يُعدّ السودان منجماً للمفارقات، وأرضاً خصبةً لتوفير المادة القادرة على جذب أجهزة الإعلام. آخر ما رشح في هذا الخصوص، ما نقلته صحيفة الغارديان البريطانية، عن صدور حكم بقطع أيدي 3 سودانيين أُدينوا بالسرقة، وصدر ضدهم حكم بقطع اليد من الرسغ، تنفيذاً للقانون الجنائي المستقاة نصوصه من أحكام الشريعة الإسلامية.
وتكمن المفارقة في الحكم والأحكام النظيرة ضمن باب العقوبات الواردة في أحكام الشريعة الإسلامية، أنها تجيء عقب حقبة نظام المعزول البشير، ذي التوجهات الإسلامية، وفي ظل سلطة تدعم التطبيع مع إسرائيل، وتضرب بعرض الحائط تقارير عن تهريب الذهب بمليارات الدولارات إلى روسيا لتدعيم خزينتها ومساعداتها في تغطية تكاليف غزو أوكرانيا.
وللتذكير، فقد أطاح قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان، بشركائه المدنيين في الحكومة الانتقالية، ونصّب العسكر حكاماً للبلاد، منذ 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
وقائع الحكم العبثي
جاء في الخبر الذي أوردته الغارديان، أن قضاةً محليين في السودان، أصدروا أحكاماً بقطع اليد وغرامة تعادل 3 آلاف جنيه إسترليني، ضد ثلاثة شبان في العشرينات من العمر، بتهمة سرقة أسطوانات غاز الطهي، في منطقة أم درمان غرب العاصمة السودانية.
وحذرت الصحيفة من أن تطبيق عقوبات قطع الأيدي وبترها يثير مخاوف كثيرين بشأن "عودة تطرف الدولة".
وعلى سيرة التطرف، تحضر ذكرى عقود نظام البشير الكالحة، وخلالها صدرت أحكام بالردة، والزنا، والسرقة ضد كثيرين، وإن أُسقطت جريمة الارتداد والزنا الموجبة للرجم في مراحل الاستئناف، فإن مدانين في قضايا أخرى لم يكن الحظ حليفهم، وواجهوا آلة القتل وقطع الأيدي والأرجل والجلد تطبيقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، أو للمعاقبة على جريمة الحرابة التي شملت كافة المتمردين على سلطان الدولة وقتذاك، فيما تفشى الجَلْد في قضايا تعاطي الخمور والمخدرات، وفي جرائم الدعارة، وصولاً إلى الحفلات المختلطة وما يعدّه منفّذ القانون أزياءً فاضحةً لدى النسوة، تشمل ارتداء البنطال.
التساؤل هنا حول مدى تأثير الأوضاع السياسية على تطبيق الاحدود الشرعية
تأثيرات متشابكة
التساؤل الذي ربما لم يخطر على بال كثيرين، مرتبط بمدى تأثير الأوضاع السياسية على أحكام القطع التي صدرت ضد الشبان الثلاثة.
ولكن هذا التأثير يمكن قياسه من زاويا عدة، على رأسها حالة الفراغ والأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، إذ فشل القادة العسكريون في تكوين ولو حكومة واحدة قادرة على تولي مقاليد الحكم في البلاد.
واستحكمت الأزمة السياسية كذلك، جرّاء استمرار الاحتجاجات المطالِبة بالحكم المدني، بالتوازي مع الضغوط الدولية لإنهاء ما يوصف بالانقلاب، ما حمل العسكر على الرضوخ مؤخراً، والانخراط في مفاوضات مع قوى مدنية رئيسة، بهدف إعادة السلطة المدنية، وضمان خروجهم –أي العسكر- من المشهد السياسي.
ولقراءة هذا الواقع السياسي مع أحكام البتر، يرى المحامي ياسر شيخ الدين، أن استيلاء الجيش على السلطة، قطع الطريق أمام الإصلاحات القانونية التي بادرت إليها الحكومة المدنية المعزولة لمواءمة القوانين المحلية مع المعاهدات والمواثيق الدولية.
وأشار شيخ الدين في حديثه لرصيف22، إلى تمرير السلطات المعزولة مشاريع قوانين متنوعة تهدف إلى موائمة القانون الجنائي السوداني لسنة 1991، مع القوانين والمعاهدات الدولية.
وتضمنت التعديلات إلغاء حد الردة الذي كان يُستخدم ضد المجددين، وإباحة شرب الخمر لغير المسلمين، والسماح للزوجات -خاصةً المنفصلات- بالسفر مع الأبناء إلى خارج البلاد من دون انتظار موافقة الزوج أو من ينوب عنه، فضلاً عن إلغاء عقوبة الجلد إلا في جرائم الحدود وجرائم القصاص، هذا بالتوازي مع المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، وبروز اتجاه لإلغاء عقوبة الإعدام.
وبرغم إبقاء التعديل المقترح على جرائم الحدود في القانون، يقول شيخ الدين إن عمليات المواءمة التي بدأت يومذاك، كانت كفيلةً بإفراغ هذه المواد من مضمونها بشكل عملي.
وعاد وأعرب عن تمنياته لو تم إلغاء هذه المواد مباشرةً، من دون الانشغال بردات فعل رجال الدين والتيارات الإسلامية والمحافظة في المجتمع.
تساؤلات مشروعة
إجابات شيخ الدين هذه، تنقلنا إلى مستوى ثانٍ من التساؤلات، عن سر عدم إلغاء العسكر لهذه المواد القادرة على تبييض جزء من صحيفتهم الحقوقية؟
هذا الأمر أحلناه إلى الناشط الحقوقي عزّام حامد، الذي يرى أن العسكر حريصون على إبقاء كافة قوانين القهر والكبت، ضمن محاولاتهم لكسر إرادة السودانيين.
وقال لرصيف22، إن العسكر كثيراً ما وقفوا ضد كل محاولات إصلاح المنظومة العدلية الموروثة عن نظام البشير العسكري، ويظهر ذلك جلياً في كثير من القرارات التي تم اتخاذها في حقبة المدنيين، وجرى إبطالها بمجرد استيلاء الجيش على السلطة.
ولفت عزام إلى المعاناة الناجمة عن غياب مستوى قضائي مهم متمثل في المحكمة الدستورية بسبب تعنّت العسكر، بالرغم من الآثار الوخيمة التي يفرضها هذا الغياب لأحد أهم مراحل الاستئناف، ما نجم عنه تعطل أحكام عديدة بالإعدام صادرة ضد مرتكبي الانتهاكات إبان الحراك الذي أطاح بالبشير، ومن بينهم عناصر في الأجهزة الأمنية.
عقوبات لا غايات
من مشكلات القوانين السودانية على الدوام، نظرتها إلى القانون على أنه وسيلة للعقاب، وليس طريقةً للإصلاح والتهذيب والردع.
ولأجل هذا تغيب الغايات الكبرى، فمثلاً لتطبيق عقوبة السرقة، في الشريعة الإسلامية، يُشترط النصاب، وألا تكون السرقة لأغراض درء الجوع والحاجة.
فهل يعيش السودانيون في أوضاع اقتصادية جيدة؟ الإجابة بكل تأكيد هي لا مغلّظة، إذ يأتي الحكم على الشبان الثلاثة في زمان استيلاء الجيش على السلطة بطريقة جمّدت الخطوات التي بادرت إليها الحكومة المدنية لإعادة الاقتصاد المحلي إلى المنظومة الدولية، بدايةً بالإعفاء من الدين الخارجي المقدّر بنحو 60 مليار دولار.
لا ينتهي الأمر عند هذه النقطة، فالخزينة العامة خسرت مليارات الدولارات التي خصصتها المؤسسات والدول المانحة لدعم المرحلة الانتقالية، وعند قراءة ذلك مع عودة سوء إدارة موارد الدولة بما في ذلك الذهب الذي يهرّب بشكل مخيف، بديهي أن يظهر الكساد، وتتراجع العملة المحلية، وتتآكل الأجور، وتتفشى الإضرابات العمالية.
فهل هذا وقت مناسب لتطبيق حد السرقة؟ سؤال طرحناه على رجل الدين، ميسرة عثمان، فأكد أن الظرف الحالي لا يسمح بتطبيق حد السرقة، تأسّياً بتعطيل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إياه في عام الرمادة.
بيد أنه عاد وقال لرصيف22، بتمسكه بإبقاء قوانين الشريعة، وإعمال الحدود بعد استيفاء كافة المقاصد.
التجربة تقول إن عسكر السودان يخافون الغرب، أما بالنسبة لنا فهم الورعون المسؤولون عن تطبيق شرع الله.
تباين
ينظر المجتمع السوداني بتباين إلى قضية عقوبة الحدود، فحسن حمد (مزارع)، يعتقد بأن تطبيق حد القطع ضد السارقين، لا محالة سيسهم في خفض معدلات الجريمة، خاصةً جرائم النهب عبر الدراجات النارية المعروفة شعبياً بـ"9 طويلة"، بينما تطالب مشاعر موسى، بإلغاء كافة العقوبات القاسية، خاصةً في ظل السلطة الحالية التي أوصلت إلى أن يكون ثلث السودانيين طبقاً للأمم المتحدة في حاجة إلى المساعدات، فيما تُوجَّه موارد الدولة القليلة إلى قمع المتظاهرين السلميين، مع تخصيص 25% فقط من الموازنة العامة لقطاعي الصحة والتعليم مجتمعين.
التناقض
في عهد الجنرال البشير، ألغت محكمة محلية حكم الردة ضد طبيبة بعد إدانات غربية واسعة للحكم، وفي عهد الجنرال البرهان، ألغت محكمة ثانية حكماً برجم سيدة بتهمة الزنا بعدما تلقفت أجهزة الإعلام الخارجي القضية، وعلى هذا النسق نأمل بأن تنتهي قضية الشبان الثلاثة الذين تداولت قصتهم الغارديان، فالتجربة تقول إن عسكر السودان يخافون الغرب، أما بالنسبة لنا فهم الورعون المسؤولون عن تطبيق شرع الله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون