هذه أول مرة أكتب فيها عن فنان أو فنانة. ربما لأن الفنانين يجدون من يقول لهم ما فيهم وما ليس فيهم، ولأنهم يحصدون من المجد والشهرة ما يجعلهم في غنى عمّا سيقول كاتب أو باحث عنهم، خصوصاً عندما يكون الواحد منهم في عزّ مجده وزهوه.
وربما هو الكبرياء. كبرياء الكاتب الذي يمنعه أحياناً أن يقف موقف الجمهور المعجب، يقول ما يقولون ويفعل ما يفعلون. لكنني، رغم هذا، لم أستطع الامتناع عن كتابة هذا المقال. والكتابة ما هي إلا ما حاولت مراراً الامتناع عن قوله فلم تستطع.
أربعة أسباب أحبّ لأجلها أنغام، أوّلها أننا كبرنا معاً. صوتها المولود كبيراً كبر هو الآخر معنا. ملامحها من المراهقة إلى الصبا إلى النضوج. بدايتها الفنيّة العائلية، تمرّدها، تجاربها، نضج صوتها واكتشافها خصوصيته ومواطن ألقه. أستطيع أن أتذكر متى انتبهت أنغام إلى أن سلطان صوتها في حساسيته لا في قوته. أستطيع أن أرسم خطاً زمنياً لمراحل اكتشافها صوتها واختبارها لأبعاده، حتى عثرت عليه خالصاً ناصعاً لا مستعاراً ولا ملتبساً. وأستطيع، صحبة هذا الخط الزمني، أن أؤرّخ لحياتي بسنوات صدور ألبوماتها تحديداً وانعطافاتها الفنيّة، إن جاز استخدام كلمة "انعطافات". ربما أصبح الزمن هلامياً في عصر الأغنية المنفردة، لكنني حتما أملك تاريخاً شخصياً حدث بالتوازي مع تاريخها الغنائي وارتبط به في مواضع عدّة. أنغام قريبتي من بعيد، أعرف أبويها وعمّها وأقربائها، معرفة الألفة لا التلصّص والتّتبع الباباراتزيّ.
صوت أنغام المولود كبيراً، كبر هو الآخر معنا. ملامحها من المراهقة إلى الصبا إلى النضوج. بدايتها الفنيّة العائلية، تمرّدها، تجاربها، نضج صوتها واكتشافها خصوصيته ومواطن ألقه
ثانيها، أن نجاحها وحضورها يمنح ذوقي شرعية وجود إضافية، وأعني بذلك عامل الزمن على وجه التحديد. إن نجاح أنغام يعني أنني وجيلي وسط التحولات الموسيقية الهائلة لم نصبح بعد جيل "أنتيكة" ينتمي إلى الماضي، ويعني أن ما أحب لايزال يهم ويؤثر ويسهم في تشكيل خارطة الحفلات الموسيقية والتلفزيونية والفضاء الإلكتروني وأعداد المشاهدات/الاستماع وسواها. إن نجاح أنغام واستمرارها في حصد اهتمام أجيال فأجيال يجعلني أشعر بأن ذوقي الموسيقي لا يزال شاباً، وأنني لم أمضِ بأغنياتي وتاريخي وتفضيلاتي نحو خانة الأرشيف، وإن كنت أحب التظاهر بأن هذا لا يعنيني.
ثالثها، غناؤها الأغنية الخليجية. لقد غنّت "أمّ عمر" الأغنية الخليجية قبل أن تصبح الأغنية الخليجية محلّ رواج، وقبل أن تُفتتح الفضائيات الخليجية وتُقام المهرجانات الفنية الخليجية التي صار يحسب لها كثير من الفنانين حسبة تجارية في اختيار الأغنيات، تشبيك العلاقات وحتى في اتخاذ المواقف السياسية.
أنغام غنّت الخليجي قبل أن يصبح اللون الخليجي له حسابات تجاريّة. غنّته لأنها فهمته وأحبّته ولأنها فنانة. وهي -أم عمر- تعرف أنها تحصد هذا الحب حبّا خالصاً ومختلفاً عن أي مطربة عربية غنّت وتغنّي هذا اللون. وهي إذ تنادى بأم عمر، فإن هويتها يضاف إليها بعداً خليجياً محلياً، يشعر معه الواحد منّا أنها تنتمي إلى الخليج، وابنته تماماً، كما هي ابنة مصر، ولا فرق. بُعدٌ لا يقصد منه الاستحواذ وإنما الترحاب والقبول.
رابعها، أنها تغني ما تحبّ. تقول أنغام في حوار تلفزيوني: "أحب هذا الجمهور لأن ذوقه في الموسيقى مثل ذوقي"، ولا تدري إذ تقول هذا كم انشرح قلبي. لم تحمّلنا أنغام مسؤولية اختياراتها الفنيّة وما يتبعها من نجاح أو عدمه. لم تقل لنا متأفّفة: "الجمهور عايز كده". بقولها هذا تخرج أنغام من دائرة الابتزاز العاطفي التي يسوقها كثير من المطربين باعتبار أنهم مضطرون للانجرار إلى ذوق العامة الرديء أو التجاريّ.
غنِّي يا صديقتي، غنِّي يا أم عمر حتى نجد أغنيات طازجة تشبهنا، وحتى لا تنتهي دهشتنا بالجديد ونصبح ماضياً. غنِّي، لايزال أمامنا الكثير من الحب، والدّموع، والرقص
تختار أنغام أغانيها وتقول بشجاعة: "هذا هو ذوقي". ويكون التقاء ذوقها بذوق الجمهور، لقاء نديّة لا تبعيّة. إنها إذن لا تتبع بالأساس مفهوم "النزول إلى العوام" ولا جمعهم جمع القطيع الذي تستند إليه لعبة المشاهدات والأرقام. إنها تلتقيهم على حب شيء من الموسيقى واتفاق ذوقين.
وفي الشجاعة أيضاً، أحب في أنغام أنها تحمّلت وتتحمّل وحدها مسؤولية انكساراتها، ولا تجعل جمهورها مسؤولاً، لا عن انتقادها ولا الدفاع عنها. لا أطلب من أنغام أن تكون صنما ولا تمثالاً يقوم جمهورها بتلميعه، وإلا يكون فهمي ناقصاً لطبيعة الفنان، وحساسية روحه وهشاشته التي هي سرّ قوته بالأساس. للفنان الحق في السقوط والتعب والتمرّد، لكنني لا أشعر مع هذا بأنني ثقل وأني، كجمهور، عبء عليها، لا في اختياراتها الفنية ولا في حياتها الشخصية. علاقتي بأنغام، لو اعتبرت ما بيننا علاقة، مريحة ولطيفة ووثيقة لدرجة لا أشعر معها أنني ينقصني شيء. لا أشعر أنني أريد أن أعرف المزيد أو أتتبع من حياتها ما لا يعنيني، عدا أن تكون بخير. إن ما تمنحني إياه من موسيقى وأغنيات ولحظات على المسرح أو عبر المنصّات مشبع وكافٍ.
غنِّي يا صديقتي، غنِّي يا أم عمر حتى نجد أغنيات طازجة تشبهنا، وحتى لا تنتهي دهشتنا بالجديد ونصبح ماضياً. غنِّي، لايزال أمامنا الكثير من الحب، والدّموع، والرقص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...