغ لا يقل عن ألفي دولار للترميم"، متسائلاً: "هل سيكون لدى المؤجر دافع التجهيز إذا كان بدل الإيجار منخفضاً بما يناسب مستوى دخل الأفراد؟".

لا يدري أني ميكانيكي

يعاني المدنيون في الأصل من ظروف معيشية متدهورة، خاصةً في ظل ارتفاع معدل البطالة وندرة فرص العمل، بالإضافة إلى انخفاض مستوى الأجور، إذ تشير إحصائيات محلية إلى أن هناك انخفاضاً ملحوظاً في الموارد المتاحة شمال غرب سوريا، مع عدم القدرة على تأمين الاحتياجات اليومية، خاصةً مع وصول أكثر من 88.02% من العائلات إلى خط الفقر، ونحو 38.30% إلى مستويات الجوع.

يروي رأفت المصطفى، حادثةً جرت معه، عندما تواصل مع عنصر في أحد الفصائل العسكرية في راس العين في ريف الحسكة، للسؤال عما إذا كان ينوي بيع منزله في ضواحي عفرين، خاصةً أن زوجة العنصر قلّما تبيت في المنزل، فهي دائمة المكوث في مخيم في إعزاز حيث أهلها يقطنون، إلا أن العنصر -حسب المصطفى- طلب ألفي دولار لإخلائه برغم أن البيت تأثر بالزلزال.

يقول: "لقد ضحكت كثيراً من طلبه، فهو لا يدري أني أعمل ميكانيكيّ دراجات نارية في محل متواضع، بأجرة يومية لا تتجاوز 80 ليرةً تركيةً في أحسن الأحوال"، مشيراً إلى "أنه لا حلّ أمامه اليوم إلا التسجيل في إحدى المنظمات للحصول على منزل في الوحدات السكنية التي تُبنى حتى لو كانت بعيدةً عن مكان عمله".

وكانت منظمات إنسانية عدة في شمال سوريا، منها "فريق ملهم التطوعي"، قد أطلقت حملات لجمع الدعم والتبرعات من أجل بناء وحدات سكنية للمتضررين من الزلزال، وإعادة إعمار ما دمّره الزلزال، كحملة "صندوق قادرون"، والتي تهدف إلى تأمين منازل لـ4 آلاف عائلة متضررة من الزلزال بتكلفة 20 مليون دولار، وحتى هذه اللحظة تم تأمين أكثر من 12 مليون دولار وهو مبلغ لازم لإعمار منازل لـ2،417 عائلةً، وفقاً لعدّاد التبرعات الظاهر على موقع الفريق التطوعي.

من جانبه، كان الهلال الأحمر القطري قد أعلن أنه بدأ التحضير لبناء قرية سكنية جديدة في الشمال السوري، مجهزة ببنية تحتية كاملة مع طرقات وحدائق ومرافق خدمية كاملة، مضيفاً أن القرية ستتكوّن من 300 شقة مبنية بالخرسانة المسلحة، بمساحة 60 متراً مربعاً للوحدة السكنية وتضم غرفتي نوم وصالة معيشة تؤمّن الخصوصية والأمان والكرامة للعائلات النازحة، وذلك في إطار الاستجابة الطارئة للعوائل الأكثر تضرراً من الزلزال.

ويبدو أن أزمة السكن والإيواء ستضاف إلى العديد من الأزمات التي يعاني منها الشمال السوري، مع أربعة ملايين ونصف مليون نسمة تزداد احتياجاتهم التي ضاعفها الزلزال، الذي أثّر على مصادر رزقهم واستقرارهم، في ظل عجز واضح من سلطات الأمر الواقع عن تخفيف نكبتهم من جهة، وانضمامهم إلى جانب قاطني المخيمات الذين ينتظرون المنظمات لإنجاز المشاريع الإعمارية والقرى السكنية والتي ستشكل لهم انفراجةً كبيرةً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image