استيقظ السودانيون السبت، على أسوأ كوابيسهم إطلاقاً، بتحول الحروب الكلامية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، إلى مواجهات عسكرية داخل العاصمة والولايات، من دون وضع أي اعتبار لحياة آلاف المدنيين السلميين، وبلا شك دون مراعاة لحرمة شهر رمضان عند المسلمين.
ولجأ الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، لاستخدام سلاح الطيران والآليات الثقيلة لمهاجمة مقار قوات الدعم السريع في الخرطوم، وهو أمر ردت عليه القوة التي يتزعمها الجنرال محمد حمدان (حميدتي) بمهاجمة مقر إقامة البرهان، والقيادة العامة للجيش، ومطارات العاصمة الخرطوم، ومروي شماليّ البلاد، والأبيض غربي السودان. ومع خلو شوارع الخرطوم من المارة، ادعى كل طرف سيطرته على الأوضاع الأمنية، وبأنه على مقربة من حسم المعركة عسكرياً.
خلفية الأزمة
قبيل انطلاق الرصاصة الأولى، وصلت الأمور إلى ذروة تصاعدها بإرسال قوات الدعم السريع لرتل من السيارات المحملة بالجنود إلى محيط مطار مروي، ثاني أكبر المطارات في البلاد، وهو أمر عارضه الجيش، مطالباً بعودة قوات حميدتي أدراجها.
ولكن وصولنا إلى تلك النقطة، بدأ في نهايات العام الماضي، بعد تفجر الخلافات بين الطرفين جراء تباين مواقفهما من عملية سياسية تستهدف إنهاء الأزمة السياسية التي دخلتها البلاد، بعد إطاحة العسكر بالحكومة الانتقالية المعزولة بقيادة المدنيين في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
مع خلو شوارع الخرطوم من المارة، ادعى كل طرف سيطرته على الأوضاع الأمنية، وبأنه على مقربة من حسم المعركة عسكرياً.
الأوضاع بالعاصمة
كل طرف يؤكد بسط نفوذه وقدرته على حسم المعركة عسكرياً، مع أن حروب الشوارع لا تحسم بيسر، وحتى ساعة كتابة التقرير كان دوي المدافع وزخات الرصاص يصل مسامعنا بين كل فينة وأخرى.
وتأكدت أنباء وفاة مواطنين وسقوط عشرات المصابين في الخرطوم، بحسب مصادر طبية في مستشفى بشائر جنوبيّ العاصمة، بينما قتل 6 مدنيين على الأقل في مواجهات الطرفين حول محيط مدينة الأبيض غربي السودان.
ولكن المهم الآن: إلى أين تتجه الأمور؟ وما هي التداعيات السياسية والأمنية والاجتماعية لهذا الصراع غير المسبوق في السودان؟
السيناريو العسكري
رغم أحاديث الحسم، أكد البرهان وحميدتي في مكالمتين منفصلتين مع قناة الجزيرة، إمكانية استمرار الحرب لأجل غير مسمى.
البرهان قال بإمكانية استدعاء قوات من خارج الخرطوم لمساندة الجيش في معركة الخرطوم، وفي المقابل يقول حميدتي إن السلاح الكثيف عند الطرفين، ومحاذير المواجهة في مناطق مأهولة بالسكان، يزيدان من صعوبة إنهاء المعركة في وقت سريع.
ويمتلك الجيش قوات وعتاداً ضخماً موزعاً بين العاصمة والأقاليم، ولكن اللجوء إلى هذا الخيار يجعل بقية المدن مكشوفة الظهر أمام تحركات الدعم السريع، كما أن المدرعات والأسلحة الثقيلة التي يملكها الجيش لن تكون بحال خياراً واقعياً في حروب المدن، هذا إلا أن أردنا مجزرة بشرية.
ومن الواضح أن الجيش يراهن حالياً على الخبرة الكبيرة لعناصره، وتشمل القتال لعقود في حروب أهلية عديدة، وذلك لحسم موقعة الخرطوم التي تضم أكبر مقرات الدعم السريع، ومن ثم يمكن التحرك بشكل تدريجي نواحي بقية المناطق والولايات.
في المقابل، فإن الدعم السريع تمتاز بامتلاكها قوات رشيقة، تتحرك بعربات الدفع الرباعي، ما يعني سرعة الانتشار، وقدرة على شن هجومات متكررة، ومرونة قتالية أكبر في ميدان المعركة. ولكن تلك القوات ستكون لقمة سائقة في حال حدوث مواجهات بينها وبين سلاحيِّ الطيران والمدرعات الخاصين بالجيش.
لكن كل الخشية أن يستدعي عناصر الدعم السريع، إرثهم كامتداد لمليشيا الجنجويد التي روعت الأهالي في دارفور خلال الفترة الممتدة بين 2003 – 2008، بممارسة ترويع المدنيين، واستخدامهم كسواتر بشرية في حال مالت كفة الموازين لصالح الجيش.
وأعطيت قوات الدعم السريع الصفة الرسمية في العام 2017، وهي تضم ما يزيد عن 100 ألف مقاتل منتشرين بين مدن السودان المختلفة.
لماذا تتهم قوات الدعم السريع الجيش بمنح القوات المصرية قاعدة عسكرية في مروي، مزودة بطائرات حربية؟
بدا واضحاً خلال الساعات الأولى للقتال، حرص قوات الدعم السريع على مهاجمة المطارات، على أمل تحييد سلاح الطيران خلال المعركة الجارية.
ويقول حميدتي إنه نجح بالفعل في إبطال مفعول هذا السلاح، بتدميره للطائرات العسكرية في مطارات الخرطوم ومروي والأبيض، وذلك أمر كذّبه الجيش بالقول إن سلاح الجو يعمل بفاعلية، وبواسطته قصفت مقار الدعم السريع بالطيران، ما مهد للمشاة طريق الاستيلاء عليها.
ولحين انجلاء الحقيقة، فإن وجود طائرات حربية في يد الجيش، يعطيه نقطة تفوق كبيرة، ولكن تدمير ذلك الأسطول يعني إحداث توازن للقوى على الأرض.
حكاية مصر
الحديث عن سلاح الطيران، يقودنا مباشرة إلى ما جرى ويجري في مروي.
فحين حرك حميدتي قواته نواحي مطار المدينة الواقعة شمالي السودان، قبل أيام، قال إن ذلك ضمن عملية انتشار اعتيادية، لكنه اليوم أفصح عن السبب الحقيقي لمهاجمتهم بالتزامن لعدة مطارات، وهو إخراج سلاح الطيران من المواجهة المسلحة.
وتتهم قوات الدعم السريع الجيش بمنح القوات المصرية قاعدة عسكرية في مروي، مزودة بطائرات حربية.
وغير ما مرة أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مساندته للجيش السوداني في سياق رفضه للمليشيات التي تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة والإقليم.
ورغم نفي الجيش المتكرر لوجود قوات مصرية في مروي، إلا أن كيانات أهلية في المنطقة أعلنت رفضها لما تصفه بالتفريط في السيادة، والاحتلال المصري لمطار المدينة، الذي احتضن في وقت سابق عدة مناورات مشتركة، قيل وقتها إنها رسالة إلى إثيوبيا المستمرة في بناء سد النهضة، رغم اعتراضات الخرطوم والقاهرة.
لكن أي تدخل لسلاح الجو المصري، وإن كان في صالح الجيش، سيكون مدخلاً لتدويل غير حميد للصراع السوداني.
أخطر ما في هذه الحرب على الإطلاق، أنها ستزيد من حدة الاستقطاب القبلي والجهوي في السودان
المترتبات السياسية
هناك حقيقتان سياسيتان إزاء المعركة الجارية بين الجيش والدعم السريع، الأولى بصعوبة إن لم يكن استحالة حمل الطرفين المتقاتلين على الجلوس في طاولة حوار مشترك.
ظهور حميدتي في قناة الجزيرة، يصف البرهان بالمجرم والخائن والفاسد، ستجعل الشخصي يطغى على كل جهد سياسي، فما بالك بأن كل حواراتي مع عناصر الجيش كان مفادها أمر واحد، أن يتم إدماج قوات حميدتي في الجيش، طواعية أو كرهاً. والحقيقة الثانية تقول بأن الاتفاق الإطاري الممهد لنقل السلطة للمدنيين، قد ولى وعفا عليه الزمن.
فالبلاد ستكون -حتى وإن توقفت الحرب- في ظروف معقدة وجديدة تماماً، تنطوي على تغيير كبير في موازين القوى، مع ميل لصالح الطرف المسيطر وقتذاك، وعليه ليس من المتوقع أن يعيد العسكريون الأمانة للمدنيين بدعوى الحفاظ على استدامة الأمن شديد الهشاشة.
وعليه، فأحاديث حميدتي بشأن تحركات قواته، على أنها لحماية انتقال مدني ديمقراطي مزمع في البلاد، يمكن أن تكون في هذا التوقيت كلمة حق أريد بها باطل، لإظهار الجيش على أنه حامٍ للديكتاتورية.
أما البرهان فلم يبدِ أصلاً حماسة تجاه الاتفاق الإطاري، وعليه سيكون الوضع الجديد فرصة سانحة لنكوصه عن بنوده، والقيام بالإصلاحات العسكرية وفقاً لرؤى الجيش وقياداته.
الآثار الاجتماعية
أخطر ما في هذه الحرب على الإطلاق، أنها ستزيد من حدة الاستقطاب القبلي والجهوي في السودان، إذ من المتوقع أن تصطف قوى الهامش التي عانت من ويلات الحروب إلى جانب حميدتي، باعتباره ممثلاً لإقليم دارفور الذي عانى لعقود من سياسات الحكومة المركزية في الخرطوم، بما في ذلك 2.5 مليون ضحية جراء الحروب التي شنها الجيش في الإقليم.
في المقابل، تناصر مجتمعات الشمال النيلي البرهان، باعتباره مدافعاً عن حقهم في الأمن ضد ميليشيا تعمل على نقل الحرب من دارفور إلى الخرطوم وبقية مدن الشمال الآمنة طيلة عقود.
ومن ثم ضف إلى قائمة التداعيات، أن الخرطوم لن تكون بعدها بخير، حيث ستكثر تحركات "الذئاب المنفردة" لقوات الطرفين في سياق عمليات الانتقام، كما ستتحرك عصابات الإجرام مستغلة السيولة الأمنية، وستتضاعف أسعار السلع بشكل غير مسبوق طالما هناك طائفة تعرف بـ"تجار ولوردات الحرب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين