ما زال السودان يعيش أجواءً متوترةً للغاية، بسبب عدم حسم العديد من قضايا المرحلة الانتقالية التي بدأت منذ الإطاحة بعمر البشير، وتأتي على رأس تلك القضايا كيفية التعامل مع الحركات المسلحة المنتشرة في البلاد، وآليات تسوية الصراعات وإحلال السلم، ولكن تبقى الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن فتيل أزمة التمرد المسلح في السودان، قد اشتعل منذ عام 1955، في "توريت" في أقصى جنوب السودان، ولم ينتهِ حتى يومنا هذا، برغم عشرات المبادرات والاتفاقيات بين الفرقاء.
نشأة الحركات المسلحة في السودان
تعود أصول الظهور الأول للحركات المسلحة في السودان، إلى 18 آب/ أغسطس 1955، قبل عام من استقلال السودان، حينما تمرّد فيلق الاستوائية، الوحدة العسكرية المكونة من الجنوبيين في توريت، بدلاً من الانصياع لسلطات الحكومة السودانية، مما مهّد لبداية الحرب الأهلية السودانية. ومنذ نهاية العقد الخامس من القرن الماضي، ظل السودان يعيش حروباً أهليةً حصدت أرواح ملايين الأشخاص، وأجبرت الملايين على النزوح الداخلي، أو اللجوء إلى بلدان أخرى، بحثاً عن الأمان والاستقرار. وبرغم انحصار الحرب منذ عام 1955 في جنوب السودان، إلا أن نطاقها الجغرافي بدأ بالاتساع مع مطلع الألفية الحالية، ليشمل العديد من المناطق في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ووفقاً لتصريحات وزير الخارجية السوداني الأسبق إبراهيم طه أيوب، فإن قضية الحركات المسلحة في السودان تُعدّ "قضيةً مزمنةً"، مشيراً إلى أن تمدد السلاح إلى شرق البلاد وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، يعود للقصور على المستوى الوطني، بالإضافة إلى مطامع بعض الدول التي ترى أن وجود سودان مستقر وديمقراطي قد يسبب لها المتاعب، وأن السيطرة عليه لا تأتي إلا من خلال إضعافه وإشغاله بأوضاعه الداخلية.
بعد سبعين عاماً من الدم والخراب والتمرد، هل بإمكان السودانيين تجاوز ذلك الإرث اليوم؟
تطوّر الحركات المسلحة وانتشار السلاح
قبل سبعين عاماً تقريباً، لم تكن هناك سوى مجموعة مسلحة متمردة واحدة، عُرفت بقوات "أنانيا" الجنوبية، وقد خاضت حرباً ضد القوات الحكومية، حتى اتفاقية أديس أبابا عام 1972، للسلام، والتي توقفت الحرب بموجبها لمدة 10 سنوات، وتم استيعاب هذه القوات لتكون جزءاً من الجيش السوداني، ثم عادت تحت لافتة الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي خاضت حرباً ضد الحكومة السودانية منذ عام 1983، وانتهت بتوقيع اتفاقية السلام المعروفة باتفاقية "نيفاشا" (2005)، وبموجبها تم الاعتراف بقواتها التي تحمل اسم "الجيش الشعبي لتحرير السودان"، وتم استيعاب قادتها في الحكومة المركزية، ونال قائدها منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، وخلفه بعد رحيله رئيس جنوب السودان الحالي، سلفاكير ميارديت.
خلال عام 2003، تمرّد بعض أبناء إقليم دارفور، وكوّنوا حركتَين مسلحتَين (حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة)، وخاضت الحركتان حروباً ضد الجيش السوداني، قبل أن تنقسما إلى ثلاث حركات، ثم توالت الانشقاقات في هذه الحركات لتولد من رحمها عشرات المجموعات المسلحة، ولا يعرف أحد على وجه الدقة الأعداد الفعلية للمقاتلين في السودان، ولا عدد الأسلحة القتالية، بيد أن بعض التقديرات تشير إلى أن هناك أكثر من أربعة ملايين قطعة سلاح قتالية بيد المواطنين والمسلحين، في الوقت الذي تنهال فيه الأسلحة على البلاد من دول الجوار الملتهبة، وعلى وجه الخصوص ليبيا، التي يشارك في حربها مقاتلون سودانيون محسوبون على حركات مسلحة سودانية، يُنتظر أن تتم إعادتهم إلى البلاد بعد توقيع الاتفاقية الليبية. وتشير التقديرات إلى وجود أكثر من 87 حركةً مسلحةً في السودان، 84 منها في منطقة دارفور وحدها.
اتفاقيات سلام بلا جدوى
منذ مؤتمر المائدة المستديرة في جوبا عام 1965، والذي سعى إلى حل أزمة جنوب السودان في ظل اشتعال الحرب الأهلية المسلحة، لم تتوقف مساعي الهدنة واتفاقيات السلام ومؤتمراته التي تخاطب نزاعات وحركات مسلحة سودانية، كان أبرزها اتفاق السلام الذي تم توقيعه في أديس أبابا عام 1972، بين القوات المتمردة في جنوب السودان والحكومة السودانية، ونصّت الاتفاقية على وقف إطلاق النار بين الجانبين، وتشكيل مجلس للجنوب، وفي 20 آذار/ مارس 1986، برز إعلان كوكادام في إثيوبيا بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وغالبية أحزاب السودان السياسية، لوقف نزيف الدم الناتج عن الحرب في السودان، مطالباً الحكومة بإيقاف إطلاق النار ورفع حالة الطوارئ، ولكن المؤتمر فشل برفض الحكومة الاستجابة لهذه الشروط. وفي 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، وقّع في أديس أبابا، زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي الميرغني، مع قائد الحركة الشعبية جون قرنق، مبادرة السلام السودانية، التي سعت إلى إعلاء رابطة المواطنة على أي رابطة أخرى، وتجميد كل القوانين المنسوبة إلى الإسلام إلى حين البتّ في أمرها في مؤتمر قومي دستوري تشارك فيه كل القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية.
في نيسان/ أبريل 1989، أعدّت برعاية رئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي، أحزاب السودان كلها -باستثناء الجبهة القومية الإسلامية- ونقاباته كلها وممثلو قواته المسلحة، اتفاقاً عُرف باتفاق القصر، كان من أهم مقوماته نبذ الحرب وحل المشكلة السودانية سلمياً، والتأكيد على الاتفاقات السابقة مع الحركة الشعبية كلها. وفي العاصمة النيجيرية أبوجا بتاريخ 26 أيار/ مايو 1992، تم عقد المؤتمر الأول بين الحكومة السودانية وفصائل الجنوب ووفد مجموعة الناصر المنشقة عن الحركة الشعبية، ونص المؤتمر على تشكيل لجنة مشتركة لتوزيع الدخل العام للدولة، وإعادة بناء المناطق التي دمرتها الحرب وحلّ مشكلات المهجرين واللاجئين، وبعدها بعام تمت إقامة المؤتمر الثاني في نيجيريا، سعياً إلى وقف إطلاق النار والتأكيد على استمرار الحوار في قضية الدين والدولة، وانتهى المؤتمر برفض جون قرنق التوقيع على البيان الختامي.
في الوقت الذي رفعت فيه الحركات المسلحة راية محاربة الفساد، كانت هي من أبرز أسباب إفقار السودان
استمرار النهج المسلّح
وتوالت المبادرات والاتفاقيات تباعاً في ظل استمرار النهج المسلّح، وتزايد الحركات المسلحة، وظهر إعلان مبادئ دول إيغاد الذي رفضت حكومة الإنقاذ التوقيع عليه عام 1994، متحفظةً على فصل الدين عن الدولة، ثم مؤتمر العاصمة الإريترية أسمرا للقضايا المصيرية عام 1995، وقد ناقش المؤتمر قضية "المناطق المهمشة" وإمكانية بحث أجندة سياسية واقتصادية تقلّص هيمنة الخرطوم الإدارية على هذه المناطق، وسُمح للجنوب بحق تقرير مصيره، واتفاقية الخرطوم للسلام 1997، وإعلان طرابلس (ليبيا 1999)، الذي طالب الأطراف (الحكومة والمعارضة)، بالوقف الفوري للعمليات العسكرية والحملات الإعلامية المتبادلة والشروع في حوار مباشر للتوصل إلى حل سياسي شامل، والمبادرة المصرية-الليبية المشتركة (2001)، والتي انتهت إلى وقف العمليات العسكرية. وفي 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، وقّعت الحكومة السودانية وحركة الجيش الشعبي لتحرير السودان في مشاكوس في كينيا، على وثيقة تقضي بتمديد الهدنة القائمة حتى نهاية آذار/ مارس 2003، ثم اتفاق وقف إطلاق النار في جبال النوبة (2002)، ثم مذكرة "ناكورو" (2003)، التي رفضتها الحكومة وعدّتها غير منصفة وتهدم ما بنته المفاوضات على مدى عام كامل، في حين قبلتها الحركة الشعبية لتحرير السودان.
ثم شكلت اتفاقية "أبشي" (2003)، أولى محاولات وقف إطلاق النار في دارفور، مع بروز بداية الأزمة في الإقليم، ثم اتفاقيات القاهرة (2005)، بين حكومة الوحدة الوطنية المكوّنة من الحركة الشعبية لتحرير السودان، والمشير عمر البشير وحزب المؤتمر الوطني والطرف الآخر التجمع الوطني الديمقراطي الذي انطوت تحته حركات التمرد المسلحة كافة، واتفاقية نيفاشا (2005)، التي أوقفت أطول حرب أهلية عرفتها القارة السمراء، واتفاقية أبوجا (2006)، التي سعت إلى نزع السلاح وتسريح الميليشيات ودمج عدد من المسلحين في القوات المسلحة السودانية، واتفاقية أسمرا (2006)، التي تم توقيعها بين حكومة السودان وجبهة شرق السودان في العاصمة الإريترية أسمرا، تحت رعاية الحكومة الإريترية، وأنهى الاتفاق ثلاثة عشر عاماً من العمل المسلح على الحدود الشرقية للبلاد، واتفاقية أبوجا لسلام دارفور (2011)، التي نصت على تقاسم السلطة وإنشاء صندوق لضحايا نزاع دارفور، والاتفاق الإطاري نافع-عقار (2011) وإعلان باريس بين الجبهة الثورية وحزب الأمة (2014)، الذي التزمت خلاله الجبهة الثورية بوقف الاعتداءات في جميع مناطق العمليات لمعالجة الأزمة الإنسانية، وبدء إجراءات صحيحة للحوار والعملية الدستورية، واتفاق نداء السودان (2015)، الذي قام بتشكيل تحالف أسسته قوى سياسية عسكرية ومدنية معارضة من مشارب مختلفة يهدف إلى حل الأزمة السودانية وتشكيل حكومة مؤقتة لإدارة مهام الفترة الانتقالية، وخريطة الطريق الإفريقية (2016)، التي تضمنت رؤى ومراحل لإحلال السلام في كل من دارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وأخيراً اتفاق جوبا لسلام السودان الموقع في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، بين غالبية المتحاربين، وغاب عنه طرفان مسلحان رئيسيان! ومع توقيع كل تلك الاتفاقيات التي يرتبط معظمها بحركات دارفور، نجد في الوقت نفسه ازدياداً كبيراً في الحركات الحاملة للسلاح في دارفور التي كان عددها عند اندلاع النزاع في الإقليم حركتين فقط!
الاقتصاد يدفع الثمن
يقول المحلل السياسي السوداني منعم سليمان، في تصريحات لرصيف22، إن وجود الحركات المسلحة وظاهرة انتشار السلاح في السودان، قد أثّر سلباً على البلاد وعلى الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيها، وقد أدت هذه الأحداث إلى تفكك الأمن والاستقرار في المناطق المتضررة وتحولت بعض الأماكن إلى مناطق خاضعة لسيطرة الجماعات المسلحة، مما أدى إلى تدهور الوضع الإنساني وانعدام الثقة بالحكومة ونظام القانون، ومن المهم أن تعمل الحكومة السودانية والجماعات المسلحة على إيجاد حلول سلمية للنزاعات والخلافات بما يضمن الاستقرار والأمن والسلم في البلاد. بينما يرى الناشط السياسي السوداني حسن قسم، في تصريحات لرصيف22، أن الأزمة تكمن في أن الحديث لا يرتبط بشكل محدد عن قضايا الحرب في مناطق النزاع والتعويضات المرتبطة بالأراضي ومستقبل المسلحين أنفسهم المتصل بالتسريح وإعادة الدمج، وهو ما يمثل عقبةً في مسار الوصول إلى اتفاق سياسي شامل يضمن تفكيك كل الحركات المسلحة والعودة إلى النضال السلمي بعيداً عن لغة العنف والسلاح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين