"أولئك الذين انزعجوا من وجود قوات الدعم السريع في مروي والذين لم ينزعجوا من وجود الجيش والمخابرات المصرية داخل الأراضي السودانية في مروي طوال الأيام الماضية وحتى الآن، عليهم فحص سودانيتهم!".
هكذا علّقت صفحة "إثيوبيا بالعربي" على الأحداث الأخيرة في السودان واقتحام قوات الدعم السريع مطار مروي. تبني الصفحة سرديتها الأساسية على معاداة مصر وتشجيع الانتماء إلى المركزية الإفريقية التي تجمع شعوب إفريقيا السمراء، مستثنيةً الشمال الإفريقي.
يستدعي هذا طرح السؤال التالي: هل تشكل المركزية الإفريقية (الأفروسنتريسم) خطراً على مصر؟ الإجابة المباشرة والمختصرة هي نعم. فالمركزية الإفريقية خطر على مصر الحالية وليس فقط على صورة حضارة مصر القديمة، وهي خطر يتجاوز الجدل حول فيلم وثائقي وملامح ولون الملكة كليوباترا، وحقيقة مَن بنوا الأهرام، وهوية الملك توت عنخ آمون العرقية. فالخطورة هنا هي خطورة بمعناها الأمني أكثر منها بمعناها الثقافي.
البداية كأيديولوجيا مقاومة
حركة المركزية الإفريقية هي حركة ثقافية وسياسية أطلقها إفريقيون أمريكيون بالتعاون مع إفريقيين آخرين، وصيغت أسسها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي على يد عدد من الباحثين. لكن الدور الأبرز فيها لعبه الباحث والناشط الأمريكي من أصل إفريقي موليفي أسانتي.
تجادل الحركة بأن الثقافة الإفريقية بدأت في مصر القديمة التي كانت مهد الحضارة العالمية، وبأن مصر قادت إفريقيا السوداء الموحدة إلى أن أتى الغرب وسرق حضارتها السوداء ونسب إنجازاتها له.
وفقاً لهذه الرؤية، تؤكد المركزية الإفريقية أن الحضارة الإفريقية هي أصل الحضارات الإنسانية، من خلال مصر القديمة التي تشكلت حضارتها وفقاً لقيم ثقافية إفريقية روحانية، هي بطبيعتها في حالة تناقض مع القيم الأوروبية المادية.
وساهم المؤرخ والأنثروبولوجي السنغالي شيخ أنتا ديوب في إثراء الفكرة المركزية للحركة وكتب كتاب "الأصول الإفريقية للحضارة" متحدثاً فيه عن الطبيعة الإفريقية للحضارة المصرية و"سرقة" الأوروبيين للحضارة الإفريقية.
كما شدد المؤرخ الأمريكي من أصل إفريقي كارتر وودسون على تدريس التاريخ الإفريقي كأسلوب لمواجهة مشاعر الإذلال التي غرسها البيض في الأمريكيين السود عبر قرون من التبعية.
ظهرت مصر في جدلية المركزية الإفريقية كمحطة انطلاق لـ"الحضارة الإفريقية المسروقة" وحجر زاوية لدعم رؤيتها المقاوِمة للسيطرة البيضاء أو ما يعرف بـ"عبء الرجل الأبيض". وظهرت الحضارة المصرية القديمة كأداة من أدوات المقاومة التي استخدمها الأمريكي الأسود في مواجهة تاريخ الاستعباد. فمشروع المركزية الإفريقية ظهر في المجتمع الأمريكي كأيديولوجيا مقاومة، لكنه أخذ بعداً أكثر عدوانية حين وُظّف لتأطير الصراعات في إفريقيا نفسها.
أداة لتغذية صراع إفريقي- إفريقي
مثلما مارس الشمال الإفريقي عنصرية بدرجات متفاوتة ضد الجنوب، استُحضرت المركزية الإفريقية كأداة للتعبئة السياسية في مواجهات الشمال الإفريقي في إفريقيا جنوب الصحراء.
فعلى سبيل المثال، استخدمت النخب الإثيوبية المتتالية المركزية الإفريقية للتعبئة، سواء في القارة الإفريقية أو بين الشتات الإفريقي، لمشاريع إثيوبيا السياسية، من خلال الخلط بين إفريقيا كقارة متنوعة وإثيوبيا، أو والخلط بين المركزية الإفريقية والنزعة القومية الإثيوبية أو ما يمكن تسميته بـ"القومية السوداء"، رغم قمع الإمبراطورية الإثيوبية التاريخي لعرقيات سوداء أخرى اضطُهدت بشكل مركزي.
"المركزية الإفريقية خطر على مصر الحالية وليس فقط على صورة حضارة مصر القديمة، وهي خطر يتجاوز الجدل حول فيلم وثائقي وملامح ولون الملكة كليوباترا، وحقيقة مَن بنوا الأهرام، وهوية الملك توت عنخ آمون العرقية"
وصلت حركة المركزية الإفريقية إلى تناقضات عديدة أجبرتها على إعادة تفسير التاريخ بشكل مختلف عن التفسير السائد. أبرز هذه التناقضات كان علاقتها بمصر القديمة ومصر الحالية. فإذا كانت المركزية الإفريقية ترتكز على الحضارة المصرية كنقطة التقاء حضاري وعرقي للثقافة الإفريقية السوداء، فإن واقع مصر الحالية يناقض ذلك. ولحل هذه المعضلة، ظهر ادّعاء حدوث إحلال عظيم، استُبدل فيه المصريون الأفارقة بعرب وساميين غزاة.
في العام 1971، نشر السوسيولوجي الأمريكي من أصول إفريقية تشانسلر ويليامز كتابه "تدمير الحضارة الإفريقية"، وصار أحد النصوص التأسيسية لحركة المركزية الإفريقية. يُعتبر الكتاب نص صراعي انتقلت فيه المركزية الإفريقية من مرحلة مقاومة السردية الأوروبية إلى مرحلة استهداف أعراق غير أوروبية على أساس عنصري.
وصف ويليامز كيف حاول العرب، منذ عصر مصر القديمة، غزو إفريقيا، بينما قاوم النوبيون والإثيوبيون الجهود "العربية الآسيوية" لتدمير "المملكة المصرية السوداء" التي امتدت من شواطئ البحر الأبيض المتوسط إلى منبع النيل.
وذهب موليفي أسانتي خطوة أبعد في تغذية فكرة الصراع العرقي في إفريقيا الحالية وتعزيز الانقسام بين إفريقيا الشمال وإفريقيا الجنوب، إذ اعتبر أن حضارة مصر هي هبة إفريقيا السوداء لكن الشرق أوسطيين دمروها. وجادل أسانتي بأن "العرب بجهادهم، أو حروبهم المقدسة، عمدوا إلى تدمير الكثير من الثقافة [المصرية] القديمة".
قدّمت المركزية الإفريقية الأيديولوجيا اللازمة للصراع بين شمال إفريقيا وجنوبها، واستخدمت إثيوبيا القومية السوداء في صراعها للحشد ضد مصر في الصراع على النيل.
فعلى مستوى النخب الإثيوبية وعلى مستوى التناول الإعلامي، صُوِّرت مصر على أنها دولة لها مطامع استعمارية ضد شعب إفريقي يكافح من أجل التنمية.
وكانت الأخوة الإفريقية والمركزية الإفريقية حاضرتين في تيار سياسي سوداني يقدّم نفس الجدل العرقي حول المركزية الإفريقية والأصول الإفريقية (السوداء) للحضارة المصرية. وهنا ظهر لون البشرة والعرق كأداة للتحشيد المضاد لمصر من خلال خلق تاريخ "إفريقي" بديل للتاريخ المصري المحقق.
أنتج هذا التيار خطاباً صراعياً مع مصر، وتحت شعار "إثيوبيا يا أخت بلادي"، قُدّمت إثيوبيا كحليف أقرب عرقياً، ضد مصر. وفي الوقت الذي احتفت فيه صفحات سودانية على مواقع التواصل الاجتماعي بأساطير سرقة مصر لحضارة كوش ونسبتها لها، بل وسرقة ملوك كوش أنفسهم، تصاعدت نبرة الخطاب العدائي ضد مصر، وهو الخطاب الذي كان أحد محاور الانقسام بين النخب والقوى السودانية، بين قوى تتبنى خطاباً عدائياً ضد مصر وتحتفي بكتابات هامشية تفسر الحضارة المصرية بشكل بديل، وقوى تتبنى خطاباً تعاونياً.
"ترفض مصر مشروع المركزية الإفريقية لأنه، وبجانب بعده العنصري، يمثل تهديداً أمنياً يتنامى ضدها، لكن تكمن المخاوف في أن ينزلق خطاب مواجهة المركزية الإفريقية إلى خطاب عنصرية مضادة، يمتلئ بهلاوس التفوق العرقي والعنصري"
وتجلى ذلك في الصراع الأخير بين الجيش وقوات الدعم السريع، فقد مالت القوات المسلحة الرسمية إلى التعاون مع مصر إلى حد تبادل التدريبات العسكرية والمعلومات الاستخبارية، بينما تبنت قوات الدعم السريع خطاباً معادياً لمصر، الأمر الذي تطور إلى أسر جنود مصريين متواجدين في السودان، في إطار تنسيق بين البلدين.
لا يمكن القفز إلى استنتاج ساذج بأن موقف قوات الدعم السريع الحالي من مصر، ومن التنسيق العسكري معها، هو نتاج لخطاب المركزية الإفريقية، لكنه استثمار سياسي في أساطير المركزية الإفريقية المنتشرة بين قطاع من النخب السودانية لدعم موقف سياسي في صراع وصل إلى حد تبادل النيران في الشوارع. وفي هذا الإطار، اعتُبرت القوات المصرية في السودان قوات معتدية. وانفجرت المركزية الإفريقية بالفعل كتهديد أمني واضح ضد مصر في كل من إثيوبيا والسودان وظهرت تجليات حقيقية، وليست متخيلة، لهذا التهديد.
خلاصة
تظهر لمصر مصلحة مباشرة في مقاومة فكرة الاختطاف العرقي، خاصة أن الحضارة المصرية نفسها هي حضارة متعددة الأعراق ومتعددة الانتماءات الثقافية لأنها حضارة أمة تقع على الحدود الثقافية للحضارات المختلفة.
لا تظهر مصر على أنها بلد "نقي عرقياً" قائم على أي مركزية إثنية، بل تؤكد على تنوعها منذ بداية تأسيسها. فمصر بلد يقع على أحد نقاط التماس الثقافية والحضارية بين الشمال والجنوب، لها قدم في الجنوب وجسد في الشرق، وتعزلها الصحراء كحاجز طبيعي عن ثقافة إفريقيا جنوب الصحراء فتظهر بثقافة شرق أوسطية، لكنها مختلطة برياح البحر المتوسط، مع تأثير خافت لثقافة جنوب الصحراء. وأي محاولة لاختطاف هذا التنوع الذي شكّل مصر التاريخية يمثل خطورة على تشكيل الهوية المصرية متعددة الأبعاد.
ترفض مصر مشروع المركزية الإفريقية لأنه، وبجانب بعده العنصري، يمثل تهديداً أمنياً يتنامى ضدها، لكن تكمن المخاوف في أن ينزلق خطاب مواجهة المركزية الإفريقية إلى خطاب عنصرية مضادة، يمتلئ بهلاوس التفوق العرقي والعنصري.
على المصريين أن يدركوا الخيط الفاصل بين مقاومة المركزية الإفريقية كمشروع سياسي وأيديولوجي في حالة صراع مع مصر الحالية أو يمثل تهديداً لها، وبين إنتاج عنصرية مضادة تضعف وجودهم في إفريقيا وتعزز من النزعات المعادية لبلدهم.
تكمن قوة محاربة أي نوع من العنصرية في القدرة على إنتاج مشروع مضاد للتمييز العرقي والعنصري، يقوم على قبول التنوع والتعاون بين الشعوب والقبول باختلافاتنا التي تثري تعاوننا وتعزز تواصلنا كأنداد لا كتابعين ولا كأعداء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 21 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...